
حسن داوود*
لم تكن إقامة العراحيثقي سعيد الوحيد هانئة في ألمانيا. لم يحظ يوما بشعور الإنتساب إلى هناك. كانت الدوائر الرسمية تضعه دائما أمام احتمال إخراجه من البلد بحجج شتى، تتعلق بالقوانين المتعلّقة بالمهاجرين، أو بانتمائه إلى البلدان التي تنتج إرهابيين. لكنه دائما كان يجد سبيلا للبقاء. أحيانا بمساعدة من القانون نفسه، وغالبا باللجوء إلى شركات المحاماة، التي تلتهم كل ما كان يجمّعه من أجره. وها هو، بعد غياب سنوات، يأتيه خبر من أخيه المقيم في بغداد، بأن أمه تعيش لحظاتها الأخيرة، ويحسن به أن يكون حاضرا لرؤيتها قبل رحيلها، ومن ثمّ للمشاركة في تشييعها، كان عليه إذن أن يتدبّر أمر الذهاب ومن ثمّ العودة، أي أن يحول دون منعه من الرجوع إلى عائلته هنا، في ألمانيا، فيبقى هناك، في بغداد عالقا رغما عنه.
ما كان يجب عليه تدبيره، هو أن يفكّر بسيناريو معقّد للدخول إلى العراق من طريق دول أخرى، وباشر ذلك مارّا ببلدان عديدة، عربية في أغلبها، متسلّلا من إحداها إلى أخرى. الرحلة هذه التي استغرقت سنوات هي ما تحكيه الرواية، حيث أُوقف وسُجن وفرّ من الاثنين معا، كما نزل في أماكن يصعب النزول فيها وعمل في مهن لم يكن قد عرفها من قبل.
الرواية، إذ تروي ذلك، تذكر تفاصيل عن البلدان العربية الكثيرة، كما عن التحولات التي جرت فيها وصولا إلى ما هي عليه الآن، خصوصا حين تعلّق ذلك بالعراق الذي شهد تغيّرات بدأت بما قبل الحرب الأمريكية عليه، وصولا إلى ما آلت إليه الحياة فيه بعد إحكام الجماعات الأهلية قبضتها. الرواية تاريخ موجز لأحوال العراق والبلدان المتصلة به، أو المؤدية طرقها إليه. كما أنها تخصّ بتأريخها ذاك عائلة سعيد الوحيد الذي، انسجاما مع عهد الديكتاتورية الزائل، نقرأ أن والد سعيد الوحيد قتل مشنوقا، هكذا بما يضفي شيئا من واقع حال العراق آنذاك على الرواية. كما نعلم أن شقيقة سعيد قضت محترقة بعد أن بلغتها ألسنة النار التي اندلعت في بيتها.
وقد سعت الرواية إلى التحقّق من المعلومات والتواريخ التي تعاقبت على بلاد الحروب تلك، كما كانت، في فصولها السابقة، الفصول الألمانية، قد فصّلت مشكلات إقامة المهاجرين هناك. والأحرى أن كل ما جرى ذكره كان صحيحا، وكذلك كان معقولا ما أصاب عائلة الوحيد في بغداد. بهذا تكون سيرة بطل الرواية سعيد الوحيد سيرة نموذجية للمهاجرين، تتجمع فيها مآسيهم، وليس سيرته الفردية طالما أن ما يلقاه هناك في مكان إقامته وهنا في بلد منشئه ينطبق على عشرات الألوف غيره. بالطبع لن تفيد المعلومات الخاصة بعائلته في تعيين كل منهم وتخصيصه، ولن تنجح الأسماء التي أطلقت على كل من مرّ ذكره في جعله شخصية ذات حياة. بهذا يكون الجهد الذي بذله الكاتب أقرب إلى تجميع معلومات حقيقية، وتنسيق تنقّل بطله بينها.
بذلك تكون كل مسألة تأتي الرواية على ذكرها مساوية للمسائل الأخرى كلها. لم تحظ عائلته التي تركها في ألمانيا بالذكر الكافي لاستحضارها كعائلة تنتظر عودته من رحلته الشاقّة الطويلة، ولا حظي هو بعد بلوغه العراق برؤية أمّه إلا متوفّية، وذلك قبل ساعات قليلة من وصوله لرؤيتها حيّة في العراق. أقصد أيضا أن حنينه لأمه أضعفه تسارع صعوبات الرحلة، فلم يُتح له الوقت الكافي لتذكّر علاقته بها، هي موضوع الرحلة، والسبب الذي دعا إلى القيام بها. وهذا ما جعل الصفحات الأخيرة من الرواية تُنجَز بتعجّل بما يبدي أن الكاتب والبطل قد ملّا معا تعاقب أحوال الخراب العراقي والعربي ومراكمتها، فتركا باب الرواية نصف مغلق وغادرا.
كما أن ما استطاع سعيد الوحيد نقل من عذابات رحلته فقليل طالما أنه لم يزد علينا شيئا مما كنا نعرفه، أو نتصوّره من العيش هناك في بلدان الهجرة، أو هنا، في البلاد التي يعود إليها أبناؤها مرغمين وخائفين. ذاك أننا لم نعرف مَن هو سعيد الوحيد، وكيف هو، إذ لم تُسعف تفاصيل الرحلة الطويلة والمعقدّة عن ملمح خصوصي له. لم تُخصّص لوجوده كبطل روائي المساحة الضرورية، إذ التهمت مغامراته الكثيرة الصفحات كلّها. ربما، على اي حال، كان هذا ما قصدت إليه الرواية: أن تنقل معاناة شرائح واسعة وضخمة هاجرت من بلدانها، والعراق واحد منها، إلى بلدان لا تقبل بوجودهم فيها إلا على مضض. سعيد وحيد هو جميع هؤلاء، نموذجهم الذي قام بتلك الرحلة نيابة عنهم.
* «مزوّر الذكريات» رواية لعباس خضر نقلها عن الألمانية سمير غريس لدار المتوسط في 120 صفحة- صدرت في أواخر 2025.
*كاتب لبناني