
ندى أبو صفره*
اليومَ، وقد مضى عامٌ وثمانيةُ أشهرٍ على حربِ غزّةَ الطاحنةِ.
الحربُ، على قِصَرِ حروفِها، لكنَّ صداها مدوٍ وأبديّ. لم تكنْ هذه الحربُ أخبارا تُتلى في نشراتِ المساءِ، ولا مشاهدَ تُعرَضُ على الشاشاتِ؛ إنّما هي جُرحٌ غائرٌ في خاصِرةِ الإنسانيّةِ، نزيفُه مستمرٌّ، وإنْ لم يُرَ.
لا أكتبُ لكم من مكتبي الهادئ، ولا من بيتي الدافئ، بل من زاويةِ خيمتي المهترئة.
خيمتي التي امتلأت بالحروفِ الضائعةِ، التي لا تسدُّ رمقَ الجائعين، ولا تصدُّ رصاصة مسرعة لا تدري أينَ طريقَها، خيمتي التي لا تحجبُ الشمس، وتراها كأنّها جالسةٌ كفردٍ من العائلةِ.
انقلبتِ الحياةُ رأسا على عقب؛
أصبحَ البيتُ الآمنُ مُهدَّدا،
والشارعُ خطِرا،
وأضحى الفقدُ شيئا اعتياديّا،
والنومُ الهانئُ رفاهيّة نادرة،
والصمتُ وسطَ الضجيجِ… مُرعبا.
ونحن في غفلتِنا نجرُّ التعب، لا نعلمُ أنّا مستهدَفون، وأنَّ أرواحَنا أبخسُ من أدنى سِلعةٍ تُعرَض.
لن أُحدّثَكم عن ثوبٍ صغيرٍ لم نجِدْ له جسدا بعد الغارة،
ولا عن عريسٍ ذهب ليحضِرَ فستانَ عروسِه، فعادَ مُكفّنا بفستانِها.
ولا ذاك المريض طريحَ الفراشِ، يُعالج من آثار حروقٍ قد أصابته من صاروخٍ فتاك، فأتاه صاروخٍ آخر.
سأُحدّثُكم عن كمائنِ الموتِ التي تأخذُ الجموعَ دفعة واحدة، عن أولئك الذين يُحارَبون بحفنةٍ من طحين، سنتحدث عن حرب الجوعِ أبشعَ من تلكَ التي بالسلاح، ليس لأنّها تقتلُ فجأة، بل لأنّها تُميتُ على دفعاتٍ، وتحفِرُ في النفسِ خنادقَ من الخوفِ والذلِّ.
إنّ السّكوتَ عنها مشاركةٌ في الجريمة، والحديثُ عنها مقاومة، وإنقاذُ حياةٍ واحدةٍ من براثنِ الجوعِ ثورةٌ بحدِّ ذاتِها. فجميعُ من مجّدَ الحربَ، لم يذُقْها، ومن ذاقها، لم ينسَ مرارتَها، ومن نجا منها، عاشها كلَّ يومٍ في كوابيسِه.
ذاكَ الجائعُ الذي يحملُ روحَه على راحتيْه، لم يكن يبحث عن معركةٍ، ولا عن بطولةٍ تكتب في الجرائد، خرج ولم يلوح، ظنا منه أن الرجوع مسألة وقت؛ غاب عن خياله إمّا ذَهابٌ وعودة، أو ذَهابٌ دونَ رجوع.
تارة، يُسابقُ الريحَ بين آلافِ الجوعى ليكونَ أوّلَ الواصلين، وتارة، تراه ملتصقا بالأرضِ، يحملُ على ظهرِه عبءَ الوطنِ، وجوعى الوطنيّة.
بين الجموعِ، تسمعُ أزيزَ الرصاصِ؛ كلُّ رصاصةٍ صائبة،
إنْ لم تكنْ فيكَ، فهي بأحد آخر.
وما إنْ يصلَ مركزَ التوزيعِ بعد ماراثونٍ سباقيٍّ يحاولُ الجميعُ فيه الوصولَ أوّلا.
بانت نواجذُه من الفرح، يا لها من سعادة، وصلَ أخيرا قبل مئاتِ الآلافِ من الجائعين، سيعودُ لعائلتِه ببعضِ الأرزِّ، القليلِ من العدس، وحفنةٍ من الطحينِ.
إنَّهُ حلمُ الجائعين.
لكن بعض الأقدار تغلق الباب سريعا، دون أن تمنحنا فرصة لأن نتفرس في وجه من نحب، سعادته لم تكتمل، غدرته تلكَ الرصاصة؛ ليسقطُ ويُصبحَ طريحَ الأرض، وما التقطه يتناثرُ جوارَه:
حفنةُ الألماس، وكيسُ اللآلئ… كما لو كانتْ!
لم يمت لأنه قاتل، بل لأنه حاول أن يعيش، كان يحاول أن يطيل عمر البيت يوما آخر، لم يحمل معه سلاحا، كل ما حمله هو اسمه، وضلعه البارز، وحرصه على ألا يعود خالي الوفاض.
تقتربُ الأجسادُ منه مسرعة، لكن ليس نحوه، بل نحوَ ما سقطَ من يديْه؛
فالجائعُ هنا، يا عزيزي، يبحثُ في أوردةِ الدمِ عن شيءٍ يسدُّ به جوعَه،
لا يُلقي بالا بمن سقطَ… فالطعامُ في هذا الوقتِ أثمنُ من الرّوح.
أتعي ذلك؟
أثمن… من الرّوح!
ذهب ليملأ أكياس الأمل، فعاد محمولا في كيسِ موت، عاد كما لم يعد الأحياء، عاد بلا صوت، والذين ينتظرونه ما عادوا يقدرون على الكلام، عاد ملفوفا، خفيفا، كأن العالم كله تواطأ على قلبه، كان خفيفا حتى حمله الموت بسهولة، عاد والطحين الذي خرج لأجله لم يصل، لكن رائحة دمه ملأت المكان، وأشبعت الأرض شهادة.
من قال إن الشهداء يولدون من البنادق، في غزة وحدها، يكفي أن تذهب لجلب طعامٍ؛ فتصبح الحكاية.
*كاتبة فلسطينية