السفرجلة اليابانية

2019-12-18

 جون جالزورثي*

ترجمة: خلف سرحان القرشي

عندما فتح السيد نيلون – وهو أحد رجال الأعمال المشهورين – نافذة غرفة ملابسه المطِّلة على ساحة (كامبدن هيل)، شعر بإحساسٍ جارحٍ في حنجرته؛ لم يعهده من قبل، كما أحسَّ بخواءٍ تحت أحد أضلاعه. وعندما همَّ بإغلاق النافذة، استوقفت نظره شجيرةً صغيرةً بدأت أزهارها تتفتح، وقال لنفسه:

” ياله من صباحٍ رائعٍ! أخيرًا أقبل الربيع”!

تناول المرآة العاجية، أمعن النظر في وجهه فوجد أن عينيه الرماديتين الصافيتين المحدقتين بصرامةٍ تنبئ عمَّا يتمتع به من صحةٍ جيِّدةٍ.

ارتدى معطفه الأسود، نزل درجات السلَّم متجهًا إلى غرفة الطعام حيث وجد صحيفته الصباحيَّة مطويةً فوق المنضدة، وما إن مدَّ يده يتناولها، حتى اعتراه ذلك الإحساس الغريب الذي يعاني منه.

ألقى نظرة من خلال نافذة الغرفة، ثم غادرها هابطًا درجات السلم اللولبي حيث الهواء الطلق. في تلك الأثناء دقَّت ساعة الحائط معلنةً الثمانية. بقي نصف ساعة على موعد الإفطار:

“سأتجول فيها على الحديقة”

هذا ما جال بخاطر السيد (نيلسون).

تقدم ليقطع الممر الدائري، وهو ممسكٌ بالصحيفة وراء ظهره، ما إن أتمَّ دورتين حتى بدأ إحساسه بالألم يتزايد، شرع يأخذ أنفاسًا عميقةً حيث أنَّه سمع ذات مرة طبيب زوجته يوصي بها، غير أنَّ تلك الأنفاس قد ضاعفت من إحساسه بالألم عوضًا عن أن تخفف منه.

تذكر ما تناوله البارحة من طعامٍ غير أنَّه لم يتذكر شيئًا غير عاديٍّ. من المحتمل أنَّ بعض الروائح هي التي سببت له هذا الإحساس، ولكنَّه أيضا لم يتذكر أيَّ رائحةٍ غير مألوفةٍ صافحت أنفه سوى رائحة الليمون الزكيَّة التي كانت تعبق من الشجيرات المزهرة عند الشروق. وبينما كان موشكًا على استئناف نزهته ترامى إلى سمع صوت طائر الشحرور، الذي شرع في الغناء. وبنظرةٍ متأنيةٍ رآه السيد (نيلسون) جاثمًا على شجيرةٍ صغيرةٍ على بعد خمس ياردات تقريبا.

أرجع السيد (نيلسون) النظر بفضولٍ على تلك الشجيرة؛ فتبين له أنَّها تلك التي لفتت انتباهه من النافذة قبل خروجه، تعلوها باقةً من الأزهار اليانعة ذات الألوان البيضاء والقرنفلية، بينما أشعة الشمس تتلألأ عبر أوراقها الصغيرة الخضراء الساطعة ذات الشكل الدائري والرؤوس الحادَّة. لاحظ (نيلسون) إنِّ تلك الشجيرة مفعمةٌ بالحيوية والجمال، وبدلًا من أن يواصل سيره، فضَّل البقاء هناك يتأملها، والبسمة تعلو شفتيه. وبدأ يحدِّث نفسه قائلًا:

” كم هو جميلٌ هذا الصباح. إنَّني الوحيد في الحي الذي خرج إلى الحديقة، بل …..”.

لم يكد ينتهِ من فكرته هذه، حتى وقعت عيناه على رجلٍ بالقرب منه، واضعًا يديه وراء ظهره، ونظراته تحدق في نفس الشجيرة وهو يبتسم. وعندما فوجئ السيد (نيلسون) بالموقف كفَّ عن الابتسام، وتطلع خلسةً إلى ذلك الغريب؛ إنَّه السيد (تاندرام)، رجل أعمالٍ مشهورٍ أيضًا؛ يقيم في المنزل المجاور للسيد (نيلسون). شعر السيد (نيلسون) بالحرج كونهما لم يجدا فرصةً للحديث مع بعضهما منذ زواجهما منذ خمس سنواتٍ تقريبًا، فراوده الشك فيما ينبغي أن يقوله الآن، غير أنَّه قرر أخيرًا أن يتمتم:

ـ صباح الخير.

فأجابه جاره قائلًا:

ـ حقًّا إنَّه صباحٌ جميلٌ في فصلٍ كهذا.

لاحظ السيد (نيلسون) أنَّ في صوت جاره شيئًا من القلق. أجال فيه النظر، إنَّه في نفس طوله تقريبا، له وجنتان ورديتان، وشاربٌ منظَّمٌ يغلب عليه اللون الأسمر، وعينان رماديتان صافيتان محدقتان. يرتدي معطفًا أسودَ، كما أنَّه ممسكٌ بصحيفة الصباح وراء ظهره، ونظراته تتجه إلى الشجيرة ذاتها!

ازداد شعور (نيلسون) بالحرج، وقال بصورةٍ مفاجئةٍ مضطربةٍ:

– ما اسم هذه الشجيرة؟

وردَّ عليه السيد (تاندرام) قائلًا: ـ

– هذا ما كنت أود أن أسألك عنه الآن!

تقدم (تاندرام) باتجاه الشجيرة التي اقترب منها السيد (نيلسون) أيضًا، وهو يقول:

– مؤكَّدٌ أنَّ اسمها مكتوبٌ عليها. هذا ما اعتقده.

وهنا رأى السيد (تاندرام) لاصقةً صغيرةً قريبةً من المكان الذي كان طائر الشحرور جاثمًا عليه، وقرأ ما كتب عليها بصوت عال:

– “السفرجلة اليابانية”.

– آه. أظن ذلك. إنَّها من الشجيرات التي تبكر بالأزهار.

أيدَّه السيد تاندرام بقوله:

– نعم.

وأضاف:

– هناك شعورٌ بالمتعة في الجو اليوم.

قال السيد (نيلسون):

– لعلَّ سببه غناء طائر الشحرور.

– إنَّني أفضل هذا النوع من الطيور على طيور (الدُّج) لامتلاء صوته في التغريد.

قالها السيد (تاندرام)، وهو يوجه نظرةً وديَّةً إلى السيد (نيلسون)الذي تمتم قائلا:

– تمامًا.

وأضاف متحدثًا عن الشجيرة:

– إنَّها من الأشجار الغريبة جدًا. إنَّها لا تؤتي فاكهةً، بيد أنَّ أزهارها رائعةٌ.

وانحرف بنظره ثانيةً إلى زهور تلك الشجيرة، وحدَّث نفسه عن جاره السيد (تاندرام) قائلًا في سره:

” إنَّه شخصٌ لطيفٌ. إنني أحبه”.

في نفس اللحظة تقريبًا حدَّق السيد (تاندرام) في الزهور، وفي الشجيرة، وكأنَّها استدعت انتباههما باهتزازها وتوردها بينما ترامى إلى مسامعهما صوتًا صافيًا أطلقه طائر الشحرور. هنا خفض السيد (نيلسون) نظره، وحدَّثته نفسه بأن جاره السيد (تاندرام) يبدوأحمقَ بعض الشيء مما حدا به للقول:

– يجب أن أذهب. إلى اللقاء.

عَلَّت وجه السيد (تاندرام) سحابةً قاتمةً، وكأنّ نفسه أيضًا حدَّثته بشئٍ ما عن السيد (نيلسون) فأجابه بقوله:

– إلى اللقاء.

عاد السيد (نيلسون) يجر خطواته ببطءٍ نحو نافذته التي تطل على الحديقة، متجنبًا الوصول إلى منزله في نفس الوقت الذي قد يصل فيه جاره السيد (تاندرام)؛ الذي كان يرتقي درجات سلمه الحديدي الدائري، بينما يرمقه السيد (نيلسون) بنظراته، وهو أيضًا يصعد درجَّات سلمه، غير أنَّه توقف عند آخر درجةٍ في السلم، وألقى نظرة إلى الشجيرة – التي بدت له وقد تخللتها أشعة شمس الربيع المائلة – أكثر حياةٍ من كونها شجرة، وكان طائر الشحرور قد عاد إليها، وبدأ يشنف الفضاء بأعذب الألحان.

تنهد السيد (نيلسون)، عاوده ذلك الإحساس الغريب في حنجرته، ولفت انتباهه صوت جاره السيد (تاندرام) وهو يتنهد أيضًا تحت النافذة، بينما كانت نظراته مصوبةً إلى شجرة السفرجل الصغيرة.

فجأةً دخل السيد (نيلسون) داره، وفتح جريدته الصباحية وهو يشعر بقلقٍ غريبٍ.

  • روائيٌّ وكاتبٌ مسرحيٌّ بريطاني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي