عودة جديدة إلى "الليالي" وأسرارها الدفينة

شهرزاد لا تسكت عن الكلام المباح.. برفقة كيليطو

2020-05-05

بيروت- سوسن الأبطح

يعود الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو إلى «ألف ليلة وليلة»؛ هو أصلاً لم يفارق «الليالي»، هذه التحفة الأدبية التي لا يمل من قراءتها واستنباط أسرارها، وربطها بكبريات النصوص الأدبية العالمية. هذه المرة، مع عنوان لافت آخر، لا يقل إثارة عن كتبه السابقة، مثل «العين والإبرة» و«قولوا لي الحلم»، و«لن تتكلم لغتي». يطل علينا كيليطو بعنوان «من نبحث عنه بعيداً يقطن قربنا»، مستلاً إياه من «يوميات» كافكا، ويكاد يكون تلخيصاً مكثفاً مقطراً لقصة «لص بغداد» في «ألف ليلة وليلة» التي هي من بين ما يعالجه في الكتاب.

المؤلَّف الجديد ترجمه إسماعيل أزيات عن الفرنسية، وصادر عن «دار توبقال»، وهو كما كتب كيليطو السابقة يتجاوز المائة صفحة بقليل، مكتنز، لا مكان للإنشائية فيه، يرصد خفايا بعض قصص «ألف ليلة وليلة» بعيون العاشق للسرد العربي -وهو شغوف بالمقامات أيضاً- المتبحر في نسخها وترجماتها وما كتب عنها. وهذا ما يتيح للكاتب ليس فقط إعادة قراءة النص بعينه الناقدة العالمة، بل إطلاعنا على قراءات كبار الكتاب الذين قضوا سنواتهم مع هذا المؤلّف، بعد أن اكتسب أهمية كبرى في الغرب، فيما بقي أبناء العربية ينظرون إليه من دونية إلى أن جاءهم التنبيه من أوروبا.

تلك ناحية تشغل كيليطو، وتجعله يتمعن فيما كتبه الفذّ بورخيس، وما اقتبسه مارسيل بروست، وكيف تأثر بهذه القصص العجائبية وأسلوبها السردي في كتابه الشهير «البحث عن الزمن الضائع»، حيث إن «طفولة بروست، في إحدى جوانبها، ملفوفة بحكايات شهرزاد، وبالمنافسة بين الترجمتين الفرنسيتين اللتين كانتا متاحتين له في ذلك الوقت، ترجمة غالان وترجمة ماردروس». ويأخذنا إلى ما كتبه بلزاك عن هذه التحفة، وهو ينعت كتابه «الكوميديا الإنسانية» بأنه «ألف ليلة وليلة» الغرب، وكذلك يحدثنا عن الليالي بالنسبة لسان سيمون، معتبراً إياها بمثابة الكتاب الذي يطمح إلى تأليفه.

ولا تنقص كيليطو المهارة كي يدخلك من باب ويخرجك من آخر وهو يطوف بك في صفحات هؤلاء الكتّاب، على غرار ما تفعله شهرزاد حين تتداخل قصصها، وتستطرد في سرد إحداها قبل أن تردك إلى الحكاية الرئيسية، فتشعر أنك تكاد تفقد الخيط الرئيسي، لولا أنها تنبهت في الوقت المناسب.

والكتاب الجديد هو مجموعة من الدراسات كتبت متفرقة، لكنها تتكامل فيما بينها. والبداية هي من لحظة تعرض شهريار وأخوه شاه زمان للخيانة من زوجتيهما، ولقاؤهما الجني الذي يحمل على رأسه صندوقاً زجاجياً، يسحب منه علبة، ومن العلبة تخرج صبية غراء بهية. وبعد أن تجبرهما على مجامعتها في غفلة من الجني «تخرج من جيبها كيساً يحتوي على عقد مؤلف من خمسمائة وسبعين خاتماً، وتقول: «أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت، فأعطياني خاتميكما أنتما الاثنان الآخران».

هذه الحكاية التمهيدية تأتي قبل الألف ليلة وليلة التي تقصها شهرزاد. ويكتب كيليطو: «هنا يتجلى حذق المؤلف المجهول لليالي، وربما بصورة أدق، حذق المؤلفين الذين نسجوا هذه الحكاية المتفردة، وهم يفكرون في معمار الكتاب، وصياغته المتشكلة من منعرجات ومنعطفات. تمهد الصبية لظهور شهرزاد، وتعلن برقة ونعومة شكل ومحتوى ما سيكون عليه الكتاب: خواتم في كيس». ويشرح كيليطو وهو يستند إلى رأي شيق للويس بورخيس، مفاده أن زيادة ليلة إلى الألف في عنوان هذا الكتاب الاستثنائي لم تأتِ لتحدد العدد، وإنما لتوحي للقارئ بأن القصد هو لا نهائية الليالي والقصص، وكذا هو حال الخواتم التي جمعتها الصبية في كيسها، فليس المهم عددها، وإنما كثرتها وتناميها.

وحين نصل مع كيليطو إلى «حكاية إفلاس رجل من بغداد»، نراه يحدثنا عن مخلوق يحركه حلم، ويلعب دوراً رئيساً في كتابة مصيره، حين يشد الرحال مسافراً إلى مصر، تلبية لنداء جاءه في منامه، قائلاً له: «إن رزقك في مصر، فتوجه له». لكنه بوصوله إلى هناك، بدل أن يرزق بما وعد به، يضرب من قبل الوالي حتى يشارف على الهلاك. وحين يروي للوالي قصته، يسخر من منامه الذي كاد يودي به، ويخبره أنه هو أيضاً أتاه نداء شبيه في المنام، كي يذهب ويبحث عن رزقه في بغداد في المكان كذا، لكنه بالطبع لم يفعل، لأن الأمر مجرد أضغاث أحلام. يعود البغدادي إلى بلاده وقد أدرك أن مكان الكنز هو منزله، يبحث عن الكنز ملبياً النداء الذي أخبره به الوالي، فيجد مالاً كثيراً تحت عين ماء.

يدخل كيليطو في تحليل طويل لكل حيثيات القصة وتفاصيلها، ليخلص في النهاية إلى أن البغدادي ليس لصاً، فهو «لم يأخذ شيئاً في ملكية آخر؛ ألا يوجد الكنز في بيته؟». ومع ذلك، فهو ليس بريئاً تماماً لأنه بشكل من الأشكال اختلس حلم الوالي: «إنه سارق رؤيا، ولذلك تلقى من الوالي عقابه مسبقاً»، حين انهال عليه بالضرب حتى قبل أن يبوح له بمنامه. ويستدرك بالقول معلقاً: «هناك حالات جد نادره حقاً، يسبق فيها العقاب الإساءة».

وعلى طريقته، يستفيد كيليطو من قصة لص بغداد، والصوت الآتي في المنام، ليعيدنا إلى مقارنة بين منامات وأصوات ونداءات تكررت في أعمال أدبية، فيجول بنا في نص بورخيس حول الحكاية نفسها، وما كتبته الباحثة إفانجلينا ستيد عن الكنز المدفون، وليذكرنا من جديد أن البغدادي اضطر للذهاب بعيداً، والسفر بحثاً عن الكنز بينما هو موجود في بيته، غير أنه كي يعرف ذلك، كان لا بد له أن يغادر المسكن، ويقطع المسافات، ويعيش تجارب كي يكتشف ذلك. ولا يجد كيليطو صعوبة في أن يربط هذه القصة بتفصيل في حكاية السندباد، وأن يجد الصلة الوثيقة بين هاتين القصتين وشبيه لهما في رواية بلزاك «أوجيني غراندي». لنرى أن ثمة بنية مشتركة يمكن رصدها، من خلال معرفة عميقة بنصوص سردية كبيرة في لغات مختلفة. وهو هنا يثبت مرة جديدة كم أن الليالي جديرة بمقارنتها بكبريات النصوص النثرية، بل كونها مرجعاً أدبياً أساسياً تأثر به أدباء كبار بلغات مختلفة، بقيت لمسات شهرزاد بينة على كتاباتهم، دون أن يهتم أحد برصدها، وتحري عمقها.

وثمة أكثر من ذلك، فطريقة كيليطو في كتابة تحليلاته وتسلسلها، وفي انتقاله في النصوص واللغات والكتّاب، وعودته في كل مرة إلى الليالي، هي تماماً كطريقة شهرزاد نفسها في إخراج القصة من القصة، وعلى غرار أسلوب الصبية التي غافلت الجني في مطلع كتاب «ألف ليلة وليلة»، وجمعت الخواتم الكثيرة في كيس واحد.

كيليطو هو أيضاً يسير على خطى شهرزاد، في كتابة نص متشظي، مفتت بقدر ما هو قابل للجمع وعقد المقارنات وإظهار المفارقات. إنه يكتب عن كتاب يشعر بسحر نحوه، ويدرك مدى حضوره في الوعي الجماعي، وتأثيره الضمني الهائل وتغلغله في الذاكرة.

وفي خاتمة جميلة تحيل مرة أخرى إلى الاهتمام الذي أولاه الأوروبيون لـ«الليالي» قبل أن يكتشف أهميتها العرب، يقول: «قبل أن يحلم الغرب بالهيمنة على الشرق بأزمان، فإن الشرق في إغفاءته، مجسداً بالليالي، غزا الغرب. اكتشف الأدب الأوروبي فجأة أن شيئاً ما ينقصه، فاندمج بالشرق». ومن خلال هذا الكتاب، يعلق على هذا الحدث الأدبي بالقول: «حين يلتحم النصفان، فإن العالم عندئذ تام، أو إذا شئنا مترع». ينتصر كيليطو لفكرة التثاقف والالتحام الإنساني بين الشرق والغرب، من خلال «ألف ليلة وليلة»، وتسفارها جيئة وذهاباً بين الضفتين والحضارتين، وتأثيرها النفسي والأدبي.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي