أزمة بيروت وعذابات بشرها في رواية "مستر نون"

2020-05-10

عارف حمزة-هامبورغ

في رواية جديدة تقدم الروائية اللبنانية نجوى بركات سيرة عذابات "مستر نون" وكلما تقدمنا في قراءة القصة، التي تجري في ما يقارب 250 صفحة، سنتوغل في عذابات بطلها والمدينة نفسها وبشرِها بالدرجة الأولى.

الإثارة سمة هذه الرواية، فمع كل جزء يحصلُ القارئ على ما يزيد لهفته لمعرفة ما سيجري فيما بعد. فمستر نون ابن عائلة ثرية، لوالد طبيب يُعالج الفقراء مجاناً أيام السبت. ولأمّ، ثريا، منحت حبها واهتمامها وأمومتها لابنها البكر "سائد" فلم يبق عندها شيء من كلّ ذلك لتمنحه لابنها الآخر نون.

نون في المصحة

يفتقد نون اليدين اللتين لم تحملاه صغيراً وتربتان على "مربع الظهر" لذلك لجأ إلى يديّ الخادمة "ماري". وهذه كانت محنته الأولى، إحساسه بأنه لا ينتمي إلى عائلته، وفقدان معنى جلبه إلى هذا العالم.

لم تكن الأم وحدها القاسية، بل الأب أيضاً عندما نهض عن مكتبه في البيت، غيرَ منتبه إلى وجود ابنه نون في إحدى زوايا الغرفة، ثم سار إلى النافذة وقفز منها منتحراً.

في البداية نجد مستر نون يعيش في فندق. ويبدو أنه هناك منذ مدة طويلة. ونتعرف على جارته السوريّة "مريم" التي فقدت زوجها وولديها، وكل شيء، بعد سقوط برميل متفجر على بيتها. ونتعرف كذلك على "داود" الذي يعيش في غرفة مجاورة، والذي كان سبباً في موت زوجته.

في إحدى الليالي سيشاهد مستر نون، من نافذة غرفته، داود في حديقة الفندق وهو يُعاون مريم على شنق نفسها. ونعرف عندها أن المكان ليس فندقاً بل هو مصحّ عقليّ!

روائي داخل القصة

مستر نون كاتب روايات. ومن خلال حديثه كراوٍ نكتشف فكرته عن المكان وعن الكتابة "المنتهية الصلاحية" وعن عقول القرّاء "الفارغة". ولكن هناك الراوي العالم أيضاً، الذي يروي تفاصيل معينة عن مستر نون لكي يُعين القارئ للدخول أكثر في الإثارة التي تنتظره.

"منذ زمن والسيد نون قد غادر بقعة الضوء. سلوكه الاجتماعي صفر، علاقاته صفر، عدد أصدقائه صفر. لقد جهد بشكل دؤوب وممنهج لكي يُغلق على ذاته دائرة الصفر".

"حتى ندى انتهت إلى هجره بعد علاقة دامت سبع سنوات. قالت له: لم أعد أستطيعُ حملكَ، وبكتْ. لم تقل تحمُّلكَ، بل حملك، وكأنه كيس أو وزن ثقيل كانت ترفعه طيلة علاقتهما، إلى أن تولّاها الإنهاكُ فاستسلمت وأنزلَتهُ".

تعدد الأصوات

تستخدم الأديبة اللبنانية نوعين من الرواة في روايتها هذه، الراوي المجهول أو العالم وكذلك نون نفسه، وقد لا ينتبه القارئ لهذا التبادل في كثير من مراحل العمل، وهذا يعود لسلاسة الانتقال بين الصوتين.

الرواية تذهب في خطين، الأول الحديث عن سيرة نون وعائلته، والثاني عن سيرة المكان وهو بيروت.

تُفتتح الرواية في الفندق، المصح النفسي، الذي يُعالج فيه مستر نون، وتنتهي كذلك فيه. وبين هاتين النقطتين تسرد بركات حياة نون وعائلته وحياة بيروت من خلال سرد مكثّف متخفّف من الثرثرة.

شخصيات عديدة تظهر خلال هاتين النقطتين، ربما أهمها سيرة الأب الطبيب الذي ينتحر على مرأى من نون الطفل، وكذلك سيرة العاملة النيبالية "شايغا" التي صارت تعمل عاهرة في محل لشخص يُدعى مستر جو. وتبدو سيرة "لقمان" في انفصالها إلى ثلاثة مستويات، الشخصيّة المرعبة القاتلة التي كتب عنها نون رواية ليتخلص من وحشيّتها.

تفكيك بيروت

يفكك نون مدينة مثل بيروت بشكل غريب، فهو لا يذهب ليتجوّل فيها ويحدّثنا عن ناسها وفقرها وأوساخها وازدحامها فحسب، بل صار يذهب من أجل أن يتلقى المزيد من الضرب من سكان تلك الأحياء الفقيرة.

خلال تجواله ذاك نسير معه في تلك الشوارع والأحياء حيث نعثر على "أحياء ممزقة بقي بعض أشلائها معلقاً على أسلاك الكهرباء، فيما استمرّ بعضها الآخر يبعط في الوحول (..) متسوّلون ولاجئون وفقراء وبائعو خردة ومنادون وسكارى منذ الصباح، وعمال بسحنات سوداء وعجائز فارغو الأفواه أو بأسنان ساقطة، وبقايا نساء بملابس رثيثة وفضلات شعر وأصبغة وماكياج" كما في وصفه منطقة النبعة".

وهو لا يكتفي بتفكيكه لشوارع كثيرة من بيروت، بطبقاتها المختلفة، بل يذهب حتى لوصف سائقي "السرفيس" (سيارات الأجرة) حيث يقول "سائقو السرفيس في هذا البلد آفة. يتناقلون السموم ويبثونها فيك. ولا يُدركون سوء ما يفعلون. إنهم طاعون هذه البلاد، يدخلون حياتك من دون أن يتكلفوا طلب إذن، ثم يجلسون فيها مستلقين، عابثين بأعصابك وراحتك، مستفزّين غرائز الشرّ فيك!".

قبل أن يُعطينا خلاصته عن هذه المدينة "بلغتُ الجسر وأنا أسدُّ أنفي، إذ لاقتني رائحة ما تحول من نهر بيروت إلى نهر نفايات وأوساخ وبقايا مسالخ، قبل أن أجتاز إلى منطقة مار مخايل عبر شارع أرمينيا، مودعاً هذا الكويكب الملعون، واعداً نفسي بأني لن أطأ هذا المكب البشري بعد الآن".

اختيار الأذى

يحدث أمر غريب جداً لمستر نون، وذلك ساهم في عثوره على "شايغا" والعيش معها، ثم عيش مصيرها المشؤوم. وساهم كذلك في دخوله إلى المصح النفسيّ بشكل أبديّ، إذ صار مستر نون يذهب إلى حواري الفقراء، ويستفز الناس هناك لكي يُشبعوه ضرباً! وكأن جسده ذبيحة "لمن طحنهم القهر والذل. هذا جسدي، خذوه، دوسوه، اطعنوه، كلوه..".

ورغم كل الضرب الذي تلقاه فإنه يشرح لنا الفرق الكبير بين الضرب الذي يتلقاه والتعذيب. "الضرب يكسر أطرافك، أنفك فكّك، لكن التعذيب يكسر روحك، يسلخ كبرياءك، ويمسح بكرامتك الأرض".

شايغا ستجد نون بعد إحدى إغماءاته من الضرب الشديد. ستأخذه إلى حجرتها الفقيرة، ستنظفه وستطبب جراحه وستُطعمه وستقع في حبه.

ولكنه يرتكب خطأ الاحتفاظ بها، فيبحث عنهما مستر جو ويجدهما ويكسّر عظامه، بينما يرمي مرافقوه شايغا، أمام عينيه المذعورتين، من الطابق الرابع. نفس الميتة التي ألّفها والده قبل سنوات طويلة.

مستر نون كاتب روايات، وستظهر شخصية "لقمان" لنتعرف على حكايته، بل حكاياته. ونعثر على ذلك الصراع بين المؤلف وبطل إحدى رواياته. المؤلف الذي يقتله في نهاية الرواية التي كتبها عنه خلال حرب لبنان. فيحاول البطل أن ينتقم من مؤلفه في ذلك المصح العقلي.

مقتل البطل

لا تنتهي مفاجآت بركات عند ذلك الحد، بل على القارئ أن يقرأ الرواية حتى آخر سطر منها. حتى آخر سطر من ذلك الصراع بين بطل رواية "لقمان" ومؤلفها، لينتهي بمقتل بطل الرواية من جديد، عن طريق غرز أقلام الرصاص الحادة في مناطق مختلفة من جسده. ولكن، في نهاية هذه الرواية، سنعثر على تقرير لإدارة المصح العقلي تفيد بأن "السيدة نون" ماتت في المصح العقلي بعد أن عولجت هناك لمدة خمسة عشر عاماً بسبب معاناتها التباساً في الهوية واضطرابات نفسية أخرى.

وجدوها في الصبح غارقة في دمائها "غارزة بعنف أقلام رصاص جديدة من نوع فابر كاستيل تحت كتفها اليسرى، قبل أن تنتزعها لتعود فتزرعها في بطنها".

وجدوا بجانب السيدة نون أوراقا كثيرة مبعثرة وملطخة بالدم، وتعود لمخطوطة واحدة مرقمة تحمل عنوان "مستر نون". ووجدوا بجانبها ورقة كتبت عليها بدمها "أخيراً، لقد تخلّصتُ منه".

هناك أسئلة عديدة تراود القارئ وهو يقرأ هذا السرد البديع لبركات، ومنها على سبيل المثال: لماذا تظل الساعة، في كثير من مواضع الرواية تشير إلى العاشرة وخمس وعشرين دقيقة؟ وكيف استطاعت أن تدخل في دواخل المرضى العقليين الذين رافقوا نون في هذا العمل؟ وكذلك أن تتقمّص شخصية رجل.

الإثارة التي اعتمدتها بركات تجعلنا نعيش ضمن أجواء رواية بوليسية، يفتقدها الأدب العربي، رغم أنها ليست بوليسية على أية حال. كما تذكرنا بتلك الأجواء الغرائبية في روايات سابقة مثل "مالون يموت" للكاتب والأديب الأيرلندي صموئيل بيكيت، أو حتى "الصخب والعنف" للأميركي الحائز على نوبل للآداب وليم فوكنر.

ولكن قبل كل ذلك، وما يُحسب للعمل هذا، هو نجاح بركات في "اللعب" ضد توقعات القارئ، واللعب مع القارئ نفسه لعيش حكايات متعددة ومختلفة بطريقة سرد تجعله متلهفاً لمعرفة النهاية، ومتأنياً في نفس الوقت لكي لا ينتهي هذا العمل المميز.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي