وكان يومٌ آخر

2019-11-24

إسكندر نعمة

لم يكن ذلك أمراً مُفاجئاً.  لم يكن قفزةً فرضتْها ظروفٌ آنيّة.  كلُّ ما أدريه، أَنّني عبر مخاض الزّمن البطيءْ، وجدْتُ نفسي أتململ في ثنايا مشاعر مُغايرة.  أتخبَّطُ في إسار أمواج محنَّطة باهتة من حياة لا نكهةَ فيها ولا لون.  من دون أن أدري وجدتُ نفسي أنتقلُ من ضفّة الحياة المُمرِعة المُخصِبة إلى ضفّةٍ أُخرى ظامئَة مُمْحِلة.

لم أكن أعرفُه من قبلُ.  جمعَنا ذلك المعملُ.  كان يبعد عن بيتي قليلاً، ويبعد عن بيتِه مسافةً لا تزيد كثيراً.  في ذلك المعمل التقيْتُ حازماً، وفي أجوائِه جرى بينَنا ذلك التّعارف التَّقليديُّ الباهت.  معملٌ يُنتجُ الحقائبَ الجلديّة بأَنواعها وأشكالها وألوانها المتعدِّدة.  كنتُ أُشغِلُ منصبَ " سكريتيرة " المدير.  أمّا هو فكان المشرفَ على المبيعات.  بأعصابٍ هادئة باردةٍ تعارفنا، وعبرَ العمل اليوميِّ تعدَّدتِ اللّقاءاتُ، وانطوتِ الأّيّام.

ولكنّني مهما نسيتُ، فلن أنسى ذلك اليوم.  كان حازمٌ مشحوناً بالغضب، منفعلاً حتّى الثُّمالة.  وجهٌ مُحتقِنٌ بالتَّوتُّر الطّائش.  حاولَ جادّاً ألاّ يبدوَ عليه ذلك، لكنّه فشل.  لم يُفلِح.  كلّ شئ فيه كان يفضحُ سريرتَه.  يداه تهتزّان بلا نظام.  عيناه مُزْورَّتان بما يُنبِئُ عن انفعال داخليٍّ يتمرَّدُ على السَّيطرة.  كلُّ نأْمة فيه تُشعِر بالخوف.. شعرُه.. لونُ عينيه.. شفتاه.. كلُّ ملامحِه، تحوَّلت إلى ما يُشبه لونَ المُنتجاتِ الجلديّة التي يطرحُها المعملُ كلَّ يوم بلا توقُّف.

كان ذلك مفاجأَة حادَّةً بالنّسبة لي.  لم يكن حازماً الذي تعرَّفْتُ إليه مِن قبلُ في رُدُهات المعمل ومكاتبه وأجوائِه.  كان إنساناً آخر.  أمّا اليوم... فلستُ أدري!؟ .

ما أزالُ أذكرُ ذلك اليوم.  هو في الذّاكرة راسخٌ لا يحول.  ولكن لم تمضِ فترةٌ قصيرةٌ من الزّمن، حتّى تصالحْتُ مع التّناسي ومن ثمَّ ارتبطْتُ مع حازم برباط الزَّوجيّة.. أصبحنا زوجين مُتحابّين. كلُّ ما حولنا ينضحُ بعلامات السّعادة والهناء والاسترخاء، ويرسمُ آفاقاً مُشرقة لحياة مُطمئِنة، ويلوِّنُ أَيّامنا بأَطياف قوس قُزح.

سارتِ الأَيّامُ مساراً آخرَ.  نخلَها غربالُ الزّمن.  انعطفَتْ من دون أن أستطيع أن أكبحَ جماحَها، ومن دون أن توقظ في نفسي علاماتِ التّنبُّه واليقظة.  وجدتُ نفسي من دون أن أدري أُغادرُ الضِّفّةَ المزهرةَ اليانعة من الحياة، إلى الضِّفّة الأُخرى المُمحلة المُتصحِّرة..  كيف حصل ذلك !؟.. لستُ أدري!.. لعلَّها البلادةُ والتَّهويمُ وراءَ أسراب موغلةٍ في الأَوهام الهلاميّة قد  حملتني على أجنحتها.

أصبحتُ أكره ذلك المعملَ.  ذلك المعملُ الذي كان في يوم مضى ملاذيَ الدّافئَ وموطني الآمن.  أصبحتُ أكرهُه.  بتُّ أنظرُ إليه كأَنّه ذلك الهيكلُ الفولاذيُّ الصّلبُ الكئيبُ.  ذلك المنفى الذي يخلو من كلّ ملامح الهدوء والاطمئْنان.  أُغمضُ عينيَّ فلا يلوحُ لي ذلك البناءُ الجميلُ بسقفه الآجرِّيِّ الأحمر الباذخ والمهيب. بل أتصوَّرُه حفرةً سوداءَ كئيبة في مواجهة السّماء والفضاء الأزرق البهيّ.

تركتُ العملَ في المعمل. ذلك الحضنُ الذي كان في أيّام مضَت مصدرَ سعادتي ورونقَ حياتي.  تركتُ العملَ، وانكفأْتُ ألوبُ بين جدران البيت وعبرَ دهاليزِه.  انطويْتُ على نفسي.  كتمتُ مشاعري لِتَتفاعلَ مع أَعصابي وأَيّامي، فتضَعني في أحضان الصّمت والمرارة.  لم أُفصِح عن أَحاسيسي هذه لأَحد وخاصّة لحازم، بل تركْتُه يتصوَّرُ أنّني أقاربُ الحياةَ من أجمل زواياها وأحلى نكهةٍ فيها.  كتمتُ عنه كلَّ شئٍ لأنّني كنتُ على يقين أنّه كان يحبُّ المعملَ أكثرَ من أيِّ شئٍ آخرَ في حياته.  كان دائماً يطمحُ لأَن يرى اسمَهُ مُعلَّقاً في قائِمة الشَّرف على تلك اللّوحة الأَلكترونيّة المُضاءَة بالأَلوان الكهربائيّة الجذّابة.  كان المعملُ كلَّ شئٍ في حياته.  لقد كان الرّبح وبيعُ كلِّ ما يُنتجُه المعمل، أَوَّلَ وآخرَ ما بسعى لأَجله

كان الهدوء يغلِّفُ حياتنا اليوميّة وأنا قعيدةُ البيت.  بل لعلَّها كانت تبدو كذلك.  لم أكن أَسعى لأَن أَقذف مياه البحيرة الرّاكدة بحجر فأُعكِّر هدوءَها وصفاءَها الظّاهريّ.

في كلّ يوم.  كان حازمٌ يستيقظُ باكراً.  يحلو له أن يُغنّي وهو يأْخذُ " حمّامه " الصّباحيّ..  يتناولُ طعام الإفطار بهدوءٍ جمّ وصمتٍ مُطبق.  تلاشتْ من حياتنا كلّ ألوان تبادل النّظرات والابتسامات وتداوُل أَطراف الحديث.. كان دائِماً يستغلُّ هدوءَهُ وصمتَه ومضْغَهُ البطئَ لِيقرأَ زاويةَ أخبار التّجارة والعمل في جريدته اليوميّة.  بعد ذلك يطويها بإِتقان وينصرف بهمّة ونشاط إلى المعمل.  يقضي أحلى ساعاته.  هناك حيثُ كان لِقاؤُنا الأَوّل.

كان يوم حازم مقسوماً بإِتقان إلى أربعة أَقسام.  مشاهدُ تكرِّرُ ذاتها، لاتحيدُ ولا تتبدَّل.. المشهدُ الصّباحيّ.  المعملُ بفترتيه، قبل الظّهر وبعده.  ورابعُه المشهدُ المسائيّ.

هاتفُ البيت أصبح أخرسَ صامتاً.  يرنُّ فقط رنّتين لا غير لِيُخبرني أّنّه آتٍ للغداء.  دقائق معدودة، أسمع صوتَ مداعبةٍ هامسة بين المفتاح وقفل الباب الرّئيس.  على طاولة الغداء يقرأُ.  لم يكن حازم مثقّفاً ولاهاويَ ثقافة أو إبداع أو فنٍّ أو أدب.  لكنَّه كان يُجيدُ فنَّ الكلمات المتقاطعة، وتتبُّعَ أخبار المبيعات.   

يعودُ حازمٌ إلى المعمل بعد الظّهر.  يُنفِقُ فيه وقتَه حتّى السّادسة مساءً، لِيعودَ مُثقلاً بالمتاعب وهموم العمل.  في المساء يبدو هادئاً، لكنّه يُعبِّرُ عن صُعوبةِ يوم حافلٍ بِالإرباك والشُّجون.  فهو بحاجة ماسّة لأن يجلس صامتاً ويستريح ويفكِّر.  غالباً ما كان يجلسُ مُغلَقَ العينين، مُسنداً مرفقيه إلى الطّاولة، ضاغِطاً جبينَه بين الإبهامين والسُّبّابتين.  كثيراً ما كان يُعدِّلُ من جلسته ويُحدِّقُ عبر النّافذة نحو الفضاء الخارجيّ ويستسلم للتّلاشي.  في كلّ ليلة يذهبُ حازمٌ للنّوم باكراً.  يُعلنُ بسرور أنّ النّوم المبكِّر يُجدِّد العزمَ والاستعدادَ لاستقبال يوم جديد آخر.

أُغمضُ عينيَّ وأتذكّر.  أتيه في عالم من أحداثٍ مضت.  أنسابُ ببطءٍ وراء استعادة ذكريات كانت في يوم مضى جميلة أنيقة زاهية.  أتذكَّرُ أيّاماً سعيدةً قضيتُها في رحاب ذلك المعمل حيثُ كان لقاؤنا الأوّل.  تتسمَّرُ في أعصابي صورةُ ذلك اليوم الذي تمزَّق فيه حازمٌ مُنفعِلاً غاضباً، فأَقفُ مشدوهةً لا أستطيع لذلك تفسيراً.

 

                              *                     *                     *

 

ذات يوم غصْتُ بعيداً في متاهات الأحلام.  أسرجْتُ خيول الجموح والتّصوُّرات.  لعلّها طارتْ بي إلى حيثُ لا أُريدُ ولا أَدري.  خلتُني أركضُ في منعطفات زواريب متداخلة، ترتفعُ على جنباتها أبنيةٌ أسوارُها من غيوم مُثقلَة بالمطر والثّلج.  كان يوماً جديداً ولكنّه يوم من طرازٍ آخر.  يومٌ مختلِفٌ جدّاً.  لم يكن كأَحد أيّام حازمٍ الباهتة المُحنَّطة.  كانت عيناه ذابلتين حمراوين، وشفتاه ترتجفان بأَسىً.  لعلَّها المرّةُ الأولى التي أراه فيها يبكي بمرارة.

الليلُ يكاد يشرفُ على الانتهاء،  والفجرُ سريعاً ما يُعلِن عن قدومه.  السّماءُ مزيَّنةٌ باللّون القُرمزيّ اللّامع.  الشّوارعُ والأبنيةُ ما تزالُ مُجللّةً بالسّواد.  رائعٌ ذلك المشهد.  الأسودُ اللّامعُ في مقاربة الأحمر المُشعّ.  وأصوتُ انهياراتٍ مُتداخلة متواصلة، إلاّ أنّها ليست مُرعبةً مُخيفة.  كأَنّها أصواتُ جوقاتٍ موسيقيّة تتعانقُ وتصمتُ فجأَةً وتُعاودُ الانطلاق.  ومشاهدُ ألسنة من لهب، من نار ونور تنبعثُ في الأطراف المحيطة.

رائعةٌ تلك المشاهد.  الأحمر والأسودُ.  اللّهبُ النّورانيُّ.  طبولٌ وآلاتُ عزف تنشدُ ألحاناً غير مألوفة.  كم أُحبُّ ذلك!!.. حاولتُ أن أفتح عينيَّ فأُقاربَ تلك البانوراما السّاحرة.  لم أستطع.  بقيتُ مُتماهيةً مع تلك المشاهد الرّائعة.  أُحبُّ اللّيل.  أحبّ ما أرى.  ظللْتُ طويلاً مُنغمسةً في دفءِ الجمال والموسيقى، أتلذَّذُ بنكهة هذه اللّوحات الفنّيّة الممتعة، وأتمنّى ألاّ تزول.

اللّيلة..  كانت ليلة خاصّة. ليلة مختلفة، كأنّها من عالم آخر، من حياة تفترشُ النّجومَ والسّماء.  شعرتُ بأنّني مُتعبةٌ وسعيدةٌ بآن.  شعورٌ بالمرح والسّعادة يُدغدغُ مفاصلي ونبضَ حياتي، ويتركُني أتقلَّبُ على فراشٍ من حبٍّ وصفاء.  لا أحدَ يدري سرَّ هذه اللّيلة المُغايرة. ولا يستطيع اكتناهَ لُغز هذه اللّوحات الفنيّة المُذهلة.  ومن دون أن أفتح عينيَّ المأْخوذتين بالسِّحر والفتنة.  التفتّ ُفي حركة دورانيّة، لأَرى حازماً من بعيدٍ مُقبلاً نحوي.  فارداً ذراعيه.  تاركاً ابتسامتَهُ وعينيه للرّيح واللّيل.  

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي