هنري الصغير!

2020-07-02

عبدالناصر مجلي*

 

النجمة الكبيرة التي تتوسط صدره بسلسلتها الضخمة المعلقة على رقبته السوداء النحيلة، جعلته يبدو كما لو كان مشعوذاً مع قصّةْ شعره القادمة من الخلف إلى الأمام
- أنظر من يركب هذه الموستنج؟!
- زنجي ابن عاهرة!!
- أعرفه جيداً فقد كان مساح أحذية يقف أمام الحانات!
"اقذفها عالياً يا هنري لتحصل على نقطتين رائعتين"، كان ينطلق بطوله الفارع والقاعة تضج بالتصفيق "أوه كم هو بارع"، ويضع الكرة في السلّة العالية، لكنه كان يعود وحده بلا رفاق، تتساقط على مسامعه صرخات الإعجاب..."يا إلهي...أنظري، إنّه ينقض على الكرة مثل الوحش", "يا لعينيه الساحرتين"، يركض بعيداً عن كل ما يصادفه ويهز كتفيه هازئاً ويمضي للبحث عن لقمته مثل جندي مجهول، إبن أم مفرطة البدانة ولا أب له، ولا أنسى أنه كان عندما يرى شخصاً متجهم الوجه يلمزني بكوعه ساخراً "أنظر..لعله أبي". في تلك الأيام كنت ألحظ علامات الإرهاق على وجهه الأسود، وكان سريع التأثر، يبكي لأتفه الأسباب، بالطبع لم نكن نحن الذين نصنع له أسباب بكائه، فمن ذا الذي يجرؤ على ذلك، ولكنها والدته تلك المرأة البدينة التي تشرب سبعة ليترات من البيرة المثلجة في الساعة, كانت مروعة حينما تناديه بسخريتها التي توشك على البكاء "هنري أين انت ياصغيري المشاكس؟!". وعندما ينام تأتي, وهو يرتجف من البرد على سريره، وتبكي عندما ترى أصابعه مشققة ومزرقة من أثر الثلج أثناء سعيه الطويل في البحث عن أحذية تحتاج إلى تلميع. كان ولداً مدهشاً عندما يبدأ عمله، أذكر أنه كان يغني دائماً الأغاني التي لا يفهمها سواه، وعندما أسأله ماذا تعني هذه الأغاني ذات الألحان الغربية، كان يبتسم وتلمع عيناه شديدتا السواد "إنها من تأليفي هل أعجبتك!"، فأجيبه ساخراً "قبّل مؤخرة أمك أيها الزنجي القذر".
نعم كان صديقي وكنت أحاول أن لا أجرح شعوره بشيء، لكنني عندما كنت أنعته بالزنجي كان يتغير لونه, وأشعر بأنه يوشك على الانفجار في وجهي، ومع صداقتي له كنت أجعله يمسح حذائي وأنقده بضعة سنتات حقيرة، كنت أشعر براحة عميقة عندما كان يعكف على تلميع الحذاء، ويأخذني في ثرثرته المعهودة مثل كلب وديع. أحياناً كثيرة سألت نفسي كيف أمكنني مصادقة هذا الشخص، لا أخفي أنني أحياناً كنت أحس ناحيته بالازدراء وبهذا الشعور وحده، كنت أراني مختلفاً عنه كلية، فعلى كل حال هو الذي يربض عند قدمي وليس أنا. وجهه عندما أخذه الغضب كان قبيحاً زاد من قبحه وعيده الذي أطلقه في وجهي عندما فلتت مني كلمة نابية, "بإمكانك أن تنعتني بما شئت من النعوت أوحتى بإمكانك أن تقول بأن هنري له أمٌّ عاهرةٌ كما تتهامسون فيما بينكم، لكن لا تعد إلى تبشيري بسوادي، فلا يوجد زنجي قذر وإنّما القذارة هي أمهاتكم". غمزني بعينه وذهب بعدما ظننت أنه قد يضربني.
في تلك الأثناء كنت قد شرعت في تعميق الحفرة بتصميم أدهشني، فقد بدوت مصمماً على دفن القذارة إلى الأبد، ولذلك لطالما قضيت فترة ما بعد المدرسة في تعميقها تلك الجب الرائعة. عندما استرجع في ذاكرتي تلك الأحداث البعيدة استغرب شدة حسدي لهنري مع أنه كان فقيراً معدماً لا يمتلك حتى سترة تقيه غائلة الشتاء، إلا أنه مع ذلك، كان حريصاً على دروسه وأبرزنا جميعاً في كرة السلة، بل لقد وصل إلى قيادة فريق المدرسة، وكلما تقدم خطوة أشعر أمامه بالاضمحلال والدونية, عندما اختفى فجأة من حياتنا وكأنه لم يكن، لا أنسى أيضاً أنه قبل أن يختفي وبعد أن صار رئيساً لفريق المدرسة ازدادت شخصيته قوة بشكل أذهلني، وأصبح أكثر ثقة بنفسه لم أعهدها فيه وهو الذي كان لا يرفض لي طلباً، بل لقد غدى هو الآمر مع أنه حاول أن يشعرني بأنه يمزح معي، وذلك ما لم أطيقه ولا أصبر عليه.
مرت الأيام وتخرجت من الثانوية والتحقت بالجامعة، تخرجت بعدها محامياً وكل شيء كان يمشي بوتيرة هادئة ومملة أحياناً، بددها ذات مرة علمي بأن والدة هنري قد جُنت بعدما أخذتها الحياة في دوامتها، لكنني لم أنسى هنري الصغير الفتى الذي كان يسلينا، ويقوم أمامنا بعمل حركات بهلوانية مضحكة وحركات مدهشة لا نستطيع تقليدها، مع أنني حاولت نسيانه نهائياً لكنني فشلت فقد كان يملأ ذاكرتي ضجيجاً. في أيام صبانا تلك كانت لنا مغامرات ساذجة مع فتيات غبيات كُن خائفات من أمهاتهن، وحده هنري لم أعرف له علاقة جنسية واحدة، مع أنه كان معبود فتيات مدرستنا، لكنه كان يبدو خائفاً محتاراً لا يدري ماذا يفعل، كان ينمو كما ينموا أي طفل من أطفال الشوارع على الخشونة والشظف، وكلما تقدم به العمر ازداد تمرداً حتى على والدته التي كان يهابها كثيراً والتي تركها آخر المطاف وذهب إلى حيث لا تدري. كثيراً ما كنت أسأل نفسي، ترى لو أن هنري اتّخذ طريق الرياضة التي يعشقها أكان ينجح؟!
أعتقد أن نعم، فالحياة متسعة بما فيه الكفاية لتحتوي أكثر من شخص ناجح. لست أدري ما الذي جعلني أتذكر زميلي القديم هذه الأيام تحديداً، ربما لأنني سمعت بأنه قد عاد أخيراً إلى الظهور مرة ثانية، ولكن هذا مستحيل، أعني فهنري الذي أعرفه كان فقيراً، بينما هذا الهنري الجديد يرفل في النعمة, سلسلته النجمية الضخمة، سيارته الفارهة، من أين له كل هذا مع أنه لم يعد موجود أصلاً،
إنّ هذا يدعو للرعب.
في البداية بدأت أسمع عن تحركاته وأترقب أخباره، لكن الذي أرعبني أنه كان يحوم حول نقطة محددة، هذه النقطة أو المحور كان أنا دون غيري، حتى وقعت الواقعة ذات صباح عندما دهمني صوته الذي لم أنْسَهُ رغم تعاقب السنين ودوداً معاتباً فيه قسوة مبطنة "أنا هنري يا صديقي هل نسيتني". تجمد الدم في عروقي، ما هذا المحال الذي أسمعه، حاولت أن أنكر معرفته ، لكنه هجم عليَّ بسيل جارف من ذكريات لا تنسى، "والحفرة هل نسيتها" جملته تلك جعلت قلبي يفر مذعورا من الفزع، "رباه"، أغلقت سماعة التلفون في وجهه، فقد كنت أقرب إلى الموت مني إلى الحياة، "ما هذه اللعنة التي حلت بي" , لكنه عاود الاتصال مجدداً. عندما رن التلفون للمرة الثانية كان الجحيم قد بدأ فعلاً، فاللعين أخذ يطاردني في كل مكان، حتى في نومي كان يأتيني مبتسماً يوشك أن يدهمني بسيارته التي لا رقم لها، وكل مرة أراه فيها أجده جاهداً يحاول ملامستي كمن يود حرقي "أنا هنري ألا تذكر صديقك يا عزيزي؟!".
لم يعد يأتيني مبتسماً، فقط تمثال من سواد بغيض وصوت يدفعني إلى الجنون"أنا هنري...", كان يرددها مثل ببغاء بليد فأصرخ من الهلع "لا تلمسني..، لا تلمسني أيها الزنجي اللعين!!" لكنه ما تركني قط كدت أُجن فهنري لم يعد موجوداً على كوكبنا هذا, أذكر أن صديقاتنا كُن يعجبن به وبدأن يغازلنه فهو قد أصبح النجم الأول في المدرسة وكل الفتيات يطلبن وده، كان فقيراً ذلك اللعين تفوح منه رائحة البيض المقلي في زيت رخيص ومع ذلك كان الأكثر شعبية, كدت أموت من الغيظ. في عصر أحد تلك الأيام التي أحاول نسيانها، دعوته إلى نزهة قصيرة خارج البلدة، كنت قد أعددت كل شيء بحرفة لا أمتلكها الآن، حفرة بعمق متر ونصف أو مترين, لم أعد أذكر على وجه التحديد, في طريق جانبية غير مطروقة على الأقل حتى أنتهى من مهمتي، كنت أسأله باهتمام الصديق عن والدته، فيجيبني منكوداً "إنها لا تزال تلك المجنونة التي تعرفها".
كم كان طيباً وساذجاً ذلك الهنري، أوشكت أن أتناسى ثأري تجاهه، الثأر الذي كان يتأجج كلما رأيته يغمز بعينه تلك الغمزة الساخرة، لكنني عندما تذكرت ما قد يسببه لي مستقبلاً, تراجعت وواصلت ما كنت قد صممت عليه منذ البداية. كان مطيعاً على غير عادته، حتى أنني عندما أريته الحفرة مازحته "ما رأيك بها يا هنري هل تصلح قبراً لك", أجابني وهو يغمز بعينه كما هي عادته, "بل تصلح قبراً لمؤخرة أمك الطيبة", وقفز إلى داخلها. أذهلني تصرفه فلم أكن أتوقعه مطلقاً، لكنه كان قد أسدى لي خدمته الأخيرة على كل حال، ولثانية واحدة لم يصدق أنني أشهر مسدسي في وجهه،" أبعد هذا الشي عن وجهي فإنه يؤلم حينما يغني"، "فعلاً يا عزيزي وعليك الآن أن تغني أغنيتك الأخيرة", أجبته وضغطت على الزناد فأصبته في كتفه الأيسر, صرخ بأعلى صوته عندما رأى دماءه تفر من جسده، صرخ بكل الموت الذي كنت أصنعه له بحقد دفين شعرت بحدته وأنا أرى دمه يخضب وجه القبر. "جَسْ .. هل جننت، إنك تقتلني يا ابن العاهرة".
كان مصعوقاً لا يدري ماذا يفعل غير مصدق ما يجري، لم أجعله يتعذب كثيراً ولم ألق بالاً لصراخه، ففي تلك اللحظة نسيت كل شيء وغدوت أصم لاَ أسمع ما حولي، فقد كنت أراه وهو يضع الكرة في السلة مزهواً فأزداد غلاً. أفرغت المخزن بكامله في رأسه وقذفت بالمسدس على جسده المثخن بالثقوب والملفع بالدم الذي كدت أتقيأ عندما وصلتني رائحته الحارة وقمت بردم الحفرة جيداً، وعدت أدراجي أسأل نفسي "هل كان من الضروري أن أفقد مسدسي أيضاً؟!". والآن وبعد كل هذه السنين الطويلة يأتي هذا الشخص ليخبرني بأنه هنري الصغير بعينه، بل ويصرخ فيَّ برعب لا أحتمله, "صديقك الذي لن يتركك أبداً". كان يقولها وأنا أتصعّد في موتي، والدم ينز من بين أسنانه والنار في عينيه وضحكته المدوية تصم الآذان!!!         

 ديترويت 1996

.................................................

*قاص وشاعر وروائي وناقد وصحافي يمني أمريكي

*من مجموعة اشياء خاصة- عمان - الاردن -2002

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي