
طه درويش*
مساءُ الخَيْرِ يا أنَسْ
مَساءُ الجّوعِ يا أَنَسْ..
مَساءُ المَوْتِ يا أَنَسْ..
مساءُ «غَزّة» يا أَنَسْ..
هذهِ ليلتكَ الثانية مِنْ دونِ «المايكروفون»..
وليلتكَ الثانية مِنْ غير «خوذة»..
وليلتكَ الثانية «مَيْتاً» يا أنَسْ..
وحيداً في قبركَ الآن يا حبيبي..
حيثُ لا جوع.. ولا عطش..
لا قصف.. ولا دمار..
لا مَوْت.. وَلا دِماء..
لا أخبار عاجِلَة..
ولا تغطيات حَيّة على «الهواء»..
***
البَيْتُ «بَيْتُنا».. ِمنْ بعدكَ يا أَنَسْ.. موحِشٌ وَكئيب..
كآبةٌ بِأجْنِحَةٍ مِنْ عويلٍ وَكَوابيس..
تفردٌ رُعبها في كلّ زاويةٍ من زاويا البيْتِ الغارِق في الظّلام..
كلّ شيءٍ مِنْ حولي يَضجّ بالأنينِ وبالدّمعِ الكسيح..
وكلّ شيءٍ في هدأةِ هذا المَوْت ينفجر في الصّراخ:
أيْنَ أَنْتَ يا أَنَسْ؟
أيْنَ أَنْتَ يا حبيبي..
يا أنَس الّذي غادَرتَنا مِنْ دون أنْ تعرف كَمْ «أُحبّك»..
مِنْ دون أن تُدرك كَمْ «نُحبّك»..
***
لَستُ أرثيكَ هُنا «أَنَسْ»..
بَلْ نفسي أرثي..
والقلم أرثي..
و»الميكروفون» أرثي..
و»خوذة» الصّحافيّ أرثي..
وشاشة «الجّزيرة» أرثي..
و»الصّحافة» الّتي «قُتِلَت» أرثي..
وَلمْ يَسأل أحدٌ «بِأيّ ذَنْبٍ» قُتِلَت..
بَلْ.. «بِأيّ ذَنْبٍ» وُئِدَتْ!!
***
سامحني يا «أَنَسْ»..
سامحني إنْ تَجَرَّأتُ وَأعلَنْت:
كان لا بُدّ أن تموت وَتستريح يا حبيبي..
وتتركنا مِنْ بَعدِكَ أسرى في كهوفِ «العار»..
أسرى في «غيابَةِ» هذا «الذُلّ» العميق..
كان لا بُدّ أن تموت وَتستريح يا حبيبي..
بعد أنْ تَمَزَّقَت «روحك» مِن الصّراخ.. وَعلى الهَواء مُباشرة:
غَزّة تَموت..
غزّة تجوع..
غَزّة تُذْبَح مِنَ الوريد إلى الوَريد..
ولا مِنْ «مُجيب» يا أَنَسْ..
وَليْسَ ثمّةَ «مُجيبْ»..
***
اغفر لنا «وقاحتنا» يا أَنَسْ..
واغفر لنا «اعترافاتنا» المَجبولة بطين العار..
كُنّا نعرِف أنّكَ «ستموت».. «ستُقتَل».. «سَتُغتال»..
«موتكَ» كانَ «مُعلَناً» يا حبيبي..
منذُ نحو «عامَيْن» كَأَنّها «قَرنَيْن»..
كانَ «موتكَ» في الأُفُق يلوح..
كُنّا نرقبه يا حبيبي..
كُنّا بانتظاره يا حبيبي..
وَلَمْ نفعل شَيْئاً..
لَمْ نُدافِع عنكَ يا أَنَسْ..
لَمْ نصدّ عَنْكَ «رصاصة»..
لَمْ نَحمِكَ بِرموشِ العَيْنِ
وَكَيْفَ بِنا أنْ نَفعَل..
وَنحنُ الذّين لَمْ ندفع عَنكَ غائلة «الجّوع»..
وَلَمْ نُطعِم طفلاً مِنْ غَزّة «لُقمة» تَدرأ عنه المَوْت..
وَلَمْ نَسقِ امرأة «ظمأى» ماتَت في غَزّة «عطشانة»..
***
عَتَبي عَلَيْكَ شديدٌ يا حبيبي..
عَتَبي عليْكَ شديدٌ يا أَنَسْ..
أنا الّذي قرأتُ «وَصيّتك» المكتوبَة بِدَمِ الرّوح..
المجبولة بِمِدادِ القَلْب..
«وصيّتكَ» النقيّة كَنقاءِ «أنَسٍ» وَ»شريف»..
كيفَ بِاللهِ عَلَيْكَ يا حبيبي..
كَيْف توصينا على «شام» طفلتكَ الأغلى والأجمل..
وكيْف توصينا على «صلاح» أميركَ الأروع وفارسكَ الأنْبَل..
وَكيْف توصينا على وَعلى وَعلى.. وَعلى..
نَحنُ الّذين لَمْ نُصغِ إلى صُراخِكَ حَيّاً..
حينَ صَرَخْتَ وما توقّفتَ عن الصّراخ:
أطعموا «غزّة»..
غزّة الّتي تموتُ «تجويعاً».. و»إبادةً».. و»تحريقاً»..
فَما أَجَبناكَ يا أيّهذا «الأَنَسْ» الشّريفْ..
وَما لِغَزّة أرسلنا «نقطة» ماء.. وَلا «حبّة» طحين!!
كَيْفَ بِنا أنْ نَصونَ وصيّتك..
وَنحفظ.. مِنْ بعدِكَ.. «شام».. وَ»صلاح»؟!
كَيْفَ يا حبيبي..
كَيْفَ يا «أَنَسْ»… كَيْف!!!
*كاتب وأكاديمي أردني