فلاح رحيم شاهد احترقت أصابعه بنار الحدث

2020-05-30

النظر إلى الماضي بحياد (لوحة مايسة محمد)

عواد علي*

ليس من السهل على الكاتب أن يؤرخ للحرب وأهوالها، تلك المثخنة بآلام البشرية والانهزامات الكبرى، التي تفزع الكتاب المرهفين وقد تخرج أسوأ ما في الكتاب المتحمسين والمتأدلجين، فالحرب تكشف الكثير من العورات، ولذا فإن التصدي لها بالكتابة أمر بالغ الدقة، يتجنب فيه الكاتب المرثيات أو الاصطفاف كما فعل الكاتب العراقي فلاح رحيم.

في عزلته بجزيرة فكتوريا الكندية النائية وسط المحيط الهادي، يؤلف ويترجم الكاتب والأكاديمي العراقي المغترب فلاح رحيم (المولود في مدينة بابل عام 1956) أعمالا إبداعية وفكرية ونقدية مهمة، حظيت باهتمام القرّاء والنقاد على حد سواء.

هو من جيل عانى كثيرا من ويلات الحروب، والدكتاتورية، وتقارير المخبرين، ومآسي الحصار الاقتصادي، وكوارث العملية السياسية الفاسدة التي أنتجها الاحتلال الأميركي للعراق، رغم أنه غادره منذ منتصف تسعينات القرن الماضي.

يتخيله صديقه الناقد والمترجم حسن ناظم، في صورة فنطازية، رجلا طويلا يقف على جبل من الكتب، يتأمل ماضيه المترع بالقراءة والطموح، ومعهما إحساس بالخسران المبين… “من يحدثه يفوته الخسران مثلما يفوت جمهرة البشر، لأنه خسران شخصي، غطاه تراب الزمان، لكن لا يفوت مَن يصغي إليه الصدى العالي المنتشر في الوادي، صدى الثقافة العميقة التي يحملها، ومداها الرحب”.

الترجمة والرواية

مارس رحيم العمل الصحافي مبكرا، وكتب القصة والشعر في السبعينات ثم هجرهما، ونال شهادة الماجستير في الأدب الإنجليزي من كلية الآداب، جامعة بغداد عام 1989 عن رسالته “اللغة موضوعا وتقنية في قصائد ديلان توماس”، ودرّس الأدب الإنجليزي واللغة الإنجليزية في جامعات عربية عديدة طوال خمسة وعشرين عاما، وهو متفرغ الآن للكتابة والترجمة في مغتربه.

  رواية "صوت الطبول من بعيد": المثقف العراقي وأزمة التنوير مجددا

وقد أصدر، في مجال الترجمة، نحو عشرين كتابا، منها: “مويــرا” رواية لجوليان غرين، “تحت غابة الحليب” مسرحية شعرية لديلان توماس، “فضيحة” رواية لشوساكو أندو، “حفلة الوداع” رواية لميلان كونديرا، “بحر ساركاسو الواسع” رواية لجين ريس، “القراءات المتصارعة: التنوع والمصداقية في التأويل” لبول آرمسترونغ، “قوة الدين في المجال العام” ليورغن هابرماس وآخرين، “الذات تصف نفسها” لجوديث بتلر، “محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا” لبول ريكور، “حصى الطرقات” لمارغريت رورز، “حكاية الجند” لصموئيل هاينز. “الزمان والسرد: التصوير في السرد القصصي” لبول ريكور. وشارك سعيد الغانمي في ترجمة الجزء الأول من الكتاب نفسه “الزمان والسرد: الحبكة والسرد التاريخي”.

وفي مجال الفكر ألّف رحيم كتاب “أزمة التنوير العراقي: دراسة في الفجوة بين المثقفين والمجتمع”، وهو فحص معرفي للشريحة العراقية المثقفة، على تنوّع طروحاتها ويقينياتها، ونزوعها إلى التنوير والحداثة في شتى المجالات.

أحداث الرواية تدور في بغداد والبصرة وبابل خلال عقد السبعينات المؤسس لكل ما ترتبت عليه من أزمات

أما في حقل الرواية، الذي دخله وهو في سن الخامسة والخمسين، فقد نشر ثلاث روايات حتى الآن هي “القنافذ في يوم ساخن”، “حبات الرمل… حبات المطر”، و”صوت الطبول من بعيد”، الصادرة حديثا عن دار الرافدين للنشر في بيروت. وتشكّل موضوعة التنوير وأزمته شاغله الرئيس في هذه الروايات، من خلال تدوين التاريخ العراقي الحديث في سياق سردي يجمع بين المتخيّل والواقعي/ السيري.

بطل الرواية الأولى سليم كاظم، أستاذ اللغة الإنجليزية، يحصل على عقد عمل للتدريس في جامعة صُور العُمانية، بعد إنهاء عمله مترجما على مدى ثمانية أعوام في شركة نفط بصحراء ليبيا. يجد نفسه في مدينة معزولة وصغيرة بين مغتربين من بلدان مختلفة: فلسطين، تونس، أستراليا، جنوب أفريقيا، أميركا، بريطانيا. كلٌ منهم له أسبابه التي حَمَلته على ترك بلده، واختيار العمل في تلك المدينة. ويسعى جاهدا إلى تدجين المنفى، معبأ بقلق البحث عن إجابة لسؤال طالما أرَّقه “إذا كان هدوء البيت واطمئنانه يدجّنان الوطن، فما الذي يمكن أن يدجّن المنفى؟”، ويتوصل إلى الإجابة بعد معاناة كبيرة وخسارات متكررة.

تكمن حيوية الرواية الأكبر، كما يقول القاص ميثم سلمان، في عنصرين سرديين، أجاد الكاتب صناعتهما، هما الشخصيات والحوار، فقد منحهما حياة متحركة إلى واقع مدينة أكثر ما يميزها السكون والرتابة. وما يشوق القارئ للسياحة في عالم هذه المدينة فضوله لمعرفة مصير الشخصيات التي أسس الروائي علاقة متينة معها، أحب بعضها وكره أخرى. وأسهمت الحوارات في تعزيز عنصر التشويق، كونها تطرح تساؤلات ما فتئت تؤرقنا وتشغلنا. خاصة تلك المتعلقة بالطغيان والاحتلال وما تلاه من مشاكل. نقاشات عميقة وغنية تعكس بصدق الحالة الثقافية والنفسية للشخصيات في الرواية، حيث إن كل ما تقوله ناتج عن تكوينها الثقافي والبيئي المرسوم بعناية.

كاتب الحرب

تتصدر رواية “حبات الرمل… حبات المطر”، الصادرة عن منشورات الجمل عام 2017، قصة قصيرة كان فلاح رحيم قد نشرها عام 1976 في جريدة “الفكر الجديد” الأسبوعية البغدادية. وقد أتاح له هذا الفاصل الطويل بين زمن القصة القصيرة وزمن الرواية مراجعة أربعة عقود من ماضي العراق في القرن العشرين.

تدور أحداث الرواية في بغداد والبصرة وبابل خلال عقد السبعينات المحيّر، والمؤسس لكل ما أعقبه وترتبت عليه من أزمات. وتتوزع بين عالمين متنافرين، أيضا، عالم المطر وعالم الرمل، تجمع بينهما هموم جسد وروح. تبدأ من ذروة حالمة، وتتورط في أسئلة السياسي والشخصي واليومي الحميم لتنتهي إلى موقف عميق الدلالة يختصر العقد برمته مشهد بانورامي لحقبة السبعينات، يبث رحيم في تضاعيفها وزواياها المنسية حيوية السرد الروائي.

يقول رحيم عن روايته الجديدة “صوت الطبول من بعيد”، “تأخر صدورها أربعين عاما عن الحدث الذي تصفه وتعلّق عليه، وجاء في لحظة تأزم عراقية لا تختلف حرجا عن سابقتها، يحاول فيها جيل جديد من العراقيين تصحيح ما تراكم من أخطاء”. وتكمن أهمية هذه الرواية بالنسبة إليه في حقيقة أنه شاهد احترقت أصابعه بنار الحدث، وانتزعت الخدمة العسكرية الإلزامية أكثر من تسعة أعوام من ربيع حياته. لكنه لم يكتب بدافع التوثيق، بل اختار الاستجابة لشرط المصداقية الأخلاقية والتأملية. والأهم أنه كتب رواية لا سيرة ذاتية لقناعته بأن السيرة وحدها لا تكفي لإضاءة معاني التجربة.

الرواية تكتب ما لم يُكتب من قبل عن الحرب العراقية الإيرانية، وتُسجّل ما صمتت عنه روايات تمجيد القتل ورثاء السلم على حد سواء. فبدءا من عشية اندلاع الحرب، تأخذ القارئ إلى خنادقها الأمامية، عبر يوميات دقيقة تنقل ما يعنيه الحضور في عين العاصفة من أفكار وأحاسيس. وتشكّل فاتنة بولندية اسمها “بيانكا”، تصادف وجودها في مدينة الرمادي مع شركة لبناء مضخات الماء على نهر الفرات في سنوات الحرب الأولى، بؤرة الرواية. وسرعان ما تتحول هذه المرأة إلى أذن مرهفة تستقبل صوت الطبول القادم من بعيد، ونبض المحارب الذي تهدد الحرب وجوده وعقله. وثمة في الرواية حركة مكوكية بين خنادق الحرب الخانقة وعالم بغداد والرمادي تكشف لشخصيات الرواية وللقارئ حقيقة الحرب والحب والأيديولوجيا في زمن العراق الصعب.

يرى الروائي زهير الجزائري، بعد فراغه من قراءة الرواية، أن شروط كاتب الحرب تنطبق تماما على فلاح رحيم. ويقصد بها الشروط التي حددها صموئيل هاينز في كتابه “حكاية الجند”، وهي أن ما يناسب مذكرات الحرب أن يكون الكاتب في وسطها، وثيق الصلة بأحداثها، لكنه بعيد الصلة عن قيمها، غريبا عنها، شاهدا عليها إلى جانب كونه جنديا فيها، يحس بالحرب لكنه لا يحبها. “ففي الخندق وبانتظار الموت الذي يأتي صدفة عبثية، وحيث شظايا القذائف تشق الهواء والفضاء المفتوح فوقه، يسجل فلاح يوميات الحرب كوسيلة لاستعادة المبادرة لفعل شيء يتحدى به استهانة الحروب بوجوده الفردي”.

لا يتوقف فلاح ليشرح لنا دوافع هذه الحرب واستراتيجياتها. الحرب قائمة مثل القدر والراوي مقذوف وسطها دون إرادة. الشخصيات التي تصنع الحرب وتديرها غائبة. ليست هناك غرفة عمليات وخرائط ولا شخصيات مثل نابليون أو كوتوزوف كما في “الحرب والسلام” لتولستوي. الراوي سليم يرى الحرب من خلال الأفعال الصغيرة، وحتى المبتذلة للأفراد الذين يقع عليهم عبء الحرب، مشاركين في القتل وضحايا له في نفس الوقت. عشرات الشخصيات العابرة، تظهر مع الحدث ثم تختفي لتنبثق مع حدث آخر.. جنود وضباط صغار تنكشف شخصياتهم في مجاورة الموت”.

  • كاتب عراقي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي