"جنوبي".. سيرة روائية عن مثقف يتداخل فيها الزمان بالمكان

2020-06-22

بطل يغير ملامحه (لوحة للفنان علاء أبو شاهين)

عواد علي

لا تتوقف السيرة الروائية عند حدود تتبع سيرة بطل يختاره الروائي سواء أكان حقيقيا أو متخيلا، فهذا النمط من الكتابة السردية يحاول أن يختزل قضاياه الفكرية والجمالية في شخص واحد، لكنه يدخل من خلال بطله إلى أماكن وأحداث وشخصيات وتفاصيل بدقة متناهية وكثافة موحية، ما يجعل من البطل عوالم وأشخاصا وأحداثا وتواريخ وأمكنة مختزلة في شخص واحد.

شاع في النقد الأدبي، خلال السنوات الأخيرة، استخدام مصطلح “السيرة الروائية”، الذي اقترحه الناقد عبدالله إبراهيم بدلا من مصطلح “رواية السيرة الذاتية”، لتأطير الممارسة الإبداعية المهجّنة من السيرة والرواية.

ورأى إبراهيم، في مقاله “السيرة الروائية: إشكالية النوع والتهجين السردي”، أن الروائي يدمج في هذه الممارسة الخطاب بينه وبين الراوي، فلا يفارق الثاني مرويه، ولا يجافيه، ولا يتنكر له، بل يتماهى معه، يصوغه ويعيد إنتاجه طبقا لشروط مختلفة عن شروط الرواية والسيرة.

على ذلك فإن “السيرة الروائية”، “نوع” من السرد الكثيف الذي يتقابل فيه الراوي والروائي، ويندرجان معا في تداخل مستمر ولا نهائي، يكون الروائي مصدرا لتخيلات الراوي.

وتوفر هذه الممارسة حرية غير محدودة في تقليب التجربة الشخصية للروائي، وإعادة صياغة الوقائع واحتمالاتها، وكل وجوهها، دون خوف من الوصف المحايد والبارد للتجربة، ولا الانقطاع التخييلي عنها.

غوص في عوالم البؤس والفقر في الأردن

 ومن هنا لا يمكن الحديث أبدا عن مطابقة حرفية ومباشرة بين الوقائع التاريخية المتصلة بسيرة المؤلف الذاتية والوقائع الفنية المتصلة بسيرة الشخصية الرئيسة في النص. وقد انحاز الناقد حاتم الصكر إلى هذا المصطلح في كتابه “أقنعة السيرة الذاتية وتجلياتها”، لأنه يجده أقرب إلى فهم طبيعة العمل الأدبي من اقتراح نوع “رواية السيرة الذاتية”، في حين تساءل نقاد آخرون إن كان مسعى الروائيين إلى الاتكاء على سيرهم يعكس حالة من جفاف المخيلة، أو انحسار القدرة على التخييل، وربما الرغبة في التعبير عن الذات واتخاذ حيواتهم نماذج مركزية يتمحور حولها العالم المحيط بها.

وعرف الأدب العالمي “السيرة الروائية” منذ منتصف القرن التاسع عشر، واستمر حضورها حتى الآن، ومن أشهر الروائيين الذين مارسوها: تشارلز ديكنز، ليو تولستوي، شارلوت وإميلي برونتي، جاك لندن، جيمس جويس، سكوت فيتزجيرالد، مارسيل بروست، إرنست همنغواي، هنري ميلر، غراهام غرين، نيكوس كازاتزاكيس، ومارغريت دوراس.

أما في الأدب العربي فقد كتب السيرة الروائية الكثير من الكتّاب، منهم، في سبيل التمثيل، طه حسين، الحكيم، المازني، محمد حسين هيكل، نجيب محفوظ، مولود فرعون، كاتب ياسين، حنا مينة، رشيد بوجدرة، الطاهر وطار، وآخرون.

حديثا، انضم الروائي الأردني رمضان الرواشدة إلى قائمة هؤلاء الكتّاب برواية تحمل عنوان “جنوبي”، يمزج فيها بين سيرته الذاتية وشخصية ساردها وبطلها “جنوبي بن سمعان”، المثقف الذي يمر بتحولات وتقلبات أيديولوجية وحزبية وسياسية وثقافية، بدءا من الانتماء إلى اليسار الماركسي وانتهاء بالارتماء في حضن السلطة.

تغوص الرواية، الصادرة عن دار الشروق في عمّان، بحس نوستالجي، في عوالم البؤس والفقر والمعاناة في الأردن، خاصة في العاصمة ومدينتي إربد ومعان، إبان الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت يفاعة بطل الرواية، كما شهدت أحداثا سياسية مهمة، منها نكسة حزيران، وأحداث أيلول 1970، من دون الدخول إلى تفاصيلها.

ويتابع الكاتب سيرة البطل مرورا بالسجن والملاحقات والأسفار، وليس انتهاء بفلسطين والتعلق بالمكان، ووصف عمّان القديمة بدكاكينها وحاراتها وشوارعها، مع التركيز على حيّ “الهاشمي” فيها، وهو الحي الذي عاش في وجدان بطل الرواية، مثلما عاش فيه الكاتب حلمه الطفولي، وتشكّلت في ثناياه معاناته وطموحاته، خلال مراحل صغره وشبابه وحياته الجامعية، وما رافق هذه الرحلة الطويلة من أحداث وتقلبات فكرية وسياسية، لاسيما عندما كان جزءا من الثورة الفلسطينية على الاحتلال الإسرائيلي.

 

رواية "جنوبي" تغوص بحس نوستالجي في عوالم البؤس والفقر والمعاناة في ثلاث مدن أردنية إبان الستينات والسبعينات

يبدأ جنوبي بن سمعان تجربته السياسية والحياتية يساريا، ثم ناصريا، ومناضلا في بيروت، ثم متصوفا قبل أن يحط به الرحال في حضن السلطة. ويفصّل في هذه التجربة كيف انفتح على الماركسيّة والديمقراطيّة وثورة الفلاحين في الصين، وقرأ صراع الحضارات، ونال شهادة ماجستير الفلسفة بعد شهادة الأدب الإنجليزي، ويطرح أسئلة حارقة عن الفترة الناصريّة، ومدى جدواها، راصدا هيجانها وانكشافها، ونفاذه إلى كثير من أسرارها.

يقول السارد في لحظة مكاشفة للذات، ومختصرا تجربته في الحياة بعامة، وفي الحقل السياسي على نحو خاص “أنت الآن تعاني الشيزوفرينيا، بين الحنين إلى أيام المعارضة والواقع الذي تعيشه، متمتعا بفضلات ما تقدمه لك الدولة بعد أن أصبحت جزءا منها، وتنطق باسمها! يا الله كم تغيرت يا جنوبي! ملعونة هي السلطة، فهي محرقة لكل الطيبين من الأنقياء مثلك! وهي مثل الفانوس أو ‘الشمبر’، كما يسمونه في بلدتك الجنوبية، يحرق الفراشات التي تقترب منه… أهكذا هي نهاية المثقف من اليسار إلى الناصرية إلى الصوفية إلى حضن السلطة؟”.

وتستحضر الرواية مواقف ورؤى وأشعار مجموعة من الأدباء مثل جبران خليل جبران، أبي حيان التوحيدي، رابعة العدوية، أمل دنقل، حبيب الزيودي، والكاتب الأردني الساخر محمد طمليه، صاحب المجموعة القصصية “المتحمسون الأوغاد”، وقد حمل الجزء الأخير من الرواية عنوان “آه منكم أيها المثقفون الأوغاد”، وهو ما يشير إلى التعالق، أو التناص بين العنوانين من جهة، وبين مضمون قصة طمليه والجزء الأخير من رواية الرواشدة، وإلى إدانتهما للمثقفين اليساريين الذين استطاعت السلطة احتواءهم وتوظيفهم من أجل مصالحها.

على صعيد البنية السردية ظلّ بطل الرواية ممسكا بزمام الحكي، رغم وجود شخصيات أخرى مؤثرة، مسلّطا الضوء على نفسه، ومن خلاله على الأحداث، وتأمل الجغرافيا السياسية والاجتماعية

والفكرية في المدن الثلاث، التي تشكّل فضاءات الرواية، باستخدام تقنية الاسترجاع من البداية إلى النهاية، والحوار بضمير المتكلم، الذي يفصح عن الذات، وضمير الغائب، الذي يلحّ عليه ويذكّره، وربما يلومه ملوّحاً بسيف الماضي، فضلا عن التداعيات، وتداخل الزمان والمكان.

يُذكر أن رمضان الرواشدة أصدر قبل هذه الرواية ثلاث روايات هي “الحمراوي”، “أغنية الرعاة”، و”النهر لن يفصلني عنك”، ومجموعة قصصية بعنوان “تلك الليلة”، وقد فازت الأولى بجائزة نجيب محفوظ لأفضل رواية عربية عام 1994.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي