ناتالي…

2020-03-28

شادية الاتاسي*

قالت لي صديقتي الإسبانية ناتالي، إنها سترحل في الغد، وتعود إلى بلدها.

تجمعني مع ناتالي حكاية قديمة، حكاية الفردوس المفقود، حكاية تشاركناها في زمن غابر، التاريخ والانتماء، والمدن والقصور والعطور، القصائد وموسيقى الموج، وحكايات الحب المستحيل، دفء الشمس، وكثير من الأجداد والجدات.

ناتالي كانت تقول لي دائماً بلكنتها الموسيقية المغردة نحن ـ الجيران المتوسطيين ـ تسكننا الروح القلقة الشغوفة بالحياة، لكن يؤرقها دائماً ذلك التوق المبرح إلى حلم مستحيل.

كنت أجد في ناتالي، شيئا مني يشبهني بقوة، ربما هو شعاع الروح المتوسطية، الملوحة بالشمس والزاخرة بالحلم، التي تعطي للأشياء الصغيرة الذائقة والروح. الصور الحميمة المركونة على جدران بيتها، صور ثرية، انفلتت من زمن عابق بالذكريات، أشخاصها تكاد تخرج من إطارها وتشاركنا الحياة، تذكرني ببيتي الدمشقي، أبناء ضاحكين، ونسوة سمراوات بملامح قوية، وملابس سوداء حزينة، ورجال متعبين. كثيراً ما قصت لي حكاياتهم التي تشبه حكاياتنا.

عريشة «المجنونة» الصغيرة التي تبعث فيها شمسنا الربيعية قوة الحياة، فتهوش بشراسة وتنمو كما تشاء، وفي كل مكان، في الساحل والداخل، تتباهى بألوانها الزاهية. كانت حاضرة في بيت ماتيلدا، تتسلق إفريز البلكونة، لكنها هنا تنمو على استحياء بألوان كابية، فالشمس هنا تفتقد الجذوة التي تشعل في الأشياء لهيب الحياة. الأغاني والموسيقى، ورنة الغيتار، كانت حاضرة بقوة في بيت ناتالي، العشق يجرح الوتر، والشوق يدوَزن الصول، والشجن يلاعب الصوت، كنّا نسمعها ونحن نرتشف القهوة الإسبانية، وأحيانا العربية، بفناجين صغيرة مزخرفة، ونبتسم لماض كنّا متفقين على أنه كان لنا فيه مكان لا ينكره التاريخ.

اليوم، كان البيت فارغاً، حزيناً ووحيدا، ذكرني بمشاهد الرحيل التي مرّت في حياتي

الجدران باردة، ورنة الغيتار سكتت، و«المجنونة» اختفت. فقط فنجان القهوة المعتاد، ارتشفناه بصمت، في الصباح البارد، على الطاولة الصغيرة والوحيدة التي بقيت في البيت. أهدتني أصيص «المجنونة» الباقي، وأهديتها صندوق الموزاييك الدمشقي المصدف. طالما اختبأت من مواقف الوداع، وطالما خفت من النهايات الناقصة، التي تأتي مغايرة لكل ما توقعناه. الرحيل كان دائماً ضيفاً ثقيلاً، موجودا بقوة على مفارق طرق حياتي. رحيل من أحببت أن يبقى، لكنه رحل بدون وداع.

 

  • كاتبة سورية






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي