في رواية "بلاد القائد".. ثلاث سير لرجل واحد

2020-05-22

 سعيد خطيبي*

 يُولد الديكتاتور من خنوع شعب له، ومن تقبلهم فكرة أن «لا مثيل له» في البلاد، يتنازلون في البداية عن حقهم في المعارضة، يستأنسون بالصمت، ويصير الخوف ظلاً لهم، ثم ينجرفون عن غير وعي منهم إلى «جوقة المادحين» والرافعين من شأنه، يصدق الديكتاتور أنه بات نوراً ورحمة على العباد، ويغض الطرف عن المآسي التي يسببها للآخرين، يظن أن أفعاله كلها تصب في المصلحة العامة، وقد لعب الكتّاب دوراً في صنع الطغاة وفي تثبيتهم في مواقعهم، رضوا بالمعادلة؛ أن يغدقوا عليهم بالقول الحسن، ويلتقطوا ما تناثر من جاه ومال، أن يصيروا أنبياءً ـ في بعض الأحيان من دون تكليف ـ بين الديكتاتور وشعبه، يزخرفون كلامه كي تلحسه العامة في يسر، وفي رواية «بلاد القائد» (منشورات المتوسط، 2019)، يعرض اليمني علي المقري صورة بانورامية عن صعود وسقوط ديكتاتور عربي، وعن دور الكاتب في خذلان مواطنيه.

لا يهتم المؤلف بتكرار حكايات نعرفها عن طبائع الاستبداد، بل يكتفي فقط بالإشارة إليها، ولا يكتب الحكاية من منظور المستبد، بل من منظور المقربين منه، يعكس زاوية النظر، وبدل أن يكتب سيرة رجل واحد، يجد القارئ نفسه أمام ثلاث سير، سيرة الديكتاتور في الحكم، ثم سيرته في الأدب وأخيراً سيرته وقد غمر الخوف قلبه وشعر بدنو أجله.

في هذه الرواية لا يلعب المقري دور البطل، الذي ينافح عن قيم إنسانية، ومن أجل الدفاع عن الآخرين، بل يضع نفسه أيضاً في حيز «المغلوبين على أمرهم»، يتخذ من كاتب مثله راويا، ويسرد تحولات شخصيته، من طاعة الديكتاتور إلى طاعة المنقلبين عليه، كما لو أن الكاتب العربي إجمالاً لا رأي له في ما يحصل من حوله، سوى السير في مجرى الأقوى.

يصر علي المقري على إخفاء اسم البلاد التي تدور فيها وقائع الرواية، ويكتفي بتسميتها «عراسوبيا»، لكن لا يخفى على القارئ أن ملامحها تُشبه ليبيا، في كتابة تُحاكي «1984» لجورج أورويل، مع فارق أننا لن نحتاج إلى «الأخ الأكبر» فهو معلوم، إنه «القائد المبجل» نفسه، الذي من شدة خنوع الناس وطاعتهم له، يوصلون إليه كل الأخبار والشائعات، وعلى الرغم من كل احتياطاته في مراقبتهم فإنهم يتماهون مع الخوف، ويفضحون أنفسهم بأنفسهم، بدون حاجة إلى رقيب.

  إذا كانت رواية «1984» نصاً استشرافيا، عن فظائع الحكم الأحادي، فإن رواية «بلاد القائد» نص معاينة، عن تشارك بلدان عربية كثيرة في خوفها وخنوعها، وكيف أن المثقفين يلعبون دوراً، على صغره يظل حاسماً، في إطالة عمر الديكتاتور

لقد نجح القائد المبجل في حقن شعبه بالخوف، سكن نومهم ويقظتهم، ولا يفعلون شيئاً بدون تخيل ردة فعله، جعلهم منهم تابعين لا مواطنين، صوره في كل مكان، ولا يبدأ كلام أي واحد منهم بدون ذكر اسم القائد، وكما جاء في «1984» فالحرية هي العبودية، وفي بلاد القائد لا يشعر أي فرد فيها بحريته، سوى بمقدار طاعته وعبوديته، هكذا يطمئن بال القائد، فقد محا المعارضة من عقول الناس، ولم يعد يعنيهم سوى التقرب منه، وكسب وده، ومن شدة ثقة القائد في نفسه بات يفكر أن ينوب عن «الرب»، لكن بدون أن يُشعر الآخرون أنه يمس بالمعلوم من الدين.

في هذا الجو المستبد، سوف يصل الراوي إلى هذه البلاد، قصد المشاركة في تحرير سيرة القائد، وهنا تنطلق كتابة السيرة الثانية في الرواية، وهي سيرة الحاكم وعلاقته بالكاتب، في استهزائه بالمثقفين، وتحويلهم إلى خدم له، وعلى الرغم من أن الراوي حاول أن يُحافظ على هامش «معارضته» في البداية، واستجاب للعمل الذي عرض فيه، من أجل كسب مال، ومداواة زوجته التي عانت من السرطان، فإنه سرعان ما يسقط في فخ الإغراءات، شيئاً فشيئاً سوف يتخلى عن «المبادئ» التي طالما تفاخر بها، ينزع روح المقاومة التي ساورته، ويصير مثل الآخرين في مديح وتبجيل القائد، فبعدما كان يصف رجال السلطة بالوباء، صار هو نفسه جزءًا من الوباء، كما لو أن علي المقري يُنبهنا إلى حال الكاتب العربي إجمالاً، الذي مهما رافع من أجل حرية وديمقراطية، فلن يصمد أمام غواية المال، لقد كان المال محفزاً للراوي في كتابة سيرة رجل لم يحبه أبداً، لكن مع الوقت، وبعد ملاقاته، نزع عن نفسه رداء النقد، وصار يمني نفسه بالتقرب منه، بل إنه زاد غروراً وقد علم أن القائد طلب خدمته بعد إعجابه برواياته.

لم يعد يهتم الكاتب بقارئ ولا بمحب لأدبه، بل يهمه رضا السلطان، وأن يجعل من أدبه قارباً يصل به إلى باب القصر، ذلك ما يحيلنا إليه الروائي في «بلاد القائد».

يصور المقري القائد في حالاته الهمجية، كرجل دموي ومهوس جنسياً، ولكن بعد ثلاثة أشهر يقضيها الراوي في عراسوبيا، سوف يتغير كثير من الحقائق التي طالما تعلق بها، يصير هو أيضاً خائفاً، يرتاب من أن يسمع القائد أو يبلغه ما يدور في خلده، يصير طائعاً مثل الآخرين، يقضي وقته في التفكير في فصول السيرة التي جاء من أجل كتابتها، بدون أن تفارق صورة زوجته سماح مخيلته، وعندما تعرض عليه شيماء ابنة القائد الزواج يداهمه قلق، إما أن يقبل ويخون زوجته، أو يرفض وقد يواجه مصيرا تراجيدياً، مثلما حصل مع من سبقوه. تتكرر لقاءاته مع لجنة كتابة السيرة، وتتعزز صورة القائد نقاءً في مخيلته، لم يعد يرى فيه ذلك المستبد أو الديكتاتور، بل يراه سبباً في التفريج عن أزمته المالية، يراه مخلصاً ورسولاً من السماء، يهبه من المال ما يحتاج إليه، لكن الثورة سوف تندلع، ستعصف ريح الربيع العربي ببلاد القائد، ويكتب المقري سيرة ثالثة وأخيرة، سيرة الخوف، فعندما يتهاوى الديكتاتور فإن المقربين منه هم أول من ينقلب عليه، وذلك ما تحكيه الرواية، كل الذين كانوا يحومون على القائد، ويثيرون ارتياب الراوي، سينسحبون إلى صف الثوار، سينتهي القائد، الذي كان يوصف بالمبجل، نهاية مأساوية، وكذلك كانت نهاية الراوي، الذي لم ينل ما جاء من أجله، بل إنه سيفقد أقرب الناس إليه، يركب هو أيضاً موجة الثورة، ويعلمنا أن من يثق في الحاكم كمن يثق في سراب.

إذا كانت رواية «1984» نصاً استشرافيا، عن فظائع الحكم الأحادي، فإن رواية «بلاد القائد» نص معاينة، عن تشارك بلدان عربية كثيرة في خوفها وخنوعها، وكيف أن المثقفين يلعبون دوراً، على صغره يظل حاسماً، في إطالة عمر الديكتاتور.

  • كاتب من الجزائر






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي