رحلة إنسانية

2020-02-23

لوحة للفنانة نهاد الترك

نجاة زعيتر*

خصتني بعنايتها هذا الصباح، أعدت لي قهوتي الثقيلة، أخرجت لي بذلة الأحد، مسحت حذائي الرياضي، ركزت جيدا على بقعة كنت قد تجاهلتها منذ مدة ولم أجتهد في إزالتها.

قالت لي عندما أدرجت ملاحظتي وهي تغادر إلى المسبح: لا يهم فنحن لا نقيم بأحذيتنا.

لم تلاحظ قلقي وإصراري على الإعتناء بالصغير ليل نهار، أمس استيقظت مرتين، الشيء الذي لم أفعله أبدا منذ ولادة ابننا، أي منذ سنتين.

  في قريتي المتقشفة حتى الحمير والبغال تتمنى الهجرة.. فما عدا المدرسة التي أهترأت جدرانها، والجامع الذي لا يؤمه سوى العجائز، والمقهى الذي يكتظ ضجرا ووسخا، لا شيء يثير الانتباه

سألتني إن كنت بحاجة إليها قبل أن تغادر؟ لكنني اكتفيت بتحريك رأسي نفيا.

التقيت بها في مطار العاصمة الفرنسية، كانت عائدة من رحلة إنسانية من السودان، وكنت أحمل القليل الذي أملكه وجئت باريس طالب علم، تلك حجتي للهرب من قريتي العائمة في الفقر والتخلف، لم أخجل من الرد على ابتسامتها، الشيء الذي كنت لا أجرؤ عليه قبلا.

هي لا تستطيع أن تنكر أنني كنت لطيفا ولا قريبا إلى قلبها، نفذت كل رغباتها، عاشرتها بمقاييسها، لم أناقشها يوما ولم أفرض عليها

شيئا من ثقافتي التي يبدو أنني استغنيت عنها تماما منذ وضعت رجلي على أول درج في الطائرة التي أقلتني إلى هنا.

أحيانا أحس أنها تستفزني أن أفعل وأعارضها، فقد كان يجب أن أحتج حين أطلقت على ابننا اسم “جوهان”.

تزوجنا وأنا طالب، جاء باريس بجواز سفر وكثير من أحلام الطلبة الأجانب التي سرعان ما تتيه وتتبدد في الشوارع الباريسية بين فواتير الغرفة، ووجبات المطاعم، وغسل الثياب، وبعض السجائر، وزجاجات “بيرة” من ذلك الصنف الرديء البخس ثمنا.

لكنني حين التقيت بها، هي الفرنسية المحبة للبشر دون التدقيق في جنسياتهم وألوانهم، لم أتردد أبدا في التدرب على بعض الرقصات الحديثة كي لا أخجل من مرافقتها إلى النوادي التي يرتادها الطلبة في العادة، لكنني لم أخطط للتورط معها في بعض تفاصيل حياتها التي لا تشبه في شيء تفاصيل فتاة باريسية في العشرينات من عمرها، “آن” لم تكن تجيد الرقص فحسب، فهي ذكية دون خبث، وسع قلبها مشاكلي العويصة وأسئلتي الوجودية، ملامحها الفاتنة التي استغنت عن كل أنواع الماكياج، كانت فقط تثير قلقي، أما أناقتها البسيطة فهي لا تستحي أبدا من الاعتراف بأنها تكتفي بالثياب المستعملة التي تقتنيها من هذه الجمعيات التي تجمع التبرعات بكل أشكالها من ثياب وأثاث وكتب وتعيد بيعها بأثمان زهيدة لتشتري بعائداتها مواد غذائية تتبرع بها على المشردين وكل من عبثت بمصيره عواصف الحياة المجهولة، بينما مرتبها كممرضة ليلية يخول لها الدخول محلات “شانيل” لو شاءت دون تردد.

وهي تدعوني إلى بيتها لأول مرة طلبت مني أن أترك سجائري خارجا، ثم شرحت لي بأنها لا تحب اقتناء ما يزيد عن حاجتها ولا ينفعها في شيء، حتى لا أفاجأ ببيتها الخالي من الأثاث “الديزاين” كما قد أتوقع.

بل أكثر من ذلك، فأغلب أثاثها مما يتخلص منه بعض جيرانها المغرمين بالديكور الجديد، وما قد تعلن عنه هذه المواقع المتخصصة في عالم المجاني. إنه أسلوب حياة يقتسمه أغلب الشباب الأوروبي الحديث الذي لا يريد أن يساهم في تحميل الأرض من القمامة أكثر مما تحمل، أنا الذي لا يحمل من المبادئ سوى إنقاذ نفسي والاعتناء بها، وتسليتها إن وجد!

قالت لي ذات مرة رميت فيها كيسا من البلاستيك: تخيل أن هذا الكيس سيستمر في تشويه الأرض لآلاف السنين، عدت التقطته، لم أعترض، كانت على حق، وكنت كالعادة لا أرى سواها، لكنني لم أعترف لها أنني أرمي بكل كفاحها من أجل البيئة في أول مزبلة تصادفني مع الأكياس والقوارير والأوراق والسيارات وبقايا المصانع.. و.. و.. و..، ولكنني بدل ذلك آمنت بعقيدتها واشتريت دراجة قديمة لأرافقها في جوالاتها الأسبوعية خارج باريس لجمع أكياس “البلاستيك” التي تنمو على الأشجار كفواكه سامة بألوان متعددة، هذا وصفها لمنظر الأكياس المتشبثة بأغصان الأشجار.

أسعدتها مبادرتي وفهمت أنني أخيرا وجدت السبيل إلى قلبها.

كنت أمني نفسي في ذلك المساء بمأدبة جنسية، لكنها أوضحت لي جادة قبل أن أدخل شقتها بأنها لا تمارس الجنس من أول ليلة، فهي من هذا الجيل الذي لا يستهلك الجنس بل يمارس الحب، وهي تفضل انتظار الحب بدل أن تتجرع هزائمه منذ أول ليلة.

 كان سطل الماء باردا على جسدي المشتعل أنا الذي كنت أحلم بليلة كالتي أشاهدها في أفلام يقظتي ونومي، وبمادة دسمة لحكاية ساخنة أرويها لشريكي الإيراني في الغرفة.

لكنها وعدتني بشيء دافئ بعد عودتها من رحلة إنسانية إلى فلسطين، جلبت لي بعض البرتقالات، وباقة زعتر، والكثير من المآسي عن شعب مضطهد، وأطفال يموتون من قلة الدواء والخبز، ثم أسرت لي أنها تبرعت بكل ما كان لديها من مال لإحدى الجمعيات التي ترعى اليتامى في غزة قبل أن تعود إلى فرنسا.. استمعت إليها دون أن أبدي رأيي، ككل طالب حاجة وبين حكايتين وبرتقالتين، عرضت عليها مشاركة حياتها، لم أخف عنها أنني قد أرحل إلى الجزائر إذا لم يسو وضعي بالزواج.

لقد كنت دائما سرة الكون  لا أرى سواها، ثم ما العيب فأنا لم أولد مثل هؤلاء بملعقة عسل.

في قريتي المتقشفة حتى الحمير والبغال تتمنى الهجرة.. فما عدا المدرسة التي أهترأت جدرانها، والجامع الذي لا يؤمه سوى العجائز، والمقهى الذي يكتظ ضجرا ووسخا، لا شيء يثير الانتباه.. فمنذ سنوات لا أحد عاد. بقي أمي وأبي وبعض كبار السن فقط ممن يصرون على الاعتناء بأشجار الزيتون والرمان. أما أنا فأظن إنني لم أرغب في الاعتناء بأي شيء أو شخص آخر سواي.

لم تخبرني لماذا قبلت الزواج مني؟ ربما اعتبرتها مهمة إنسانية فلم تتردد كما عادتها. صراخ طفلي بدأ يثير التساؤل، في المستشفى سألوا عن أمه ثم طلبوها على عجل، عملية الختان كانت صعبة، لكنها ناجحة.. عندما جاءت حملته، واختفت، عدت إلى البيت لم أجدهما.

 

  • كاتبة جزائرية






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي