أسئلة شفوية

2019-11-26

 رضا نازه*

تبا! العاشرة! هبَّ صلاح من الفراشِ إلى الكُلية بدون إفطار. اكتفى بحبَّاتِ زبيب مدَّها إلى فمه، كتلك التي كانت أمُّهُ تعطيها له صغيرًا بحنان، كلَّ صباحِ امتحان. سارَ تارةً يسرع وتارةً يتباطأ حتى لا يصل اللهاث إلى العقل، وتتبعثر مادة الأستاذ حمرون: «تاريخ الفكرة الوطنية والعقد الاجتماعي المُواطَنَاتِي» لم يتنفس الصُّعَداء حتى بدا مدخلُ القاعة الكبيرة غاصًّا بالطلبة والطالبات. تقدم نحوهم حتى غاصَ فيهم وغاب. كان الذكور أقلية، بينما الإناثُ، كُنَّ جمهورا مِن شِفاه لافتة مصبوغة مكفنة بأحمرٍ قانٍ، لا تكف عن الكلام. كأن الامتحان الشفوي مشتقٌّ منهن، واسمَ الأستاذ مِن حُمرتهن.

لم يعرفْ صلاح أيًّا منهن ولا هُنَّ عرفنَه. كان دائم الغياب عن المحاضرات بحكم عمله الشاق في محطة القطار.

أطل في بطن القاعة، لم يحضر الأستاذ حَمرون بعد. تنحى بعيدا يستردُّ أنفاسَه ويلتمسُ دقيقة صمتٍ ترحُّمًا على روح الصمت.

وسرعان ما وجد صلاح نفسَه مُحاطا بشفاه أخرى، حضرت مِن بعده وملأت المكان كلاما عن يمينه وعن شماله، ومن أمامه ومن خلفه. كأنهن مئاتُ المضيفات يُعلنَّ بالمكبر دفعةً واحدة تأخرَ دخول القطار إلى المحطة.. التفت صلاح لجارته. وجدَهَا تتحدث مع جارة أخرى عن الأسئلة المتوقعة. تأمل الشفاه الحمراء. من فرط الكلام انحسر اللون الأحمر إلى الحافتين، وعاد ملتقى الشفتين إلى لونه العادي، بل بدا شاحبا بفعل التضاد. ولم تلبث الشفاهُ الحمراء أن همست: «الأستاذ حمرون.. الأستاذ حمرون!» صلاح لم يرمقه بعد، ولا يدري هل كان حضورا أمِ استشعارًا عن بُعد. هب الجميع إلى القاعة كأنه يومُ محاضرة، ثم بدا الأستاذ للعَيَان حين انحسروا عنه. كان قصيرا نحيفا يحمل حقيبة جلدية عتيقة، وكان في أنفه خَنَسٌ لافِت. تأمله صلاح. إنه يصلح أن يكون أستاذَ قانون عقاري، بتفاصيل ظهائره ومساطره وتعقيدات التحفيظ والتسجيل ونزع الملكية، لا أستاذَ مادة عنوانها من قرنِ فولتير وروسو ومونتسكيو..

دخل الأستاذ المهيب على قِصَرِه يتبعه من تبقى من الطلبة. استغرب صلاح. التفت لتلتقي عيناه بشفتين حمراوين بجانبه، ما زالت حمرتهن كاملة. سألها:

* ألا يدخل الطلبة القاعةَ واحدا واحدا لاجتيازِ الشَّفَوي؟

– لا .. لا.. عادةُ الأستاذ حمرون أن يُدخِل كل الطلبة ويمتحنَ الواحد تلو الآخر على الملأ..

انقبضَ صلاح. كيف له أن يتحدث بطلاقة أمام جمهور غفير مليء بشفاه حمراء قانية مثل عيون ثالثة متربصة. طمأنَتْه. الأستاذ حمرون يفرض الصمت والكل مشغول بنفسه. وذلك أشد. ليتهم لا يتوقفون عن الدردشة كيلا ينموَ إلى سمعهم شيء من خطأ أو صواب. وغصَّت القاعة بالمُمْتَحَنين وتربَّعَ الأستاذ حمرون على كرسيه. فتح حقيبته.

أخرج ملفا فيه أوراق عليها جداولُ خاناتُها صغيرة كأنها أوراق رهانٍ وقِمار. أخرج قصاصاتِ طفق يصنع منها مطويات صغيرة. قمارٌ وقُرعة..

مرَّ الطلبة تَتْرَى. كل طالب يجلسُ فيُخرِج كتابا من محفظته، يضعُه عن شِماله بدون اعتراضٍ من الأستاذ حمرون. كأن المراجعَ مأذونة. لكن المطبوع يلبث مغلقا بينما الطالب يغمغم أجوبتَه، ثم يقوم حاملا كتابه بيمينه وينصرف.

حين حل دورُه، جلس صلاح ينتظر الإذنَ باختيار ورقة قرعة، لكن الأستاذ حمرون لم يأذن له. نظر إليه نظرةَ حانوتِي وسألَه عن كتابِه هل اقتناه وأينهْ. اعتذر صلاح بنسيانه في البيت، لكن الأستاذ نظر إليه نظرةَ ارتياب، ثم إنه لا يعرفه ولا يراه في المحاضرات. ذكَّرهُ صلاح معتذرا بإكراهات العمل في محطة القطار، وأنه سبق وأخبره بذلك ونال منه إذنا في بداية السنة. بدا الأستاذ حمرون قد نسي أو لم ينصت إليه أصلا يومَها.

زاد ارتباكُ صلاح حين أزاح الأستاذ مطويات القرعة وأخذ يقصِفه بالأسئلة من كل صوب وحدب، حتى صار المسكينُ يكررُ نفسَه، وسكت. كأن قاطرته توقفت في خلاء، وساد صمتُ عَطَبِها بعد ضجيج. التفت الأستاذ حمرون إلى جمهورِ أحمرِ الشفاه، وكسرَ الجدارَ الرابع قائلا:

* هل تعلمون سبب تأخر القطارات؟

عَمَّت دهشةٌ صامتة وتوَجُّسٌ من سؤال جماعي خارجَ السياق. كأن سيدا خاطبَ الخدمَ دفعة واحدة بدل محادثتِهم فردًا فردًا. نذير توبيخ. أشار حمرون للطالب المُمتَحَن:

– لأن مثل هذا الرجل يشتغل هناك..

احمرّ وجه صلاح. رُسوبٌ وإهانة. حشفٌ وسوءٌ كيلة، كأن حجرا قد صَلْصَل حين حط في قعر بئرٍ جافة، مثل جفاف حلقه. لبث يحملق، يريد فعل شيء. هل يقوم وقد زاد طولا على طوله يلكُمُ ويكدِم ويركُل. هل يكسرُ مكتب الأستاذ ليريه كيف أن قطارا دخل المحطةَ قبل الوقت وصدم مسافرا متهورًا لم يستعمل الممر السفلي. تمالك نفسَه وهدَّأها، وابتلع غيظه مثل حبات لوز مُرَّة لا يمجها عادة لأجل منفعة ما فيها. قام وتناول ملفه من فوق المكتب. خطَا خطوات تتبعُه وجوهٌ عيونُها شِفاهٌ وشِفاهُها عيون. التفت عند الباب وقال:

– أنت.. أستاذ بوحمرون، وليس حمرون.. اعلم أنني قد أعيد هذا العام والعام المقبل.. وقد لا أنال هذه الشهادة ما دام بوحمرون في جسد الكلية.. وقد أضطر إلى الهجرة والفرار إن كان جميعُ الوطن قد أصابَه بوحمرون وقدْ، وقدْ، وقد .. لكن سأنالها يوما ما.. بينما أنت.. ستبقى مثل قصير اللخميّ مُجدَّع الأنف حتى تموت!

 

  • كاتب مغربي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي