رواية "فاكهة للغربان".. رثاء "عدن" في زمن الخيبة

2020-05-04

 فيصل درّاج*

ارتكن أحمد زين في عمله الروائي إلى وحدة الرواية والتاريخ؛ إذ لا كتابة بلا مرجع خارجي متكئ عليه، وترجمها بمبدأ الإنسان المغترب الذي ينتظر ضوءًا لا يجيء. اتخذّ هذا الروائي اليمني من وطنه مجالًا لتأمل متعدد الأبعاد، يتضمن السياسي والسلطوي والقيمي وعبث التاريخ الذي يستقدم الأحلام ويحرقها.

كان في روايته ما قبل الأخيرة "ستيمر بوينت" – 2015، قد رجع إلى "عدن" ما بعد الاستقلال ورصد تحوّلاتها ولم يعلن عن مسرّة، حيث الجميل الذي كان علاه الغبار، وما أخذ مكانه لا جمال فيه. أعطى درسًا في شجاعة "الحزن الوطني" وإنشاء النثر الجميل المتجلّي، عربيًا، في أعمال ليست كثيرة.

استأنف في روايته الأخيرة "فاكهة للغربان" (منشورات المتوسط، ميلانو، بغداد، 2020، 239 صفحة) ما انتهى إليه في الرواية السابقة. رصد زمن "الثورة الاشتراكية التحررية" وسرد أحزانًا جديدة متراكمة، إذ "عدن" مدينة يمنية ثائرة وملاذ لثائرين عرب وغيرهم، وإذ "الأحلام الحمراء" تبدأ بالغرق قبل أن تشرع بالإبحار. كتب مآل المدينة بحبر الرثاء وتآكل وعود الثائرين الممتدة شخصياتهم إلى عراق يلفظ أنفاسه، وجزائر ذاهبة إلى الخراب، وثورة فلسطينية تساقطت منها وجوه كثيرة، وتبقى "تاجر" حديث النعمة يستهلك فلسطينيين صادقين.

في فضاء محتشد بالقلق والغبار تبقى الأنثى "أيديولوجيا" وحيدة منعشة الهواء، أكانت عاشقة تنتظر رفيقًا أعدمه الرفاق، أو أرملة صابرة ذهب زوجها في مؤامرة دبّرها الرفاق، أو أنثى طليقة تكسر الخوف وتنتقل وحيدة من بيروت إلى عدن، وتفعل ما تريد.

ليست سيرة "عدن" الروائية إلا سيرة "الاغتراب الدامي"، الذي أملاه "اشتراكيون يمنيون" حوّلوا سريعًا "الاحتراف الثوري" إلى مهنة فقيرة، مرجعها أنوات مريضة وفتنة الملكية المهزوزة الأركان. سرد الروائي ملامح المدينة الجائع والمحاكاة المهزوزة، بمصائر عرب مغتربين لاذوا بها، أعطوها خبراتهم وتقاسموا أحلامها، وأدركوا أن الأحلام خديعة. بيد أن الروائي يبني فضاءه الروائي متكاملًا، متوسلًا شخصيات يمنية، صارت غير ما كانته، ومتواليات من الإشارات بناها بلغة هامسة عالية التفجّع بليغة التفاصيل.

بنى أحمد زين بنية روايته على جملة من الثنائيات المتحاورة: الداخل والخارج، المفرد والجماعي، الحاضر والماضي، تبادل الكلام والمناجاة الذاتية، المعلومات التاريخية الدقيقة وصراخ الذاكرة الجريحة، الحاضر والغائب... أفضت العلاقات جميعًا، وباقتصاد لغوي مدهش، إلى توليد فضاء مأساوي، يجسّر العلاقة بين اليمني والعربي الثوري والأممي وعبث "مدّعي الاشتراكية" وثورة أكتوبر السوفييتية. كما لو أن "فاكهة للغربان" رثت ثورة اليمن وهي ترثي حلمًا كونيًا هدّته أخطاؤه وتداعى بلا كبرياء.

 

"كتب أحمد الزين مآل المدينة بحبر الرثاء وتآكل وعود الثائرين الممتدة شخصياتهم إلى عراق يلفظ أنفاسه، وجزائر ذاهبة إلى الخراب، وثورة فلسطينية تساقطت منها وجوه كثيرة"

قرأ أحمد الزين سقوط الحلم الاشتراكي بمجاز "عدني"، وقرأ تحوّلات عدن بمجاز يمني قوامه شخصان، وأنثى ثائرة رفيعة الأصول وحّدت بين الفن والثورة والعشق والمستقبل، وبين الرقص وتحرّر الإنسان. أنثى من أريج وكبرياء وحرية وصفاء، أعطب "الانتهازيون المحترفون" قدميها وذهبت إلى كساح يثير الأسى، ذلك أن أبناء "الثورة المغدورة"، اختصروا ماركس في الأجهزة الأمنية، واستعاضوا عن العقول الفاعلة بدمى تحسن التآمر واستعمال كواتم الصوت. تنتهي الأنثى الشاعرة إلى حطامها، واليمني النقي، الذي جاء من ريف قريب انتظر الثورة وتمزّق في حوار ذاتي عن ميلاد الأحلام وانكسارها، وعن المتحرر الطليق ومرتبية "حزبية" تختصر الحزب في أوامر كاسرة ومكسورة.

وإذا كانت حكاية المجاز، في شكليه، حكاية "الحزب الاشتراكي اليمني" كما سردها أحمد زين، فقد تجسّد المجاز والنقيض في نسق من التفاصيل تثير الرعب، التهمت الحزب وأجهزت عليه. ربما كان في المناضلة الفلسطينية الجميلة الهاربة من الموت وقمع أنوثتها ما يساوي اليمنية الراقصة، بقدر ما يعادل الانتهازي الفلسطيني الغامض قتله الحزب وجلاديه.

انطوت حكاية المجاز القتيل على بلاغة الإشارة؛ إذ العالم الروحي من نظرات العينين والمآل الحالم من روائح متقاطعة، وعلى طبقات اللغة الموحية التي تفصح عن المعنى خافتًا ومرتفع الصوت في آن. واحتضنت أيضًا بلاغة الإضمار التي تختصر الأشرار في آثارهم، والأخيار في غيابهم المؤسي. في لغة أحمد زين ما يشتق من الحالم المخذول عوالم واسعة، وما ينقله من عدن إلى موسكو، ومن ثورة ظفار إلى "حرب الأنصار" في شمال العراق وبيوت فقيرة في الجزائر.

من البطل؟

من هو البطل في رواية "فاكهة للغربان"؟ لن يظفر السؤال التقليدي بجواب تقليدي، موزّع هو على مراكز متعددة: الإنسان المغترب الحالم، الحلم الناهض والحلم الكسيح، عدن في تحوّلاتها المؤسية، اليسار العربي المراهن على الخطأ، الحركة الاشتراكية العالمية الصاعدة والمحتضرة معًا. غير أن "البطل البنيوي" ماثل في السارد الذي حاور الشخصيات جميعًا وأنطقها بلغة ناقصة أكثر اكتمالًا من لغة "النوايا" والأساليب المعلبة. ففي الأولى لغة الحياة والتاريخ، وفي الثانية لغة الوهم والالتزام والشعارات الكاذبة.

قدّم أحد زين في روايته الأخيرة عملًا روائيًا متسع العوالم ومتسق العلاقات، وشهادة متأسية على انتصار الاغتراب على الحالمين. سار مخلصًا مع تقاليد المبدعين الذين يربطون بين الرواية والتاريخ ويصيّرون القول الروائي علاقة تاريخية.

"عدن، مدينة ارتكبت أحلامًا، تفوق طاقتها على التحمّل"- قول جاء في الاستهلال الروائي، حوّلته رواية زين إلى علاقات جمالية محتشدة بالأسئلة.

سرد الروائي أحلام عدن "الآثمة" إلى شخصيات وخواطر وصور. استهل الرواية بكابوس دقيق التفاصيل، يبعث على "الصراخ والفزع والهلع ويمزّق الوجوه"، ويدفع إلى التيه والسقوط والاختناق، و"يثير الغبار في تلك الأزقّة الملبّدة" بالظلام والأيدي الغليظة وهي تمسك بالسكاكين، تسطع شفراتها بأشعة مبهرة، فيما كانت الدابة تتهاوى في كيفية غريبة. ص 11. تدفع الأشعة المبهرة إلى نسيان الزمن، يفرّ الإنسان إلى الوراء مستذكرا أيام الإنكليز، ويفرّ إلى المستقبل ويتعثّر بأسلاك الحاضر. يتبقى للإنسان الحالم، الذي انتظر يمنًا سعيدًا، الوهن والحذر والمراوحة عن السديم والضباب، وتلك المراجعة المؤلمة التي لم يتوقعها اليمني الذي أراد تغيير العالم العربي.

 

"احتفظ الروائي اليمني، المتمهل في كتابته، باقتراح روائي خاص به، يضع في الرواية جملة روايات، ويعيّن الرواية فنًا كتابيًا، يتوسّد معرفة مركّبة، يسائل معنى المتخيّل الروائي وحدوده"

استذكر السارد زيارات الوفود الصديقة إلى عدن ورسم على سخرية متأسية: "كل ذلك يتركه خلفهم الرفاق الأكثر كلفة، الذين يزورون عدن، تارة ليشاركوا اليمنيين خبراتهم، وأحيانًا لتحصيل امتياز في مجالات الاستثمار المفتوحة للرفاق والدول الصديقة"، "يخلّفون وراءهم بقايا السيجار وسجائر إمبريالية، وأنواعًا جيدة من الخمور"، ونصائح تصالح بين قيادات الحزب، وقضايا عالقة تمهّد لخلافات جديدة.

"نجم أحمر فوق عدن"، أسقطته تكاليف الرفاق الأمميين، وعادات قبائلية أشد استبدادًا من التخلّف والاستعمار الإنكليزي، أضاء النجم الأحمر قليلًا وسقط متحولًا إلى رماد.

شكّلت رواية زين إضافة نوعية إلى روايات "الخيبة العربية"، حال رواية "اللاز" للجزائري الطاهر وطّار، ورواية الفلسطيني وليد الشرفا "ليتني كنت أعمى"، و"تلك الرائحة" للمصري صنع الله إبراهيم. احتفظ الروائي اليمني، المتمهل في كتابته، باقتراح روائي خاص به، يضع في الرواية جملة روايات، ويعيّن الرواية فنًا كتابيًا، يتوسّد معرفة مركّبة، يسائل معنى المتخيّل الروائي وحدوده.

إن كان دور المؤرخ أن يعيد في الصباح كتابة حلم طواه النسيان، فإن دور الروائي أن يسرد حلم الجماعات الذي يجب عدم نسيانه. وهو ما فعله أحمد زين في "فاكهة للغربان".







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي