سعر مفتوح

2020-01-23

طالب الرفاعي*

عادةً لا يجيء أحدٌ للإرشيف بعد الثانية عشرة والنصف. خلصْ، قلتُ لنفسي، وخرجتُ من خلف مكتبي المغطى بالملفات. تمغّطتُ رافعاً يديَّ إلى الأعلى، قبل أخذ مكاني بخفسة مقعدي على الكنبة الطويلة بجلدها العتيق. سأعودُ لإكمال قراءة رواية «السيد الرئيس» للكاتب أستورياس. بهدوء دخل مراسل الوكيل: «السلام». رفعت رأسي: «وعليكم السلام» أشار إليَّ وشيء من ابتسام يعلو وجهه: «تعال معي» اعتدلتُ في جلستي. وصوته: «سعادة السيد الوكيل يطلبك حالاً» «يطلبني أنا؟» نظرَ إليَّ وكرر: «يالله تعال».*

                                          ٭٭٭

«أعرف أنكَ تحب القراءة وتصادق الكتب»، بادرني سعادة الوكيل بنبرة هادئة، وشارب أسود يلمع بصبغه. كانت المرة الأولى التي أدخل مكتبه. «القراءة حياة ثانية بالنسبة لي». قلتُ، لكنه انعطف قائلاً: «لابدَّ أنكَ تعرف الكتّاب». تلاقت نظراتنا، فسألته: «عفوا، أي كتّاب؟» سكت لثوانٍ، قبل يسألني: «هل تعرف كاتباً عالمياً؟» ما فهمت قصده. أردت إخباره أنني أقرأ رواية لأستورياس. أكمل: «الوزارة تريد شراء كاتبٍ عالمي».

لا أدري كيف شقّت ابتسامة عابرة طرف فمي.. حطّت لحظة هدوءٍ بيننا، فبعث شارحاً: «ليس لدينا كاتب محلي يستطيع الحصول على جائزة نوبل للآداب، ونريد أن نكون مبادرين للحصول عليها». تكلّم بجدية وهدوء: «دولٌ كثيرة تشتري رياضيين وإعلاميين مشاهير، ونحن سنشتري كاتباً عالمياً، نمنحه جنسيتنا، ونتقدم به لنيل جائزة نوبل للآداب». فاجأتني الفكرة، ونطَّ سؤالي: «تشتري كاتباً؟» نظر إليَّ مُصحِحَاً: «الدولة، وليس أنا»، وربما لأنه أحسَّ بتفاجئي، أكّد: «الفلوس تشتري كل شيء. ولأنك مواطن مُدمن قراءة وتعرف الكتّاب، وقع الاختيار عليك لإعداد هذا الملف وتقديم الترشيحات». هاجمتني صورٌ كثيرة لوجوه كتّاب عرب وعالميين أقرأ لهم. وصوته: «نريد كاتباً تحظى كتاباته باهتمام عالمي، يؤهله للحصول على نوبل للآداب، وبسعر مفتوح».

اعترضته قائلاً: «لجان نوبل معقّدة وسرية»، شوّح بظاهر كفه قائلاً: «لا عليك من لجان نوبل، نحن نتكفل بها»، ابتسامة خجولة نبتت على وجهي، فقلت: «أي كاتب عالمي، يعرفه القراء، ومؤكّد أنهم يعرفون وطنه»، ظلت نبرته بهدوئها وهو يردّ: «لا اعتراض» «لكن..»، قاطعته: «الكاتب سيأتي بتجربة حياته وذكرياته وقناعاته، وهذا زاد كتاباته». «لا يهم»، عاد يكلمني: «نحن سنمنحه جنسية بلدنا، ويتم ترشيحه لنوبل، وسيأخذها». «أنا لا أصلح لهذه اللعبة». لا أدري كيف قفزت جملتي عليه. تحرك شاربه الأسود: «هذه مهمة وطنية، وعدد كبير من زملائك سيحسدونك عليها». شعرتُ وكأن جميع ما في غرفته يُبحلق بي، وأنه يتوجب عليَّ الانسحاب.. شراء كاتب، هذه نكتة! خاطبتُ نفسي، ويخبرني: «سأنتدب موظفاً آخر للقيام بأعمال الأرشيف». نهضتُ وارتباكي. بقيتُ واقفاً، وصوته: «انتظرُ منكَ ملفاً مفصَّلاً قبل نهاية الشهر بثلاثة أسماء على الأقل. إبدأ فوراً الاتصال ببورصة الكتّاب العالميين ووكلائهم».

شراء كاتب! ظلت العبارة المدببة تطنّ برأسي، وتتدحرج أمامي في الممر. دخلتُ غرفة مكتبي، سحبت رواية «السيد الرئيس»، ومشوَّشاً سارت بي رجلاي إلى الموقف. ركبتُ سيارتي. أنزلتُ زجاج النوافذ، وما أن تحركت حتى عرض السؤال إليَّ: «هل سيقبل الوكيل بشراء كاتب عربي؟».

 

  • روائي وقاص كويتي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي