المعزول

2019-12-15

 محمد محمد المعلمي*

ظل حدث تعيينه وزيرا حديث المجالس إلى حين عزله؛ هو الذي كان أقصى طموحه أن يبلغ درجة ضابط كبير. ومنذ تنصيبه في حفل رسمي هيمنت عليه أوهام غيرت مجرى حياته رأسا على عقب، فخيل إليه أنه خالد في منصبه، وأن ريح التغيير التي عصفت بمن كانوا أولي قوة وأولي بأس شديد، لن تزحزحه عن كرسيه الوثير، جراء ولائه الشديد لأولياء نعمته.

وفي ليلة صيفية صافية الأديم، سمع نبأ عزله كسائر الناس، يُبَثُّ على أمواج الإذاعة وشاشة التلفزيون في غمرة حراك شعبي خرج ينادي برحيل المفسدين في الأرض. مادَ به المكان وأحسَّ بالاختناق، ثم ما لبث أن ابْيَضَّت عيناه وسَدَرَ في إغماءة عميقة، فلما أفاق أخذ يتحسَّسُ أطرافَه ويسأل من حوله:

ـ ماذا أصابني؟

ـ هل دسَسْتُم لي شيئا في شَرابي؟

قالوا:

ـ حاشا أن نريد بك سوءا وأنت وليُّ نعمتنا.

قال:

ـ كم لبثت؟

قالوا:

ـ لبثت يوما كاملا في غيبوبة ظننَّاك لن تفيق بعدها أبدا.

قال:

ـ بئس ظنّكُم، وخاب فألُكُم. أغرُبوا عن وجهي، لا أريد سماعَ لغْوِكُم. هيئوا لي حقيبتي المعلومة. إني على موعد مع اجتماع بالغ الأهمية في قصر المؤتمرات ستحُجُّ إليه وفود رفيعةُ الدرجات من أقطار جميع القارات.

قالوا:

ـ استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وخذ جرعة من قارورة الدواء الذي وصفه لك طبيبك الخاص لما هرول إليك البارحة لإسعافك.

قال:

ـ إني في كامل قوتي، وما أصابني لم يكن سوى عارض ناتج عن إرهاق العمل. ألا ترون أنني أواصل الليل بالنهار لأداء مهمتي. نادوا لي على سائقي الخاص ليوصلني إلى الوزارة، فلا أرى أحدا فيها بمستطاعه تعويضي في مهمتي. من له علم بأزرار أسرار وزارتي غيري، ومن هو قادر على إصدار القرارات والتعليمات مثلي…

قالوا:

ـ أشكر ربك أن منَّ عليك بعمر جديد، بعدما نجوت من غيبوبة قلما أفاق منها من مرّ بها.

قال:

ـ هاتوا لي هواتفي المحمولة، وقرِّبوا لي هواتفي الثابتة. إنهم في انتظاري على أحر من الجمر. أريد أن أُبَشِّرَهُم أَنّي قادم إليهم لألقي خطاب الافتتاح.

أحضروا له هواتفه كلَّها، وكُلَّما ركَّب رقما انقطع الاتصال ولا مجيب. ظل برهة يترقَّب رنين أحدها بدون جدوى.

انتفض كالمسعور:

ـ ما لها لا تجيب فإلى أمس كان رنينُها معي في كل مكان…

قالوا:

ـ استرح، فقد بلغت من العمر عتيا، وقضيت زمنا مديدا متربعا على كرسي وزارتك حتى لقَّبوك بعميد الوزراء.

قال:

ـ أشعر بالاختناق بينكم. أحملوني إلى وزارتي. إني أريد أن أموت فوق كرسي مكتبي.

قالوا:

ـ أنَّى لنا بذلك والبيت محاط بحراسة مشددة، ومقر الوزارة اقتحمته أفواج المحتجين الغاضبين الذين جاؤوا من كل حدب وصوب ينادون بمحاسبتك ومحاكمتك.

قال:

ـ أنا؛ أنا أحاسب وأحاكم، بعدما أخلصت للقَسَم بأن أؤدي مهمتي بصدق وأمانة.

قالوا:

ـ لقد اكتشفوا تلاعبات خطيرة في صرف اعتماداتِ ميزانية وزارتك، وأن جلَّها كانت تمتصُّه جيوبُ مَنْ غَصَّ بهم ديوانُك من أبناء أتباعك وحواريِّيك.

قال:

ـ إنها مؤامرة ولو كانوا صادقين لما امتد بي المقام في وزارتي كل هذه السنين.

قالوا:

ـ عد إلى رشدك، وأنت سيد العارفين، وتعلم علم اليقين أن الذي أبقاك في منصبك تمتُّعُك بحماية الذين كنت ترعى مصالحهم، وتغدقُ عليهم الصفقات المربحة لمشاريعهم. وها هم اليوم قد استغنوا عنك بعدما اغتنوا بك.

قال:

ـ لا تنسوا أني كنت وما زلت وفيا ومخلصا للمنظومة التي أوصلتني إلى الوزارة، لقد كنت أداة تنفيذ ليس إلا.

قالوا:

ـ لقد تبدلت الأحوال، فالمحتجون الغاضبون هم الذين عزلوك اليوم، وهم من يطالبُ بمحاسبتك ومحاكمتك.

قال:

ـ لن يظفروا بمرادهم، وإني ذاهب إلى وزارتي لأفضَّ تجمهرهم بقوة القانون.

قالوا:

ـ لا طاقة لك ولا لغيرك بزحف آلاف الغاضبين.

وهو يهُمُّ بالخروج، صَدَّهُ عند عتبة الباب الداخلي لقصره المنيف شاب من الشِّداد الغِلاظ الذين أُمروا بتطويق المكان إلى أجل غير مسمى. تجمد الدم في عروقه، وجف حلقه، واضطرب خفقان قلبه، وتصبب عرقا، ثم ما لبث أن طأطأ رأسه وانسحب إلى الداخل لينزوي في غرفة نومه، فاعتزل أهله، وسخط على الناس جميعا… مرت أيام حسبها سنين، وذات صباح وجد في هاتف من هواتفه المحمولة التي أصابها البكم رسالة قصيرة من زميل دراسة قديم يقول فيها:

ـ لا تحزن، واعلم أنك كنت محظوظا لنجاتك من بطشة الغاضبين الذين اقتحموا مكتبك في الوزارة، وفعلوا ما فعلوا بمحتوياته ونمارقه وزرابيه…

 

  • كاتب من تطوان ـ المغرب






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي