مرآة الذات وصورة الآخر في روايات غالب هلسا

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2008-11-17
غالب هلسا يمثل على خريطة الرواية العربية أيقونة مهمة لها خصوصيتها وحالة خاصة من حالات الشأن الروائي

بقلم: شوقى بدر يوسف

لماذا كان علىّأنا الغريب عن هذه البلدة – أن أكتب تاريخها؟

غالب هلسا في "الضحك"

ننوه بأن موضوع هذه الدراسة أكبر وأهم من أن يعالج فى ورقة مبتسرة مثل هذه الورقة، حيث أن بانوراما الإبداع عند كاتب وروائي ومفكر ومنظّر مثل غالب هلسا أوسع وأشمل من أن نتناول بعض جوانبها في مثل هذه الإطلالة البحثية التي أخذت عنوان "مرآة الذات وصورة الآخر في روايات غالب هلسا"، وعلى الرغم من ذلك فإننا سنحاول في هذه الورقة وتحت هذا العنوان أن نستوفى دقائق وزوايا واقع ما كان يمثله هذه المبدع الحالة في ساحة الثقافة والإبداع السردي العربي المعاصر من وجهة نظر الذات والآخر.

يمثل غالب هلسا على خريطة الرواية العربية أيقونة مهمة لها خصوصيتها، وحالة خاصة من حالات الشأن الروائي الذي يجمع داخله ما بين المتخيل والسيرة ووقائع اجترار تاريخ الذات الاجتماعي والأيديولوجي في تجربة إنسانية وإبداعية مستمدة من واقعه الخاص الذي عاشه فعلا وعايش فيه مراحل تحولات حادة في الزمن العربي المعاكس.

وتمثل مرآة الذات التي انعكست عليها مسيرة حياته الحافلة بؤرة كبيرة انعكست بدورها على إبداعه الروائي وشكلت عالمه السردي الخاص قرابة ثلث قرن من الزمان، كما تمثل صورة الآخر في منجزه الإبداعي جانبا مهما استعاده هلسا في نسيج أعماله السردية جميعها وجسد من خلاله تجربة لها أبعاد متعددة كان لها تأثيرها الخاص على إبداعه الروائي على وجه التحديد بل وعلى ملامح أخرى من منجز الإبداع العربي المعاصر.

"وذات غالب هلسا في حد ذاتها وهي الباحثة عن نفسها، والمتفتحة على الآخر، وعلى العالم من حولها تريد أن تدرك المعنى وتمتلكه. فكل علاقة للذات بذاتها هي علاقة بالعالم والآخر، كما أن كل علاقة بالآخر هي علاقة بالذات. وهذا (الازدواج) تعبير عن وحدة صميمية مفقودة بين (الأنا) و(الآخر) في عالم يشترك فيه أكثر سكان روايات غالب هلسا بشعور ومطامح سياسية متماثلة، وهو شعور يتجاوزهم باستمرار نحو تأكيد خصوصية الوضع البشرى، حيث يكون الإنسان غائبا عن ذاته."

ولأن غالب هلسا من الأدباء الذين مارسوا أنواعا عديدة من الكتابة لذا فإن مرآة ذاته وعالمه الإبداعي كانا عملة واحدة ذات وجهين متناغمين، فقد كانت إسهاماته في مجالات القصة القصيرة والرواية والمسرح والنقد والفكر والتنظير والترجمة قد صيغت كلها من منطلق خاص وضع فيه غالب نسق الكاتب العائش حقيقته وأفكاره ورؤيته وتجربته الخاصة من خلال بعد وضع فيه خلاصة ما كان يعتنقه من أفكار ورؤى، ومن خلال نزعة رأى فيها العالم مختزلا في تجربته الحياتية والتي انعكست بدورها على كل ما كتب من أعمال قصصية وروائية بل وفي الأعمال التي تصدى لها في مجال النقد والترجمة، فقد كان اختياره لها من منطلق إنسجامها مع رؤيته الفكرية الخاصة.

فلا غرابة أن يكتب غالب هلسا هذه الكتابات المتنوعة ويكون منجزه الأدبي والذي أيقظ من داخله صور حياته التي عاشها متمردا ومطاردا واتضحت بجلاء ووضوح على مرآة ذاته من خلال هذا الإبداع الذي جسد كل تجاربه في الحياة بكل أحلامها وتأزماتها، كما أنها عمقت أيضا في نفسه هذه المشاعر الذاتية التي أثرت عالمه الإبداعي بكل الصيغ الممكنة وهذا الإتساق المعمق في الفكر والرؤى، حتى الموضوعات المسكوت عنها كانت قد أثارت في نفسه نوعا من التمرد والجرأة في تناول موضوعات التابو المعروفة خاصة موضوعات الجنس والعلاقات المحرّمة بين الرجل والمرأة في حياتنا العربية حتى أصبح هذا الأمر عمقا خاصا ومركز ثقل له تميزه في إبداعه واستثناء خاصا في مساحة رواياته.

يقول عنه د. فيصل دراج "كان أديبا خارج المدارس جميعا، يكتب كما يفكر، ويفكر كما يعيش مساويا بين الفردية الحقيقية والاغتراب وبين الاغتراب والبحث عن الحقيقة الهاربة."

عاش غالب هلسا الرواية كما يجب أن تعاش، وسرد وروى وقائع الحياة كما يجب أن تسرد وتروى، وكانت ذاته مرآة للواقع الذي اختاره هو والذي كانت سطوة الآخر بصورها المختلفة دائما ما تشكل تجاهه عقبة كؤود لواقع ما كان ينشده. فعاش شتات الذات وارتطم بالآخر في شتى صوره، وحاول هذا الآخر بشتى الطرق أن يسقطه ويكسر حدة تمرده، وتصادمت ذاته مع سطوة القمع عند هذا الآخر المتمثل أولا في السلطة المناوئة لفكره كما تمثل أيضا في صورة المرأة كما جسد خطوطها برؤيته وفلسفته الخاصة، كما ظهر أيضا في صورة الآخر صاحب الموقف المعاكس والمضاد في الانتماء والهوية. وقد انعكس ذلك كله على منجزه الروائي الذى أبدعه خلال سني عمره والذي قال عنه الناقد نزيه أبو نضال صديق عمره:

"لقد انعكست حياة غالب هلسا الحافلة على إنتاجه الفكري خاصة الروائي، بل إنني أعتقد بأنه من الصعب فهم أدب غالب دون فهم هذه الحياة ومعرفتها، ذلك أن العديد من رواياته يمكن اعتبارها مذكرات شخصية صيغت بقالب روائي."

من هذا المنطلق فإن القول بأن روايات غالب هى النسق البنائى لمكونات حياته منذ ولادته في قرية ماعين بالأردن وحتى رحيله في دمشق، فقد كانت هي الحقيقة الإبداعية كاملة، وهي أيضا العلاقات المكونة من مقاطع صغيرة غير مألوفة لا تخضع لقوانين الواقع بل هي تتبدى كلحظات محددة من حياته جسد فيها غالب كل مكوناتها بشخصيته التي خبرها الجميع، وهي في أحلك لحظاتها بل هي تتبدى كلحظات يقتنصها من الزمان ويمارس فعلها الحياتي في المكان الذى وضع فيه، فهو ينتج سردياته على أساس الهوية المعروف بها غالب والمحتفى بها داخل النص والتي تجسد حياته الخاصة بكل ما ورد فيها من وقائع وأحوال وتجارب، فهو جريس في رواية "سلطانة"، ومصطفى في "السؤال"، وإيهاب في "الروائيون"، وخالد في "البكاء على الأطلال"، والراوى في "الضحك".

أما رواية "الخماسين" فتحمل الشخصية الرئيسة في النص اسم غالب نفسه، وفي رواية "ثلاثة وجوه لبغداد" تحمل الشخصية المحورية اسمه غالب هلسا كما أنها في أحد مواضع النص نجد إشارة إلى مجموعته القصصية "زنوج وبدو وفلاحون" وهي علامة دالة على عمق وجود شخصية السارد الكاتب داخل النص.

ولأن غالب هلسا كان متمردا على ذاته ورافضا للحس الواقعي المباشر، لذا فإنه كان في صدام دائم مع هذا الواقع بكل مرواحاته، لذا نجد أن علاقة الأنا بالآخر في أعماله تأخذ مسارها من تجربته الذاتية، ينطلق ذلك من معظم ما كتب من أعمال روائية أو حتى من خلال تجربة الترجمة خاصة الإبداعية منها والتي كان يثق في دقائقها وخطوطها، ولعل اختيار العمل المطلوب نقله إلى العربية كان واحدا من أوليات التعبير الذاتي عنده، فكل عمل عنده كان له مركز ثقل خاص يبدأ من مرحلة العمل الأولى ويستمر معه مفندا ومفكرا ورائيا حتى الانتهاء منه، وكما يقول غالب في إحدى حواراته حول إبداعه الروائي والقصصي:

"هي فكرة تطرأ في الذهن، أو صورة، أو إحساس ما، وفي الغالب أتصور أن الشكل الذي يصلح له هو القصة القصيرة، فمعظم روايتي بدأتها باعتبارها قصة قصيرة. وأحيانا يكون إحساسا عاما، وأعلم أنني سأكتب رواية، ففي رواية (السؤال) كان إحساسي الأساسي هو الألفة التي يمنحها البيت أمام عالم خارجي معاد متربص، كان ذلك يشبه أن تكون في مكان دافئ، وفي الخارج يتساقط الثلج والبرد، هكذا كان إحساسي الأساسي في هذه الرواية، ثم اكتشفت أنه شق طريقه إلى موضوعات أخرى، هذا يحدث معى دائما."

حاول غالب الانتماء إلى فكره الذي اعتقد أنه يمثل هويته الثقافية فاعتنق أفكار اليسار واحتفى به في طريقة حياته، وكان ذلك هو رد الفعل الطبيعي على غربته واغترابه منذ صدر الشباب وكان إبداعه الروائي هو حصيلة أحلام يقظة دار فيها نوع من التخييل وتداعي خواطر الذات والحياة فكانت هذه الأعمال هي بذور إبداعه وهي بحث عن طريق جديد للرواية العربية المعاصرة، وكانت لغته المعتمد عليها في تأصيل هذا العالم الروائي هى البحث عن الذات الجياشة الحالمة التائهة، والبحث عن العلائق الرابطة بين الشخصيات المتحركة داخل نصوصه الروائية بلغتها المختلفة التى يفرضها واقع الإشكالية والموضوع المطروح فيها. وسنحاول أن نأخذ في هذه العجالة نموذجين من روايات غالب هلسا لتوضيح تلك الرؤية وهو ما ينسحب على بقية عالمه السردي المكون من سبع روايات ومجموعتين قصصيتين.

ففي رواية "الضحك" نجد أن هذا المجتمع المعتمد على سطوة القمع في كل ممارساته تتحول فيه الشخصيات إلى أشباه ضحايا ومأزومين حين تجبر جميعها على الاستسلام إلى واقعها المأزوم لذا نجد أن الرواية مزدحمة بالانتهازيين ومسلوبي الإرادة والضعفاء والمنحلين، ولعل الانتحار الذي طال كل من محمود وم . ن وعبدالكريم خير دليل على طبيعة ما يمثله هذا المجتمع من أزمات أخلاقية واجتماعية تغلغلت في نسيجه ووضعته على شفا الانهيار، وهو ما رأى فيه غالب انطباق المثل القائل "شر البلية ما يضحك"، والضحك عند الشخصية الرئيسة هو نوع من التمرد الذاتي تشهره الشخصية تجاه الحقيقة التي ترفض أن تعترف بها وتتحمل مسئوليتها لأنها تعرف أن هذه الحقيقة ربما تكون سببا في تدميرها، ولعل هذا المقطع المجتزأ من نسيج النص يدلل لنا عن جوهر الفكرة التي أراد غالب هلسا طرحها في هذا الصدد.

"وكإضاءة مباغتة اتضحت أمامي حقيقة الضحك المتشنّج .. المؤلم .. الكابوس الذي نعيشه ... إنه هو هذا بالذات: إنه وقوفنا فزعين حائرين أمام تلك التروس الطائلة المعطلة – اللغة والقيم والنظريات والمقدسات ... وإذا تحركت تلك التروس فسوف تتحرك بدوننا وستظلّ بالنسبة لنا معطلة .."

كما نجد أن الزمن يتشظى ويتماهى داخل النص مع مكوناته فاقدا لموقع الحبكة في البناء الفني للنص "حيث اختارت هذه الرواية أسلوبا معقدا في السرد، مرهقا أشد الإرهاق، لما تحفل به من (رموز) و(أحلام) و(ضحك) و(سخرية) و(عدمية) و(واقعية) وترواح بين أزمنة متعددة، وأماكن مختلفة، وتنقلات مفاجئة في (الزمان) و(المكان)، ولعل سبب الإرهاق يعود إلى البناء الفني المحكم الذي ظهر من خلال حرية ظاهرية منحها لنفسه، بدت، أحيانا، للقارئ المتعجل نوعا من العبث والفوضى، ولعل ما يلفت النظر أن المؤلف حاول أن يقسم الرواية تقسيما دقيقا، على نحو ما نرى في اصطناع المناهج العلمية الدقيقة."

من هنا نجد أن رواية "الضحك" وإن كانت تمثل بواكير وبدايات غالب هلسا الروائية إلا أنها كانت البداية الحقيقية لتجسيد ما كانت تحفل به ذاته من واقع خاص وعام في نفس الوقت.

النموذج الثاني الذي نود عرضه من مرآة الذات عند غالب هلسا هو رواية "البكاء على الأطلال"، ففي هذا النص تبرز أزمة البطل خالد حين تصبح الذاكرة عنده عبئا مضنيا عليه حيث الاغتراب والوحدة التي وجد نفسها فيها يسببان فقدان الزمن المنفلت والحبيب الذي ترك الأطلال وراءه.

ويعتبر هذا النص من أجمل ما كتب غالب هلسا، وهي مرآة حقيقة لذاته عكست الكثير من وقائع حياته وكان عنصر المكان والبيئة ضافيا على معظم نسيج النص وهي تقوم على التذكر والمرور بالذاكرة ناحية الطفولة والحنين إلى مرابعها وأماكنها الحميمة، كما أنها أيضا محاولة لاسترداد ما مضى من بئر الذكريات في المهباش وعذابات هذا الفتى الريفي خالد (غالب) ابن قرية ماعين ورسالته البسيطة العفوية والتي انطلقت من لسانه لتعبر عن صرخة جيل بأكمله:

"هو ذا أنا الإنسان عار من الخارج والداخل .. فاكتشفوا أنفسكم من خلالي.. واحلموا معي بوطن حر وسعيد وبعالم بلا اضطهاد."

ومن خلال خالد الذي تحاصره الذكريات من كل جانب وهو في ضيافة أسرة مصرية صديقة (شاب وزوجته وطفلتهما وقطة) هذا المناخ الأسري الذي يأخذه إلى ذكريات بعيدة تعيد له جوهر الحب والحنان المفقود.

إن لحظات البكاء على الأطلال داخل النص تجسد من خلال المكان وقائع التاريخ الاجتماعى على مستوى العام والخاص، على مستوى الذاتي والجمعي لشخصية خالد والوطن فتستحضر سيرة نافع بن الأزرق الجارحي الذي يشترى الجنة بدنياه نائيا عن المباذل الاستهلاكية المطروحة.

كما يبحث خالد عن جمال الدين الأفغاني في مقهاه الشهيرة بالعتبة. هكذا بدأت أزمة الاغتراب لشخصية خالد تهتز وتستحيل إلى وهم واقعي من خلال علاقة الشخصية بالمكان والإحساس بالعزلة عند خالد الذي رأى طفولته أمام عينه مرة في ماعين وهي هي في نفس الوقت في القاهرة.

من هذين النموذجين لإبداعات غالب هلسا نجد أن مرآة الذات عنده كانت مشحونة ومليئة بالمفارقات والمتناقضات التي عانى منها هو في حياته وبالتالي عانت منها شخصياته التي جسدها في أعماله القصصية والروائية.

الآخر وصوره المتعددة

استحوذ الآخر على فكر غالب هلسا متمثلا في صور عدة بعضها مباشر والآخر جاء على نحو غير مباشر، وقد مثل الآخر كبعد مواجه للرواية السيرية عند غالب هلسا نقطة إضافية مهمة إلى إبداعه ومذاقا خاصا يشعر به من يقرأه ففيه من وضعية غالب وذاته الشئ الكثير. فسلطة القمع كانت هي الآخر المباشر الذي عرفته حياة غالب هلسا واصطدم بها بطريقة المواجهة المباشرة حين طرد من وطنه الأردن وألقي به على الحدود الأردنية العراقية، ثم ما لبث أن لجأ إلى مصر ليعيش فيها هذه الفترة الثرية الخصبة من حياته ويعايش عالما أحبه وفرح به واستمد منه تكوينه الثقافي والفكري، ثم طوحت به الأيام بعد ذلك إلى العراق فدمشق فبيروت ثم اليمن.

كل هذه المنافي وهذه الأماكن كانت السلطة هي صاحبة اليد الطولى في طرد غالب من واقعه المعيش. لذا نجد أن صورة الآخر المباشر كانت ظاهرة وواضحة تمام في إبداعات غالب هلسا، كذلك كان البعد الأنثوى في إبداعه يمثل هو الآخر (آخر) مباشرا في إبداعاته، فأمينة في "الضحك"، وتفيدة في "السؤال"، وليلى في "ثلاث وجوه لبغداد" وأمينة وآمنة وسلطانة في "سلطانة"، وعزة في "البكاء على الأطلال" ونوال في "الروائيون" كن يمثلن الآخر في تجليات التجربة الروائية الخصبة عند غالب هلسا، وكن يشكلن في كتاباته محورا مركزيا له حضوره حتى حين سئل غالب هلسا عن ذلك "لماذا المرأة هي العنصر الرئيسي في رواياتك؟"

أجاب "أنا متحيز للمرأة. وتحيزي هو عملي. لأن المرأة من الناحية الروائية والفنية أكثر خصوبة من الرجل. ومن وجهة نظري ككاتب أجد أن المرأة كحس أقرب من الرجل إلى الحياة في تفاصيلها الدقيقة هي التي تصنع الفن، وهي التي تمر بمراحل جميلة جدا. كالطمث والحمل والولادة .. ولا يمكن لأي رجل أن يدرك هذه المشاعر."

وفي مجال التجربة والنقد نجد حضور الآخر في أعمال مترجمة ونقدية لغالب هلسا أصبحت تثير جدلا من حين لآخر كما أنها تطرح العديد من الأسئلة في هذا المجال الأول منها مرتبط بترجمة رواية الكاتب اليهودي جيروم ديفيد سالنجر "الحارس في حقل الشوفان"، لماذا اتجه غالب إلى ترجمة هذا النص؟

هذا النص المثير للجدل والذي كتب عنه النقاد بأنه نص غاضب ثائر على كل مظاهر الزيف والخداع. ولكن التساؤل الأكثر أهمية هو هل هذا النص فعلا يتسم بهذه الخصيصة؟

فمما قيل عن هذه الرواية أنها تصنف تحت ما يسمى بالرواية التكوينية أي الرواية التي ينتقل فيها البطل من حالة الضياع والفوضى إلى حالة الاستقرار والنضج. كما أن الأشكالية الكبرى التي أثارتها هذه الرواية هي لغتها. فالرواية مكتوبة بلهجة سكان نيويورك العامية والمستخدم فيها مفردات بذيئة منتقاة من ألسنة العامة المهمشين والذين يمارسون شتى أنواع الرذائل، بل إن بطل الرواية أيضا شخص سباّب ولعّان وشتّام فهو يعبر عن كمية الحقد والغل والغضب الموجودة داخله تجاه مجتمعه بل تجاه العالم كله.

وما قيل عن الرواية أيضا إنه عندما اغتيل عضو فرقة البيتلز البريطانى جون لينون وجدوا في يد القاتل نسخة من رواية "الحارس في حقل الشوفان" وقد جلس بعد عملية الاغتيال ينتظر حضور الشرطة وهو يقرأ صفحات الرواية، وحين حاول شاب آخر اغتيال الرئيس الأميركى رونالد ريغان وجدوا في غرفته التي يسكنها نسخة من نفس الرواية. كذلك أجبر أولياء الأمور في إحدى المعاهد الأميركية إحدى المدرسات على الاستقالة لأنها قررت هذه الرواية على أولادهم.

فلماذا اتجه غالب هلسا إلى هذا النص الروائي المثير للجدل ونقله إلى العربية؟

الجواب أن هناك حلقة مفقودة تتضمنها دلالات هذا النص الروائي الذى كتبه الكاتب الأميركى اليهودي ج . د . سالنجر. كذلك الدراسة التي وضعها غالب هلسا في نقد الأدب الصهيوني، وهي دراسة أيديولوجية ونقدية لأعمال الكاتب الصهيوني عاموس عوز حيث قام غالب بدراسة روايات "في مكان آخر ربما" و"تل المشورة الشرير" و"الحب المتأخر"، كما قام بترجمة رواية "الحروب الصليبية" لذات الكاتب نقلا عن الإنجليزية.

في هذه الأعمال التي تناول فيها غالب هلسا الآخر المباشر والمتمثل في أيديولوجية وفلسفة الآخر اليهودي الذي يمثل النتيجة الأخرى، وهي التحلل العقلي كما يقول غالب في دراسته والذي ينشأ عن العزلة العدوانية عن العالم والذي أحاط اليهود بها أنفسهم والتي عرفت في أيديولوجيتهم بـ "حارة اليهود".

وقد توصل غالب هلسا من خلال هذا التصدي النقدي لأعمال هذا الكاتب "أن النتيجة الأخيرة للفكر الصهيوني هو الاستغراق في هذا التحلل العقلي من خلال عمليتي الإسقاط والتقمص. أي أن الصهيوني يبرر إحساسه العدواني من خلال تصور أن الآخرين هم الذين يحملون هذا الإحساس العدواني ضده، ثم يعود ويستثير عدوانياته الخاصة من خلال تقمصه لعدوانية الآخرين التي خلقها وهمه. وهذه حلقة مفرغة تؤدي حتما إلى زيادة الروح العدوانية في الشخصية الصهيونية وإلى زيادة خوفها."

ولأن هذه العدوانية حلم محبط، فأي سلاح يمكن للصهاينة أن يخترعوه فيدمروا به العالم ويحولوا أهله إلى عبيد؟

ولكن هل يعني هذا أن (عاموس عوز) قد أصبح ضد وجود الكيان الصهيوني ذاته؟

وقد انتهى غالب إلى نتيجة من خلال قراءته لإبداع الكاتب الصهيوني، وهو أن عاموس عوز يحاول أن يخفي في إبداعاته السبب الأساسي لعدوانية الكيان الصهيوني، وهو أن الكيان الصهيوني يرمي أولا وأخيرا إلى اقتلاع شعب من وطنه والحلول محله حسب مخطط رسمته الصهيونية بالاشتراك مع الاستعمار الأوربي التقليدي، وبعد ذلك الاستعمار الجديد.

وكانت هذه النتيجة أيضا هي نفس النتيجة الخاصة بترجمته لرواية عاموس عوز والتي يحاول فيها الكاتب الصهيوني أن يضفي على إحدى مقولات الفكر الصهيوني طابعا علميا، فيفسر اضطهاد العالم لليهودي بعوامل اقتصادية أدت إلى هذا الموقف السلوكي المعقد من اليهودي.

فهل نجح عاموس عوز في ذلك؟

تلك كانت تجربة غالب هلسا في تصديه لنقد الفكر الصهيوني المتمثل في أدب إحدى كتابه الموجوين على الساحة الإبداعية. وأعتقد أن الأجابة على التساؤل الخاص باحتفائه بهذه الترجمات، إنما يكمن في قراءة هذه الأعمال وتعدين واستخراج ما يوجد داخلها من فكر وإشكاليات ومضامين تعبر عما يريد أن يسجله الآخر ويعبّر عنه في ساحة الفكر المعاصر.

___________________________________________________

* ملخص البحث الذي شارك به الكاتب في مؤتمر السرد العربي الأول بالأردن (دورة غالب هلسا) خلال الفترة 8 ـ 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2008.

 










شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي