الإبداع في زمن النكسات الإنسانية

2020-05-03

 الحبيب ناصري*

(سؤال لابد منه)

عديدة هي المحن التي عاشتها الإنسانية منذ أن خلق الله هذا الكون. حروب وزلازل وبراكين وصراعات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وتطاحنات داخلية وخارجية، إلخ. نكسات وأزمات، بعضها ما زال يدرس في مدارسنا وعلى امتداد هذا العالم، لكي يتم التأمل فيها واستخراج ما يمكن استخراجه من دروس وعبر.

الإبداع في العديد من مناحيه ولد من خلال هذه الانتكاسات، بعضه فضّل أن يكتب ويقال بلغة عامية قريبة من عامة الناس، وبعضه الآخر فضّل أن يقال بلغة عالمة وراقية، لا يتم تفكيك أسرارها إلا من لدن النخبة. غنى المغني وكتب الشاعر ورسم الرسام، ودوّن المؤرخ، وأبدع العالم، أي أن العديد من الإبداعات، خرج من رحم هذه النكسات، بمن فيهم أهل السياسة الذين بدورهم، خطبوا وصفق لهم أتباعهم. فهل فعلا «ذوق» الإبداع الذي يولد من رحم هذه الانتكاسات له الذوق نفسه لذلك الإبداع الذي ولد في ظل ظروف ميسورة؟ أم المقارنة هنا، لاداعي لها، لأن لكل سياقاته التاريخية المفسرة له، وقوانينه الداخلية المفككة له.

 عودة إلى زمن مراكش الجامعي

مازلت أتذكر وخلال مرحلة الدراسة الجامعية، بداية الثمانينيات، وفي كلية الآداب والعلوم الإنسانية في مراكش، وبالضبط في حصة محاضرة كان موضوعها يتعلق بالمفاهيم النقدية، لأحد الأساتذة الأجلاء من العراق الشقيق وهو حكمت الأوسي، إن كان على قيد الحياة فأطال الله عمره، وإن انتقل إلى جوار ربه، فرحمة الله عليه، وقبل البدء في محاضرته، قدّم لنا مدخلا حول طبيعة الأدب العربي القديم، وبالضبط ذلك النوع الذي ولد في ظروف جيدة (استقرارا اجتماعيا واقتصاديا ودينيا وسياسيا)، إذ أكد أنه أدب، كان خصبا وغنيا في متنه الشعري، وكان هذا مدخلا ممهدا لمحاضرته المتعلقة بالمفاهيم النقدية القديمة. وكعادة طلبة هذه المرحلة، وربما حتى بعدها وقبلها، كنا نفسر كل شيء وفق رؤية الصراع الطبقي والميل المطلق نحو طبقة الفقراء والفلاحين والعمال. لم أتمالك عوالمي الداخلية، فرفعت أصبعي طالبا منه الكلمة. رحب بي على الفور، كان باحثا كبيرا له وزنه في بلده وفي كليتنا خلال هذه المرحلة، وكان ردي «اندفاعيا»، مفاده، أن هذا الأدب لا يكون إنسانيا ولا قيمة له، لكونه ولد في ظروف ميسورة. قال لي هل لديك بعض الأمثلة وبعض الشروحات الإضافية. استحضرت الأدب الفلسطيني واستحضرت أدباء المهجر، من العصر الحديث، وعدت إلى المرحلة القديمة واستحضرت «أدب الصعاليك»، وبعض المقدمات الطللية والخمرية، وكيف كانت آهاتها قوية وإنسانية لكونها آتية من رحم الحاجة والفقدان. أصغى إليّ كثيرا، وحينما أنهيت كلامي، قال لي، مإ اسمك يا بني؟ ترددت في الكشف عن إسمي في ذلك المدرج الشاسع، وتحت نظرات العديد من الطلبة، الذين قاموا بليّ أعناقهم، وعيونهم الذابلة بالنضال وبترديد عبارات «يا رفاق انضموا انضموا»، نحو مكان جلوسي، في انتظار معرفة هل سأفعل أم لا؟ أصبت بالذعر معتقدا أن رفض فكرة ولادة الأدب من ظروف ميسورة، هو عمل سيعاقبني عليه هذا الأستاذ، منطلقا من تمثل «مرسخ» في الدماغ، أن تفسيره هذا هو تفسير طبقي نخبوي، عليّ أن أرفضه من موقعي كطالب، تشبعت فقط بأحادية فكرة الأدب المحددة في الرفض والمقاومة والصراع ضد من هم فوق.

  مهما كان، ولادة جديدة ستكون لهذا العالم الذي أرهقته الحروب، وفتن أهل السياسة، بحثا عن مواقع لهم هنا وهناك… وفي الضفة الأخرى إنسانية راغبة في الاستمتاع بحقها في الحياة والجمال

لم يلح على ضرورة ذكر اسمي، وهذا ما جعلني أتنفس الصعداء صحبة «الصعاليك» الأعزاء في تلك المرحلة. فرح بما قلت والتفت إلى بقية الطلبة في المدرج، وقال لهم ما معناه، إن زميلكم يناقش بشكل «كويس» وجميل يستحق التنويه، واستمر في تلخيص ما قال، وأضاف ما قلته، لينتقل في ما بعد إلى جوهر المحاضرة الرئيسية والمتعلق ببعض المفاهيم النقدية عند القدماء.

 عودة إلى الإبداع والنكسات الإنسانية

ما الغاية من استحضار، هذه «الحادثة» الجميلة التي مازالت راسخة في الذهن، على الرغم من مرور ما يقارب الأربعين سنة عليها؟ عجيب اشتغال دماغ الإنسان، وهو مقبل على القيام بعمل ما، إذ سرعان ما يكون في خدمته ويذكره ببعض الوقائع المتشابهة. بمجرد ما قررت كتابة هذا المقال، الذي غايته، أن ألفت النظر إلى طبيعة العديد من أشكال الإبداع التي بدأت تكتسح الساحة الإعلامية الورقية والإلكترونية والتلفزيونية، الخ، وفي مجالات عديدة كآلات التنفس الاصطناعي، التي برع فيها العديد من الشبان العرب (تونس والمغرب والجزائر)، ومن بلدان أخرى، إلا و«قفز» ما سبق أن سردته، وكأنه يريد الخروج ليسكن هنا فوق هذا البياض، ولكي تتم قراءته من لدن من سيقرأ هذا المقال.

فعلا، من الممكن الحسم في كون الهزات التي تقع في تاريخ البشرية، عادة ما تكون خصبة على مستوى مظاهر الإبداع. لنتأمل مجال التشكيل والشعر والرواية ومجالات أخرى علمية وتقنية، إلخ، لنستخلص فعلا جماليات ما أبدع وولد من رحم هذه الانتكاسات، ليعلو من جديد صوت العقل والقلب معا، مناديا بضرورة إعادة البناء، وفق رؤية مخالفة لما كان سابقا، ووفق ما حل بالبشرية من هزات.

أكيد أن العديد من الدول اليوم بحكامها وشعوبها، بأغنيائها وفقرائها، وبكل مكوناتها الشعبية والرسمية وبمثقفيها وعلمائها، سيستخلصون العبر والدروس، في أفق تجديد السياسة بقراراتها، والاقتصاد بنسبه المئوية التنموية، ما يجعلنا فعلا نؤمن بأن قدرة التغيير من خلال هذه الهزات، واردة جدا إن نحن فعلا بنينا رؤى جديدة غايتها البحث عن المنح من خلال هذه المحن.

سينتهي زمن كورونا وسنبقى نحكي العديد من حكاياتها، بل، حتى على مستوى من ولد، والفيروس منتشر، سيؤرخ لولادته بكورونا حيث سنة 2020، ستدخل التاريخ من بابه الواسع، كسنة مميزة بولادة هذا الفيروس الذي لا ندري فعلا هل هو من فعل فاعل، أم هو ولادة طبيعية من سلالة الفيروسات؟ في جميع الحالات، كيف من الممكن ليّ عنق هذا الفيروس، إن كان له عنق، وتحويله إلى منطلق جديد في حياة المجتمعات الإنسانية وعلى أمل أن يتقارب الكبيران في هذا العالم (الصين وأمريكا)، لقيادة هذا العالم، ويتركان كل الناس في هذا العالم يستمتعون بحياتهم، بعدما تأكدوا أن ما قبل ظهور فيروس كورونا، لعبة سياسية وما بعده ستتعمق اللعبة السياسية، من أجل البحث عن المنافع والمكاسب، في أسواق ستخلع عنها ألبستها القديمة بحثا عن ألبسة جديدة. فهل من الممكن، أن يكون لهذا الفيروس اللعين، ذلك الدور الجميل في ولادة رؤية جديدة خادمة للإنسانية ورادة الاعتبار إلى أهل العلم والمعرفة، عوض تشجيع التفاهات، وجعلها «أيقونات» إعلامية مسوقة للتيه والابتذال، ومن ثم السيطرة على قلوب وعقول الناس، في أفق تبضيعها وتضبيعها؟

مهما كان، ولادة جديدة ستكون لهذا العالم الذي أرهقته الحروب، وفتن أهل السياسة، بحثا عن مواقع لهم هنا وهناك… وفي الضفة الأخرى إنسانية راغبة في الاستمتاع بحقها في الحياة والجمال. فالله جميل ومحب للجمال. فهل من آذان صاغية وعاشقة للإنسان ومفكرة في كيفية إسعاده عوض «تعليبه» وبيعه في سوق الأسهم؟

 

  • كاتب من المغرب






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي