اختطاف حُلم

2020-02-22

 عبدالله جنوف*

كان يسير ببطء على أرض ليّنة، ويفحص بعينيه آثارا كرهها، لا شكّ في أنّها الكلاب، أم هي الثعالب؟ أم تكون الذئاب؟ توجّس منها، أعاد فحصها.. لا.. لا.. هذه آثار كلب، ووقف يهامس نفسه: لقد طال الانتظار.. سأراها اليومَ أو غدا، لكنّني أمسِ قلّبتها واحدة واحدة، ليتني لم أفعل، ولكنْ تُرى هل يفسدها اللمسُ حقّا كما أخبرني الكبار؟ لا.. لا أظن. تذكّر أنّ أمّه أرسلته لجمع قليل من الحطب، فهذا عمله وعليه أن ينجزه قبل كلّ شيء، أقبل على عمله بسرعة ثمّ انطلق نحو العربة فرمى إلى جانبها ما جمع من أعواد يابسة وأغصان جافّة ورجع يعدو ليراها قبل أن تدعوه أمّه إلى الفطور..

- آه.. خمسة.. لم تفسدها أصابعي، خمسة.. انحنى قليلا، جثا على ركبتيه، أكبّ عليها، شرد عن العالم.. واجتمعت حواسّه فيها.. وخيالُه يطارد ثعلب اللّيل.. كيف السّبيل إلى دفع شرّ هذا العدوّ المستتر بالظلام؟ أنام عندها؟ أغطّيها بالحطب؟ الوجود الرحب يراه في أدحية ضيّقة منحوتة بإتقان عجيب، وخمسة فراخ ضئيلةٍ، بجلد أحمر، ومناقير مفتوحة.. همّ بالجلوس فأتاه صوت أمّه في حفيف السّنابل.. الفطور يا أحمد.. ملأ عينيه منها وانطلق يسابق سروره...

- خمسة فراخ.. لقد قلّبت البيضات أمس بين أصابعي.. ولكن لم يتخلَّف منها واحد.. خمسة... والله خمسة...

ابتسم والداه من شدّة سروره وجدّه، وقال أبوه:

- حسنا.. سنعود نحن إلى البيت وامكُثْ أنت هنا وذُدْ عن فراخك.. فإنّ الذّئاب والثّعالب تخرج باللّيل..

- الذّئاب... حسنا.. سأبقى..

جلسوا للفطور، وانتصب برّاد الشّاي يغنّي، وهو ينظر إلى غطائه يرتفع وينخفض فيحاكي بشفتيه قرعاته المتتابعة.. أمّي تقول إنّ النّار تشتدّ بحطب البريّة... في البريّة متعة واسترخاء لذيذ، ولكنّ وقت الجلوس قصير، فلا بدّ من الجدّ في الحصاد قبل اشتداد الحر.

قام والداه إلى العمل وجعل هو يطوف بهما ويسمع حكاياتهما ويسقيهما كلّما دَعَواه.. ويلتقط السنابل الساقطة منهما، ويحصد أحيانا فيرى أنّه يعمل عمل الكبار وينتشي بلذّة غامرة في ثنائهما عليه...

لم يعد إلى فراخه ولكنّه لم ينسها لحظة واحدة، وجاءت القبّرة فحلّقت وغنّت وحطّت في الوكر بين السّنابل، زيارة سريعة ثمّ عانقت الأفق.. وعادت نفسه تهامسه.. عجبا كيف تهتدي إلى فراخها في هذه المزارع الشّاسعة؟ أليس للقُبَّر جميعا فراخ؟ فكيف تعرف كلّ قبرة وكرها؟ وكيف تأنس فراخ ضئيلة في هذه القفار؟ تمنّى أن يرى القبّرة مع فراخها.. ترى كيف تطعمها؟ ألا تغفل عن أحدها؟ كيف تعلم الفراخ الصّغيرة أنّ هذه القبّرة أمّها حقّا؟ الكبار يقولون إنّ الله يهديها، فتطوف في كلّ مكان ثمّ تعود إلى وكرها، وإنّ إزعاجها حرام عقوبته النار في الآخرة.. ارتعش فجأة من نار يخاف منها ولم يعرفها.. ثمّ التفت إلى أمّه.. لو أنّني أغمضت عينيّ لعرفت أمّي من بين جميع نساء الدّنيا.. أعذب صوت صوت أمّي، ولا يد ألطف من يدها.. التقط سنبلة وجعل يعدّ حبّاتها.. وقلبه في الوكر بين الفراخ..

اشتدّ الحرّ، ولكنّه ألف الشمس الحارقة على صغر سنّه، وهو يحبّها أيضا ويعشقها.. استند إلى العربة ووضع يديه على عينيه ورفع رأسه فجعل بصره يتسلّل من بين فَتَحات أصابعه يغالب أشعّة الشّمس ليرى القبّر الذي ملأ الفضاءَ غناؤه، حاول مرّات كثيرة فلم ير شيئا.. والزّقزقاتُ تأتيه من كلّ مكان، وازداد للطير حبّا وبه أنسا، وجعل يغالب الشّمس مرّة بعد مرّة.. كأنّه يرى شيئا يدنو.. وقف.. كشف عن وجهه.. ثلاثة من طيور البحر، هكذا يسمّيها النّاس، وكثيرا ما تساءل: هل يعيش الطير في البحر؟ ولكنْ هكذا يقول الكبار وتقول أمّه.. طيورُ البحر منظرٌ ألفه كثيرا في الحصاد.. إنّها تطير على مهل، ولا تحلّق عاليا، وكم تمنّى أن تقع يوما في فخّه، ولكنّها لا تقع على الأرض، ولا يذكر أنّه رآها يوما تسير كالقبّر.. لم يرها إلّا طائرة.. ولكن.. عجبا.. إنّ أحدها ينحطّ بسرعة ويطير.. أمّي.. انظري.. والثّاني أيضا.. تقدّم خطوة.. دفعه الحبّ والحرص ومنعه الخوف واليأس، والثّالث كذلك.. أبي.. أمّي.. مرّات متتابعات.. لم يدْرِ أيّها وقع مرّتين.. ولكنّه أسرع إلى الوكر بعد انصرافها فوجده فارغا...

 

  • كاتب من تونس






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي