عبدالحفيظ بن جلولي*
أجدني كقارئ لرواية، أي رواية، أتلمّس مدخلا لتحليلها، أو التعمّق ثقافيا في معطياتها، لعلّني أصل إلى احتمال ممكن لقصدية الروائي. ورواية «وداعا بشار» الصّادرة عن فلاماريون سنة 2000، للروائية الفرنسية من أصول يهودية راشيل خان، التي عاشت فترة شبابها في مدينتي الجنوبية في الجزائر «بشار»، إبّان فترة الاستعمار، منذ الجملة الأولى وجدتني أسبح في حميمية استثنائية مع النص لتشاركية المكان، دفعتني للبحث عن المفقود والضبابي في العلاقة مع المكان.
تدرك راشيل خان باعتبارها جزءا من المنظومة الاستعمارية، أن المدينة «بشار» يستحيل أن تستعيدها كبؤرة للهيمنة، لأنّ إرادة التحرير خلّصتها من استيلاء المستعمِر عليها، وبالتالي استعادت هويتها البدئية داخل منظورات الحرية، وهو ما يتنافى مع كل محاولة لرأب فجوة الغياب في المكان – الحنين إلى تربة الميلاد – عن طريق السيادة الآخرية على المكان، لذلك عمدت إلى النص كحالة جمالية لتكريس ذاكرة المكان في الوعي الإنساني، باعتباره جزءا من كيان الرّوائية. تحفّز السّاردة البحث عن المفقود في المكان، بسبب هروبها من المدينة صبيحة الاستقلال والتحاقها بفرنسا باحثة عن «حلم ضبابي»، وبين «الهروب» و»الحلم» تمتد مسافة مفقودة تشوّش على ماضٍ، على ذاكرة وعلى وطن. من خلال السرد، يجد القارئ نفسه مدفوعا إلى إعادة اكتشاف المكان «بشار» بالتفتيش في الذّاكرة والأطلال المنهكة باللامبالاة والنّسيان.
تحاول الروائية من خلال المشاهد التراجيدية، كسب تعاطف القارئ أو الآخر باستعمال حقل مفرداتي للحزن والبعاد، ومع تتالي الحكي تهمّش ما هو جوهري وأساس، وتصنع حقيقة ثانوية على حساب الحقيقة الرّئيسية، متجاوزة جراح شعب جُرّد من أرضه وحرّيته، لتروي شقاءها التخييلي وليد الرغبة في الاصطفاف مع الأقوى. ورغم أن الرّواية تدور في فضاء عربي إلا أن الرّوائية أثّثت الحدث بشخصيات لا تمتّ بصلة له إلا من حيث كولونياليتها، والعدد الضّئيل من الشّخوص الجزائرية (العربية): سليم، ابنه، والجيلالي الجزّار، ذُكروا عرضا، حيث خفّة حضورهم تقود التلقي إلى اكتشاف صورتهم المشوّهة، «غاي، يعود مصحوبا بجزائري يرتدي سروالا نقيا»، رؤية للآخر الذي جاء المستعمِر أساسا ليحضّره، قائمة في عنصر «السّروال النقي»، فعلامة النّقاء تؤدّي مفهوم المخالفة، محدِّدة مسار السّرد بالمفارقة، بما يعود على مجموع الجزائريين بالتخلف والوساخة، أو الأمم فاقدة التاريخ حسب رؤية هيغل.
تقدّم الرواية صورة أخرى صادمة للوعي والفكر، شخصية «مالك» المجاهد، «ذلك الذي يتخلى عن «آن»، بل ينام معها، وهذا خارج أخلاقيات المجاهدين (الفلاقة)». يكشف هذا التمفصل في الرواية عن ذاكرة تتورّط في لعبة الاسترجاع والتقييم، لكي تحدّد موقع السرد من مستويات الاسترجاع. أنتج الاستسلام للرّغبة في الرّواية بنية للفصل بين الذّات التي عاشت الحدث، أي لحظة الانفصال عن المكان، والذّات التي تستعيد المكان من موقع البحث عن «حلم ضبابي» بتعبير الرواية. تمثل العودة إلى المكان عبر النص احتماء طوباويا بالذاكرة «متعدّدة الأوطان والفضاءات»، التي تغلب عليها «يوتوبيا التذكر ويوتوبيا الرّغبة»، ممّا يدخلها في حالة من عدم التمييز الشّعوري بين المكان كامتلاك جمالي، والمكان كموضوع للهيمنة.
تعيد الرواية صياغة المكان كموضوع للهيمنة، كموضوع نتاج ذاكرة انتقائية حافل بمظاهر الكولونيالية بهيجة الاستمتاع بما أنتجت من بنيات المكان الشكلية والرمزية التي كرّست صورته داخل المخيال الاستعماري، لهذا نجد ضمن هذه البانوراما الحدثية تفجير السّرد لعلاقة الحب بين بنيتين اثنتين متقاربتين، «سارة» اليهودية و»توماس» المسيحي، والقصدية النصية قوية الدّلالة في تحييد الحدث السردي من مجال البنية الإثنية (الجزائرية) الثابتة في ذاكرة المكان موضوع التذكر والرّغبة الطوباويتين، فجمالية الحب لا يمكن أن تنبت في مجال المفارقة، أي مجال «السّروال النقي» (المستعمَر).
تقوم الرواية على تشريح تعدّدية ثقافية وإثنية ممهورة بالصّراعات، سارة اليهودية، توماس المسيحي وأغلبية مسلمة مهمّشة ومُستعمَرة، لكنّها أيضا كشفت عن خلل في البنية السوسيو- ثقافية اليهودية، كالعزل الذي تعرّضت له سارة، بما يوحي بأن اليهود هم ضحايا تقاليدهم الخاصّة أيضا، دون أن نسقط من الاعتبار صورة اليهودي في مخيال الآخر، شخصية شايلوك الجشع في مسرحية شكسبير «تاجر البندقية».
تتوشّح الرّواية بخطاب ضمني تنقله لغة ساخنة في معنى المصالحة، سارة وتوماس، حكاية حب غير مكتمل ينشد رأب صدع تاريخي ديني في العلاقة اليهودية/المسيحية، جرح نرجسي بتعبير فرويد محفور في الذاكرة المسيحية. يمتد مفهوم المصالحة ليطال المكان، حيث موشيه في رسالته التي بعثها إلى سارة من باريس والتي يذكر فيها أن «بيت الرب» Hôtel Dieu (مستشفى) كبير مثل بشار. تعرّي هذه الإشارة إلى المكان، المفهوم العنصري الذي يرفع من قيمة الأول بدلالة أسبقيته في السياق، وهو ما يتوافق مع «المركزية الغربية» التي ترى في غيرها مجرّد تابع، وبالتالي يذكّر الخطاب الوعي الجمعي اليهودي المدمج ضمن المنظومة الغربية بأنْ لا ينقذف في النّسيان ماحيا وجودية روحية ومادية على حد سواء (رمز الحب، سارة وتوماس)، وعدم الاستسلام للمنفى الذي لا يحقّق سوى الحرمان.
يختزن العنوان شحنة الفقد والحلم، فكلمة «وداعا « A dieu، تكرّس الغياب (الهروب من بشار)، لكن في الوقت ذاته تحيل إلى رغبة متخفّية في الحلم، إمّا الحلم بالعودة إلى المكان المفقود، أو الاحتفاظ بالمكان المفقود كحلم، وهو ما حاولت إنجازه الرّوائية في النص الذي يستمر بالمكان عابرا الوعي الإنساني.
يمثل موت «سارة» في نهاية الرّواية المعنى المباشر في بنية المفردة «وداعا»، تَمزّق الحلم واستحالة استرجاع المفقود المكاني. يترجم الموت التراجيدي لـ»سارة» وهي تبحث عن «توماس»، غياب أي لقاء بين كيانين اهتزا على وقع صدمة متأصّلة في الشّرخ والكسر التاريخيين على مستوى الوعي الجمعي اليهو ـ مسيحي. أيضا موت «سارة» في فستان زفافها، يمثل الجمع بين المتناقضين، الحزن والفرح، ما يسمو بالحرمان في دواخل اليهودي إلى نوع من الأسطورة، مما يضمن استمرار الحلم المنكسر، «الضبابي» بتعبير الرّواية على مستوى الوعي الجمعي اليهودي، كحالة لبلوغ الوعي بكمال الحلم.
*كاتب جزائري