
علوان مهدي الجيلاني*
تمثل رواية (نبوءة الشيوخ) للروائي بسام شمس الدين ثمرة اجتهاد يكاد –حدّ علمي – ينفرد به وحده بين جميع كتّاب السرد في اليمن، فالرواية الصادرة سنة 2019م عن دار ممدوح عدوان ودار سرد، هي روايته السادسة؛ بعد (الطاووسة) 2004م، و(الدائرة المقدسة) 2008م، و(هفوة) 2011م، و(لعنة الواقف) 2014م، و(نزهة عائلية) 2017م، إلى جانب مجموعتين قصصيتين سبقتها أيضاً، وعدة روايات تبعتها، حيث بلغ مجموع أعماله السردية منشوراً وغير منشورٍ خمسة عشر عملاً، وهذا إنجاز يليق بمبدع؛ يصعب أن تراه في يوم من الأيام إلا عاكفاً على الكتابة أو على تجويد وتدقيق ما كتبْ.
(نبوءة الشيوخ) تأخذ بتلابيب قارئها وترغمه على الالتحام بها والتماهي في عوالمها، فهي عمل سردي مركب يمزج بين الواقعية السحرية والتحليل الاجتماعي والسياسي بشكل بديع، تتناسج خيوط السرد في بيئة يمنية مغلقة كاشفة عن صراع طبقي وسياسي وفكري يتبلور من خلال رحلة شخصياتها نحو تحقيق نبوءة قديمة.
إلى جانب ذلك تنبني الرواية على مجموعة ثيمات متداخلة تشكل نسيجها الفكري العام؛ أولى تلك الثيمات الصراع بين كبار الوجهاء (أعيان الناس) مثل قحطان الذرب وجيه قرية (سَحَمّر) وعبد الرحيم وجيه قرية الأكمة، ومعهم كبار الرعية (ملّاك الأراضي) مثل المراغة، والأجراء العاملين في الأرض من الفقراء والكادحين على شاكلة مهدي نصاري وجاره معوّض
تدور أحداث السرد بين 1964 و1967م، وتسعى لتقديم رؤية مختلفة تغاير كثيراً من الخطابات السائدة، فالثورات والتغيرات السياسية التي تليها كاستبدال الملكيين بالجمهوريين لا تغير بالضرورة البنية الطبقية الراسخة في أرياف بلدان تقليدية مثل اليمن، لكنها مع ذلك قد تمنح فرصة لأجير فقير على شاكلة مهدي نصاري أن يتغير وأن يتبدل وضعه مخترقاً المواضعات القائمة سياسياً ومجتمعياً، حتى وإن بدا التغيير شبيها بالصدفة وليس نتاج طموح واضح ووعي حقيقي.
تستغل الرواية فكرة النبوءة كآلية لتحريك الأحداث وتبرير الصعود الاجتماعي؛ فثمة نبوءة قديمة تتحدث عن كنز يحتوي على عجائب منها (ألف أميرة مخضبة، وألف قطعة ماس مكعبة، وألف غزالة وأرنبة، وألف من السيوف المذهّبة، وألف تحفة غريبة محبّبة، وكل هذه اللقى يأتي لها رجل من طريق قعطبة، يستخرجها؛ ويجرف الذهب بكوفيته المدبّبة، ولا ينجو إلا رجل واحد لا ينال سوى امرأة مربربة) ص12
تتمكن النبوءة من السيطرة على عقول البسطاء، وتتحول إلى مؤكد قوي على الدور الذي تلعبه الأساطير، ومعها السلطة الروحية للشيوخ –المقصود هنا كبار السنّ -في تشكيل الوعي الجمعي.
وفيما تُمثل خليلة المرأة القوية التي تحاول التحرر من قيود الأسرة المحبوسة في تقاليد الطبقة العليا من المجتمع، رغم أن تحررها لا يكتمل إلا باستغلالها للنبوءة، وتوظيفها لقوة استجابة قاع المجتمع لها، -قاع المجتمع يمثله الفقير الأجير مهدي نصاري -، وهذا أمر يستدعي الكثير من التساؤلات، لا نجد إجابتها إلا في إشارة الرواية إلى فشل الثورة في تحقيق العدالة الاجتماعية، حيث يحل فساد جديد محل فساد قديم، وتظل الطبقات الدنيا هي الضحية، بينما يستغل الطموحون أو المحظوظون الفرص الجديدة للصعود.
***
تعتمد الحبكة في الرواية على مسارين متوازيين لكنهما يتقاطعان في النهاية:
المسار الأول: يمثله مهدي نصاري الذي نلقاه في مطلع الرواية وهو يمارسُ حياته أجيراً فقيراً في قرية ريفية (قرية سحمّر) ثم يكتشف بالصدفة كنزاً هو في الحقيقة بقايا جثث ولقىً قديمة، لكن الكنز رغم الويلات التي جرّها عليه وعلى غيره يتحوّل إلى خيط يقود إلى اكتشاف الكنز الذي جاء في نبوءة الشيوخ، حيث يتحول مهدي نصاري إلى عامل في التنقيب عن الآثار صحبة جهة مشبوهة تتستر خلف الوجود المصري في اليمن، من ثم يجد نفسه في قلب الصراع بين الجمهوريين والملكيين داخل العاصمة صنعاء، وبشكل دراماتيكي يدخل السجن، وحين يهرب من خطر الإعدام؛ يقع في حب امرأة اختبأ عندها؛ قبل أن يكتشف أنها زوجة الضابط السفاح الذي كان يوشك على إعدامه.
المسار الثاني: تمثله خليلة وهي ابنة أسرة صنعانية ثرية، زوّجها أهلها للضابط السفاح غصباً عنها، ما جعلها تتورط في علاقة خارج الزواج مع شاب كان ينتحل شخصية خالتها، وحين اختبأ مهدي نصاري عندها ربطتها به علاقة عشق فهربت معه، فقام زوجها بقتل أبيها وإخوتها، ويسجن العاشقان الهاربان وتتغير ملامحهما؛ بل تتغير ملامح الحياة كلها، وحين يغادران السجن لا يبقى من يتذكر ملامحهما، وهنا تبدأ نقطة التحول، حيث يبدآن رحلتهما للبحث عن الأمان والسيطرة. إذ تفهم خليلة أن مهدي نصاري هو الرجل المذكور في النبوءة، فتتزوجه وتستخدم مالها ومكرها لتحويله إلى مالك أراضٍ، محققة بذلك النبوءة على طريقتها؛ مع ذلك تبقى النهاية مفتوحة نسبياً، فرغم نجاح مهدي وخليلة في تحقيق الصعود المادي، إلا أنهما يظلان تحت تهديد الانتقام من أسرة خليلة؛ وهذه إشارة ذكية من الروائي بسام شمس الدين إلى أن الصراع لم ينتهِ بعد.
***
على مستوى التقنيات يستعمل بسام شمس الدين تقنيات سردية متنوعة تخدم منحى الرواية الذي يقوم على المزج بين الواقع والخيال، وقد اعتمد بشكل أساسي على الراوي العليم، والرواي العليم هو الراوي الذي يستعمل دائماً ضمير الغائب (هو، هي) لذلك نجده يمتلك القدرة على النفاذ إلى دواخل الشخوص، ويستطيع وصف البيئة، وتقديم تفاصيل دقيقة عنها، وتلك استراتيجية ذكية مكنت شمس الدين من تحليل الأحداث ومن استدعاء خلفياتها، مثلاً؛ النبوءة والكرامات والأحداث الغريبة كاكتشاف الكنز الغامض -وهي الثيمات أو العناصر الرئيسية في الرواية -؛ لا يتم تقديمها بوصفها عناصر خارقة للطبيعة، وإنما يتم تقديمها ضمن سياق واقعي يومي تنعكس فيه طريقة تفكير المجتمع الريفي الذي يتقبل تلك الأشياء بوصفها جزءاً من واقعه وثقافته وإرثه.
وينجح شمس الدين في تعزيز تقنيات السرد بالاتكاء على تقنية التناوب الزمني؛ حيث يتنقّل السرد بين الماضي والحاضر بمرونة، خاصة حين يستعرض خلفيات شخصياته، كما في حالة خليلة التي سنعرف علاقتها بأهلها من خلال حوار بسيط وسريع بين مهدي وخليلة:
(-هناك حادث مريع وقع في منطقة الغيل الأسود.
-لا تتحاذق، أنا أعلم أن موسى المجنون قتل أبي وإخوتي.
فغر مهدي فاه بذهول، وبالكاد استطاع أن يقول بضعف:
-واااه، لا تبدين حزينة كما توقعت.
-أتريدني أن أنتحب الآن أمامك وأتمرغ في التراب؟
-لا، لكنا نحزن ونبكي عندما نفقد من نحبهم.
-لكني لا أحبهم، لقد جنوا على أنفسهم عندما زوجوني بموسى رغماً عني.) ص211، 212.
وفائدة تقنية التناوب الزمني أنها تفكك الحبكة، وتدعم خاصية التشويق في العمل الروائي، عبر تقديم المعلومات تدريجياً للقارئ، ونفس الوظيفة تؤديها تقنية التأجيل؛ حيث يتم تأخير تقديم المعلومة عن حدث معين حتى يتم تقديمها في لحظة مفصلية وبعد أن تكون قد أدت الغرض منها وهو التشويق، يمكن التمثيل لتقنية التأجيل بحادثة الجميمة، فقد ظل ذكر الحادثة يتكرر في قرية سحمّر كلما ذكر الناس مقتل ابن القرية حميد حيدري الذي كان أحد ضحايا تلك الحادثة، ولم يتم تفصيل ما حدث إلا في (ص 106). حين لم يعد ثمة مناص من ذلك.
استعمال تقنية التأجيل السردي تم –أيضاً – في بناء علاقة جوهرة زوجة النقيب حميد حيدري وابنها الوحيد بربر بمهدي نصاري، رويداً رويداً يتكشف حب مهدي لجوهرة، ويتكشف تواطؤها معه، ونراقب بموازاة ذلك كراهية بربر لمهدي.
***
يحفل عالم (نبوءة الشيوخ) بعدد كبير من الشخوص، تمثل في مجموعها عينات واسعة من شرائح المجتمع والفاعلين فيه أو المؤثرين فيه وعليه، ما يثير الإعجاب قدرة شمس الدين على تحويل شخوص روايته إلى واقع فاقع الحضور، فالشخوص تتجاوز كونها نماذج سردية لتصبح كائنات حيّة تتصارع فيما بينها، وتتصارع في الوقت نفسه مع ظروفها، فهناك البطل مهدي نصاري الأجير الفقير الذي يعاني من العقم، وتراوده أحلام تبدو غير واقعية بالنظر إلى ما تتسم به شخصيته من سلبية في البداية، لكنه ما يلبث أن يتعرض لسلسلة تحولات دراماتيكية حادة تنقله من أجير فقير إلى منقّب عن الآثار لصالح جهة مشبوهة، حيث يكون ثاني اثنين نجيا من الموت في الجبل بعد اكتشاف الكنز، ثم يكون الناجي الوحيد في معركة قاع القيضي بعد مرافقته للآثاري المشبوه قنديل عبدالنور إلى صنعاء ، ثم يكون الناجي الوحيد من مجموعة السجناء الذين شاركهم السجن وأعدمهم الضابط موسى بادي، ثم هروبه واختباءه في بيت موسى بادي وارتباطه بزوجته، إلى تسبب هروبه معها في مقتل أسرتها على يد موسى بادي، ومن ثم إعدام موسى بادي نفسه نتيجة إقدامه على قتل تلك الأسرة، وبعدها هروبه إلى بيت شيخ بني الحارث، والقبض عليه هو وخليله مع الشيخ وأبنائه بعد مقتل جنديين مصريين جوار بيت الشيخ، وأخيراً خروجه من السجن وزواجه من خليلة وعودته إلى القرية شخصاً جديداً ومختلفاً.
وهناك خليلة ابنة الوجيه الاجتماعي أحسن الباكري التي بدت مغلوبة على أمرها حين زوجها أهلها لوحش بشري رغماً عنها، ثمّ تحولت إلى شخصية ما كرة ذكية تحتال على وضعها، وتمارس متعها في غياب الزوج الطاغية، قبل أن يطرأ على حياتها التحول الأكثر دراماتيكية، حين يختبئ مهدي عندها فتستعمل جمالها وجسدها ومالها ومكرها للسيطرة عليه، وتخوض برفقته سلسلة من المغامرات تتعرض خلالها لتحولات أخرى تطال روحها وجسدها؛ لكنها رغم ذلك كله تصل في النهاية إلى قدر من التحقق، وإن كان بثمن باهض هو التبدل الحاد في حياتها، بعبارة أخرى، خليلة تمثل المرأة المتحررة التي تستفيد من الممكنات المتوفرة لها؛ وهي المال والجمال والذكاء وتحولها إلى سلطة لتحقيق أهدافها، وبذلك تتطور شخصيتها لتكون المحرك الحقيقي للنبوءة.
موسى بادي وهو في الرواية رمز لذلك النوع من الشخصيات السلطوية المتهورة؛ التي تظهر عند المفترقات الكبرى في تاريخ الشعوب، شخص دموي مهمته إعدام المحكوم عليهم، ورغم أن ظهوره على صفحات السرد كان بحد ذاته حضوراً دراماتيكياً، إلا أن التحول الدراماتيكي الأكبر في حياته يحدث حين يكتشف خيانة خليلة له؛ وبسبب عدم تمكنه من النيل منها لأنها نجحت في الهروب مهدي نصاري، فإنه ينتقم منها بقتل أبيها وإخوتها، وتتحول فعلته تلك إلى ذريعة للانقلاب عليه وإعدامه.
الشيخ أحمد الوشاح شيخ بني الحارث، الذي نلقاه شخصية متوازنة، إيجابية ومضيافة، يحاول قيادة دفّة أسرته وقبيلته والملتجئين إليه بحكمة وحذر بالغين؛ كون دياره تقع في منطقة التماس على خط النار بين الجمهوريين والملكيين، تقوده شهامته ومروءته وحفاظه على الأعراف والتقاليد إلى الانتقام من موسى بادي بعد إقدامه على قتل صديقه أحسن الباكري وأبناءه، لكن حياته هو وحياة أبنائه تتعرض لتحول دراماتيكي حاد بعد مقتل جنديين مصريين جوار بيته؛ حيث يؤخذ مع أبنائه إلى السجن.
شخصيات مهدي نصاري وخليلة وموسى بادي والشيخ أحمد الوشاح هي أبرز الشخصيات التي تعرضت لتحولات دراماتيكية حادة، لكنها ليست كل الشخصيات التي يصدق عليها هذا التوصيف، فهناك بربر ابن جوهرة أرملة حميد حيدري، وهناك الضابط المصري كمال بيومي، وهناك الآثاري المشبوه قنديل عبد النور الذي قتل في معركة قاع القيضي، والذي سنعرف لاحقاً أن اسمه الحقيقي جميل المنشاوي.
أما الشخصيات الثابتة أو المسطحة؛ أقصد تلك الشخصيات التي تخدم فكرة السرد لكنها تظل طوال الوقت على ما هي عليه، من هذا النوع عاتقة زوجة مهدي نصاري الأولى، وجوهرة أرملة حميد حيدري، كذلك كبار الوجهاء والملاك مثل: المراغة كبير ملاك قرية سحمّر، والوجيه قحطان الذرب، ووجيه قرية الأكمة عبدالرحيم حيدر، وعمر العميس (من صغار الملاك) والصوفي عطية معالج قرية سحمّر الوحيد، والراعي محمد العزب، وتقوى زوجة المراغة، وتقية أم مهدي نصاري، وفرحان الحمق المؤرخ والمدوّن المحلي وعثمان الخبير المحلي المتخصص في قراءة الخطوط والرموز القديمة.
لكن بسام شمس الدين لم يتعامل مع تلك الشخصيات بوصفها وجوداً ديكورياً في روايته، فقد وسم كل واحدة منها بسمة تجعل نسيانها يتعذر على القارئ، فهي تَعلَقُ بذاكرتنا على نحو لا يقل عن علوق الشخصيات الرئيسية بها، السمات المشار إليها تظهر من خلال سياقات عامة للأحداث، وغالباً ما يفعل ذلك شمس الدين ذلك بأسلوب تهكمي ساخر يرقى أحياناً إلى الكوميديا السوداء، مثلاً: بينما كان أحد المآزق المرعبة قد أجبر الأجير مهدي نصاري أن يقف بين يدي الوجيه قحطان الذرب والمالك المراغة (رأى امرأته على سطح الدار تلطم وجهها، ولم يؤثر ذلك في نفسه، لأنها تفعل ذلك في معظم الأوقات، لا سيّما عندما تنسى إطعام الحمار أو البقرة) (ص39، 40 )، كذلك: الصوفي عطية معالج القرية الوحيد، (تنتمي جذور عائلته إلى طبقة الفقهاء السحمّريين أولئك الذين كانوا أخفّ الناس عقولاً بشهادة كبار السن من الأهالي) (ص21، 22). وعلى نفس المنوال طريقة وصفه لشخصية الآثاري المصري قنديل عبد النور؛ مقارنة بشخصية فرحان الحمق المؤرخ والمدوّن اليمني؛ فهو يركز على شكل الآثاري المصري وحجمه وبشاشته، مقابل جفاف عود المؤرخ اليمني واستعلائه ومقته للفقراء الأجراء (ص57). رسمُ فرحان الحمق على هذه الشاكلة يجعل القارئ –اليمني بالذات –أمام استحضارات لا يستطيع الإفلات منها.
مقابل ذلك يربط شخصيات أخرى من هذا النوع بسمات مغايرة؛ تتخذ منحى الجد والحكمة، وتحيل إما على معارف ومورثات أسطورية أو على عادات وتقاليد مميزة.
الحالة الأولى: تمثلها شخصية تقية أم مهدي نصاري، حيث تنبجس الحكمة والمعاني الإنسانية الخيّرة من اشتباك بالمعارف والموروثات الروحية والأسطورية، فالفقرات التي تصوّر شفقتها على أثنى الضبع وجرائها (ص218، 219، 220)، تعدّ التقاطة رائعة لتقليد ريفي يمني يتمتع بسمو أخلاقي لا يضاهي؛ إذ الأمر يتعلق باحترام جيراننا في الطبيعة من حيوان وطير وحشرات وشجر وحجر وماء وتراب، لذلك ترتبت نتائج قاسية على حرق أنثى الضبع وصغارها؛ إذ عانى أهل سحمّر بعد ذلك سنوات من القحط والجوع والموت الجماعي.
الحالة الثانية: تمثلها تقوى زوجة المراغة كبير ملّاك سحمّر التي تقف دائماً في صف الأجراء الفقراء.
أما الحالة الثالثة: فتمثلها المرأة العجوز التي استقبلت مهدي وخليلة عند وصولهما هاربين إلى بيت الشيخ أحمد الوشاح؛ شيخ بني الحارث، حيث يتم من خلال تلك المرأة -لم يُسَمِّها الراوي -توثيق عادة الترحيب بالضيف عند أهالي ضواحي صنعاء.
***
الوقائع والأحداث في النصف الأول من الرواية تدور بالأساس في أمكنة ريفية، وهي أمكنة تسيطر على أهلها الموروثات الأسطورية، فالشيوخ الذين أطلقوا النبوءة هم كبار السن من أهل سحمّر، ولكي يعرف القارئ البعد التاريخي الكامن وراء مثل هذه النبوءة، فإني الفته إلى معلومة لم تقدمها الرواية، وهي أن سحمّر قرية الروائي بسام شمس الدين، وهي ليست إلا امتداداً لقرية تحمل الاسم نفسه، تعد من أقدم قرى اليمن تاريخاً، ذكرها لسان اليمن الهمداني المتوفى سنة 334هـ في كتابه الشهير (صفة جزيرة العرب)، وتقع غرب مدينة يريم –محافظة إب –بحوالي عشرين كيلو مترا، وكان قد وفد إليها مرغم الصوفي وانطلاقاً منها قاد سنة 623هـ حركة تمرد واسعة ضد الدولة الأيوبية انتهت بمقتله، لهذا السبب بقيت سحمّر بعد ذلك لفترة من الزمن تعرف بكثرة فقهائها وصوفيتها.
تدور أحداث النصف الأول من الرواية في سحمّر وقرية الأكمة المجاورة لها والرفيقة لها في التاريخ، وبينهما المكراب وهو جزء من جبل سحمّر المشرف على القريتين، وفي الأسفل تمتد الأرض الزراعية. وعلى مقربة من المكان جبل الرزاعي حيث يتم اكتشاف الكنز.
يصور السرد المكان بوصفه بيئة مغلقة، تتجسد فيها كل مظاهر الفقر والجهل، تعاني من تراتبية اقتصادية فادحة، وتبدو كمسرح لصراع بين أغنياء -بمقاييس المكان وناسه في ستينيات القرن العشرين –وفقراء حقيقيين، يستأجرون الأرض من الأغنياء، ويخضعون لفوقيتهم ونفوذهم المتوارث.
ورغم أن وصف المكان من أهم أركان السرد، لأن المكان هو الفضاء الذي تدور فيه الوقائع ويتحرك فيه الشخوص، إلا أن بسام شمس الدين اكتفى بشذرات قليلة لا تمنحنا تصوراً واسعاً له، من ذلك مثلاً وصفه لبيوت سحمّر (سطوح المنازل العتيقة مسقوفة بأعواد متراصة بعشوائية مفرطة، ومغطاة بطبقة من الطين الجاف، ومدعّمة بعدد من الأخشاب الضخمة الموزعة بترتيب محكم على سقوف الطابق الأرضي، وهي متينة من صنف مجهول من الأشجار، وقوية بما يكفي لتحمّل طوابق إضافية، وقد توقف السوس عند طبقتها الخارجية واكتفى بها، ورغم هذه المزايا فقد تكثف ماء المطر على سطح دار الأجير مهدي نصاري، وتسلل رويداً إلى الداخل عبر طبقة قديمة من الطين الهش) ص 7
لكن شمس الدين يفتح لنا أفقاً واسعاً لتخيّل المكان من خلال وصف حياة الناس فيه، وهو وصف قاسٍ في كل الأحوال، فهو على لسان مهدي نصاري يشيد بقوة إرادة جوهرة ويعرب عن إعجابه بها (لأنها استطاعت العيش بين وحوش بشريين؛ لا يلتفت أحدهم إلى جاره إلا ليسخر منه أو يترصد عيوبه) ص58
و هو لا يفتأ يصور البخل الفطري لدى وجيه سحمّر وملاكها وعدم حبهم للخير، ويركز على تناقضاتهم، فنجدهم أمام أهل القرية يتظاهرون بالغني رغم عدم صحة ذلك (ص63)، وأمام مسؤولي الحكومة ينتابهم الخوف من أن يظهروا كأغنياء (ص102)، وأهل سحمّر مستهترون جشعون كما يقول عنهم مهدي نصاري بعد أن سأله عنهم عبد الرحيم حيدر كبير قرية الأكمة (ص33)، ووجهاء وملاك القرى مثل سحمر والأكمة يعيشون تنافساً محتدماً على الحقول الخصبة في الوادي (ص33)، وهم يخيفون الأجراء الفقراء ويفرضون هيبتهم عليهم بالقوة؛ حتى أن الواحد من أولئك الأجراء الفقراء حين يزوره المالك يربط فم حماره بالحبل أو يبعد الديك من البيت أو يذبحه حتى لا يزعج نهيق الحمار أو صياح الديك ذلك المالك. (ص205، 206)، وأهالي جبل الرزاعي (عشائر بدائية متناحرة تكره الملكيين والجمهوريين على حد سواء، يعيش أفرادها وكثير من قرود الرباح الجبلية الشرسة، ولا فرق كبير بينهم في الشكل والسلوك) ص116.
مقابل ذلك يبرع في تقديم هدير سردي مذهل استغرق أربع صفحات في وصف الكنز الذي تم العثور عليه في جبل الرزاعي (من ص128 إلى ص 131).
أما أحداث النصف الثاني من الرواية فتدور في صنعاء وضاحيتها (بنو الحارث)، ورغم أن الوصف لا يقدم أفضية واسعة إلا أنه يركز في الاغلب على أوصاف جزئية مثل وصف السجن، ووصف بيت الشيخ أحمد الوشاح شيخ بني الحارث، يستثنى من ذلك بيت موسى بادي حيث اختبأ مهدي نصاري ومارس متعاً مختلسة مع خليلة فهذا البيت يحظى بوصف تفصيلي مميز، وقد بدا واضحاً في هذا القسم من الرواية أن تركيز السرد كان على رمزية المكان (صنعاء) بوصفه مركزاً للسلطة والصراع السياسي، أكثر من التركيز على وصف تفاصيل بيوته وشوارعه.
***
أما بالنسبة لزمان الرواية فإن أحداثها تدور –كما أسلفنا -في فترة من أكثر الفترات اضطراباً في تاريخ اليمن، وهي فترة الصراع بين الجمهوريين والملكيين في ستينيات القرن العشرين، وهو سياق زمني مهم منح الرواية بعداً تاريخياً وسياسياً، انعكس على شخصياتها بدرجات مختلفة، وقد استثمر شمس الدين نقائض تلك اللحظة الزمنية في تقديم إدانات ساخرة استهدف بها أطراف الصراع (ملكيين وجمهوريين ومصريين)، فعل ذلك بشكل صريح أحياناً، وفعله بشكل ضمني أحياناً آخرى.
وقد نجحت طريقة السرد إلى درجة مبهرة في تصوير حياة الناس خلال تلك الفترة، على مستوى المعيشة، وعلى مستوى الوعي، وعلى مستوى الأثر الذي كانت تعكسه مجريات الوضع السياسي، ومفاعيل اللحظة الثورية ومفاهيمها، ومفاعيل الحرب الأهلية المشتعلة بين الجمهوريين والملكيين، والوجود المصري في اليمن آنذاك.
في هذا السياق نرى انهماك الناس في سماع الإذاعات، ومراقبة التغيير الذي حدث في ملابس الناس، والتبدلات التي كانت تطالهم في السجون، ونعايش المتغيرات الديناميكية الطارئة جراء هزيمة 1967م، ونرى تبدّل المواقف عبر انتقال ملكيين إلى الصّف الجمهوري (ص263)
كما نعايش تبدل المصائر المؤلمة لحظة اكتشاف حمل خليلة من الضابط المصري (ص273)، ونرى التكريس الأكبر لذلك عند خروجها من السجن لتكتشف أن أخاها كان ينتظرها بخنجر الموت (ص265).
بل إن زمن الرواية ينعكس في السرد على شكل نقائض تحاكي الواقع، مثلاً: نسمع الضابط المصري كمال بيومي يرفض ضيافة أهل سحمّر له ويقول بشكل صارم: إن جنوده لا يأكلون سوى المؤن التي تصرف لهم من التموين العسكري (ص45)، ثم نجد مهدي نصاري يعلن توجساته مما يشاع من أن المصريين ينتشرون كالجراد ويأكلون الأخضر واليابس (ص53).
ونسمعه في السجن يتهكم من حرص الأمير على توزيع الأكل بالتساوي داخل السجن: (عجيب أمر هؤلاء السجناء، يتحدثون عن العدالة في السجن، لم يسمعهم أحد يتحدثون عنها وهم في منازلهم الكبيرة) ص162
***
أخيراً لا يمكننا أن ننهي هذه المقاربة دون أن نتوقف عند لغة بسام شمس الدين وأسلوبه، فقد تميز السرد في نبوءة الشيوخ بلغة هادرة تجمع بين الكثافة وجمال الالتقاطات الذكية والصور الشعرية؛ نجد ذلك منذ مفتتح الرواية حيث يصف البيئة الريفية القاسية (التراب، الطين، الجوع، الأمراض، التراتبية، الجهل)، وهو وصف يطرد في سائر أرجاء الرواية ممزوجاً بتحليلات نفسية واجتماعية نافذة، وهو يزين ذلك كله بالتماعات ساخرة وتفكير ناقد ولمّاح.
من ذلك مثلاً: تشبيه خوف الأجراء من تغير الأوضاع والتقاليد لصالحهم بعد قيام الجمهورية بخوف الساهر من انبلاج الصباح قبل أن ينام، ومثله انهماك بطل الرواية عند هذا المنعطف في المقارنة بين مزايا الماضي ومساوئه ومزيا الحاضر ومساوئه. (ص68)، لأن مثل هذا يعدّ تفكيراً سردياً موفقاً إلى حد كبير؛ وقليلاً ما ينتبه الناس إلى أن مثل هذا يحدث -دائماً -عند المفترقات الزمنية.
من ذلك أيضاً رصد بعض التبدلات التي تطال حياة الناس، وتتحول إلى مفارقات لافتة، يصور السرد اعتياد مهدي وزملائه على السجن، واعتياد خليلة وزميلاتها على السجن، فبسبب طول المدة صاروا جميعاً لا يريدون الخروج منه.
تذكرنا هذه المفارقة بمفارقة أخرى تندّر بها الناس في صنعاء قبل سنوات، فقد أُفرج عن أحد نزلاء السجن المركزي بعد وقت طويل قضاه سجيناً فيه، وعندما حان وقت المقيل (موعد تناول القات) غادر بيته وأهله وذهب إلى السجن للمقيل مع أصدقائه الذين ألفهم واعتاد عليهم.
ومن ذلك؛ الوصف الرائع لأهمية الجندي ووصف طباعه (ص 86 ، 87، 89)، فهو وصف يليق بثقافة منطقة الروائي التي ينخرط أهلها في القوات المسلحة وفي الشرطة والأمن بشكل واسع.
من ذلك أيضاً؛ اهتمام السرد بالنتائج المنطقية، فاهتمام الآثاري المصري بتشغيل مهدي نصاري في التنقيب رغم جهله بأمر كهذا، يتم تبريره باستدعاء قصص عثور فلاحين مصريين بشكل عفوي على قبور الفراعنة في وادي الملوك. (ص57).
ومن ذلك: قيام محمد الغضبان الخولاني بقتل مدير السجن المصري بعد اكتشاف اغتصابه للسجينات، واكتشاف حمل خليلة منه، وكان الأحرى أن يقوم مهدي نصاري بذلك، لكن المغزى الذي أراده الروائي هو لفت انتباهنا إلى أن مهدي نصاري نشأ وعاش ذليلاً مستعبداً كقروي أجير؛ لذلك يتعذر على مثله تنفيذ مهمة كهذه، أما صديقه الخولاني فقد نشأ حراً لذلك بادر إلى فعل ذلك.
أما الالتقاط الذكية التي ترد في ثنايا السرد، فمنها قوله: ولمح حماره المثقل بكيس التراب وهو يخبط بقوائمه التراب (ص35)، لا يمكن لهذا التعبير أن يصدر إلا عن روائي عاش في الريف وخبر مثل هذا المشهد.
الرواية أيضاً تحتشد بعدد وافر من الصور الشعرية اللافتة مثل قوله: (تركها للحسرة والسهر، وانطفأ كالفانوس) ص42.
والملاحظ أن أسلوب السرد ترتفع وتيرته الجمالية ويزداد توتره عند المنعطفات الزمنية المفصلية، نجد ذلك مثلاً في وصف أحداث السجن ومشاهد الإعدام والمشاهد التي تلتها في بيت موسى بادي (من ص160 إلى ص196) فما جاء في هذه الصفحات يعد ذروة من أفضل ذروات السرد في الرواية.
وتبقى ملامح وسمات أخرى في الرواية تركتها لتناولة أخرى، وسأكتفى هنا بالقول إن رواية (نبوءة الشيوخ) تمثل إضافة نوعية للرواية اليمنية خصوصاً وللرواية العربية على وجه العموم، وهذا يستوجب أن نرفع القبعات للروائي بسام شمس الدين، فالواردات -كما يقول الصوفي إسماعيل الجبرتي -ثمرة الأوراد. وهذه الرواية ثمرة مثابرة وإمعان طويل في طلب التّحقّق والتّفوق.
*شاعر وروائي وناقد يمني - عن رأي اليوم