وحي موسيقى وظل حلم

2020-04-08

نجم الدراجي

المدينة معمدة بالصمت، وغارقة في النوم، وذاهبة إلى العدم إلا من هذيان الأشباح المعدنية.. لم يخطر له التعارف مع عالم أشباح جامدة إلا من خلال تلك الهياكل المعدنية، لكل شبح ظل رمادي يعتم الزوايا كخيمة مهترئة لا تقي حرا ولا بردا.. لا دهشة لحالة اليد المستلة من كيانه، التي قدر لها أن تخيم فوق رؤوس الناس.. هي الكف التي تنكأ جراح الأمس. لا إثارة لما تفعله يد الصنم الآخر…

لم يعد (آسر) ذلك الصبي الصغير في تلك المدينة التي حصدت أرقاماً من سنين عمره، وفي المقابل تعاظمت أشكال الأشباح.. فهي تأكل كل شيء، وتشرب مياه النهر، وترتشف قطرات المطر.. تطفئ المشاعل وتحتل المعاقل. من طبائعها الليلية النباح حتى الفجر، رداً على وقع أقدام الدراويش، وفي الصباح تتجسس على آهات العتالين.. هذه الرؤوس المعدنية تسكنها روح شريرة، تتلون بسخريتها.. بجنونها، تارة مخادعة، وأخرى محاربة. آسر لم يرق التآلف معها، ولطالما استهجنها وكفر بها، وتمرد عليها.. يقال: ما يحدث من تحديات ما هي إلا لحظات عجنتها أيادي القدر، ولكن آسر يبرئ القدر من آثام التعميد. كم هي في حاجة إلى لحظات جنون تدفئ أجواء الصمت، وعواصف تتسلل من بين أغصان الأشجار..

في كل صباح يصافح شاطئ النهر، ويثرثر مع أمواجه، يتابع متاهاته مع تبدل وجوه النهر، ومتاهة آتية تلقي به في معهد الموسيقى.. في المعهد أصوات تنتظر لحظة الغوص إلى أعماقه.. يبدو أن الأحلام مازالت راقدة.

هذا الصباح تأخرت التدريبات، وأغلب الأصدقاء محبطين، ولكن سحر الموسيقى حين يلامس النهر الساكن تتحرك أمواجه.. آسر يقفز محيياً صعود صديقته ماري إلى موقعها، أقصى يسار المنصة لتعزف على آلة البيانو.. ماري تبدأ العزف لتسمح لأسرار روحها بالظهور، وعزفها ينشد الحلم ويصارع الحقيقة: تأملاتي المفعمة بالحيوية تطرد الخيبة والوهم، وثمة تراسل ساحر كثيف يأسرني، وخيالي يسافر نحو أفق بعيد.. هناك تتوهج الحياة.. وهنا أوهام تغلفنا.. الأشباح تطاردني والظلام يبتلعني.. ألتحف ظل حلم مستحيل.. عساه يأخذني إلى محطة النهار.

في المساء اقتربا من جدران الكنيسة الرمادية التي تلتصق بها قاعة الموسيقى، اعتادا ملامسة أحجار جدرانها العتيقة، وتحسس أنفاسها..

متى تحل المعجزة وتصير لكِ أجنحة ملائكة شبيهه بتلك المندسة في غيوم المدينة البعيدة؟ وقد حلت فيك روح قصر (غارنييه).. عزف موسيقى ورقص بالية، ولوحات فن تشكيلي ومكتبات. ماري تلتحق بفرقة المعهد.. لقد بدأ الحفل.. ترانيم العزف: رمق السماء.. الحلم بعدالة السماء.. الصمت.. حزن عميق.. الخلاص.

ماري: لم يعد مجدياً الالتصاق بالواقع. فالتحديات كبيرة جداً، والعواصف تقتلعني وتدفع بي إلى نقطة بعيدة…

الآن ثرثرتها حرة تتناغم مع جريان نهر(السين) وتتألق مواهبها في أحضان قصر (غارنييه) المدينة جمالها نابض.. ساحرة ومدهشة.

هذه المدينة مسكونة بالإلهام، والمواهب تتشكل من أذواق متعاقبة، وقداسة وسحر وفنون وموسيقى.. كل شيء هنا يسحرني ويشعرني بالحرية..

أشاهد العشرات من التماثيل المنحوتة ببراعة الإنسان وإمضاء التأريخ في الساحات والشوارع والحدائق، لا شك لامستها أرواح فنانين وملهمين لتغدو بهذه الجمالية.. متاحف بلا جدران.. حرة طليقة تمثل هويتها الأبدية..

ثمة مقطوعة من وحي الموسيقى.. مبدعة متدفقة من عزف ماري على البيانو ترسلها إلى آسر: الألحان التي تتحرر إليك من بين أناملي.. هي أنفاس لكلمات أغلفها بالضباب، وآمل أن يحرسها بعناية، وأخشى عليها من الضياع.. أدعو لها أن تمطر في حدود منفاك..

صديقها الذي هو الآخر صار منفياً خارج حدود التعميد، بعد استشعاره بدنو الخطر.. صار مغترباً إلى منافي أعماقه البعيدة تلاحقه الأشباح البغيضة.

يعترف بأنه أخطأ حين تعلق بأذيال القدر الساخر. على أي حال – ما أعانيه من مصاعب خارج أسوارها أفضل بكثير من الإدمان على تنفس الرماد..

أعترف بأن أعماقي تواقة إلى لحظات تسكنها ترانيم ماري، وعالم الموسيقى، وظل الحلم المستحيل.. ها أنا ألتجأ إلى أعماقي، وأعوذ بكتاباتي من السكون المزمن.. أعود محاولاً مسح آثار الغبار المتراكم عن وجه الحياة..

أيتها المدينة التي أتعبت صفحات التأريخ، والموغلة في القدم. إطمئني فما زالت التناقضات والمعتقدات تحج إليكِ، والحقيقة أن كل الكلمات من دونك فاقدة المعنى.

 

  • بغداد






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي