الاستسهال أكبر أسباب انتشار قصيدة النثر

في حوار معها ..الشاعرة إباء إسماعيل : نحن في موجة شعرية تحمل سمات متقاربة.

2024-10-14

الشاعرة إباء اسماعيل : كتابة الشعر دائما تمر بمرحلة ثانية

عمر شريقي*

في عوالم الشعر، تتداخل المشاعر مع الكلمات لترسم صورة تعكس أعمق أحاسيس الإنسان، ولكن عندما تضيف الغربة إلى هذه المعادلة، يتشكل نوع خاص من الإبداع، حيث يتسلل الحنين والوحدة إلى السطور.

اليوم، نلتقي بإباء إسماعيل، شاعرة مغتربة، تركت وطنها لتحلق في سماء أخرى، لكنها ما زالت تحمل وطنها في قلبها وبين أبياتها. نتحدث معها عن تجربتها، وكيف انعكست الغربة على إبداعها الشعري، وكيف تستخدم القصيدة كجسر يصل بينها وبين جذورها البعيدة.

رحلة مع القصيدة
حول ولادة القصيدة وطقوس الكتابة عندها تقول إباء إسماعيل “تماما كما تتجمع مياه الأمطار في البئر، تتكون القصيدة لدي. يجب أن يمتلئ هذا البئر ثم تفيض المشاعر والأفكار والمعاني وأشرع في الكتابة. هذا المزاج في الكتابة حين يطول ويمتد لأيام ليملأ صفحات في قصائدي الطويلة نسبيا، بينما لحظات البرق التي تلمع بداخلي، هي التي تشكل القصائد القصيرة والومضات. ودائما هناك مرحلة ثانية، مرحلة الرؤية ليس بعين الشاعر بل بعين الناقد كي أعيد صياغة الجمل والتعابير والأوزان في القصائد الموزونة، والموسيقى دائما حاضرة مع فنجان قهوتي المرة”.

وتضيف “أستمع إلى الموسيقى التي لا تصاحبها كلمات مثل موسيقى إلياس الرحباني وموزارت وفيفالدي وغيرها. اعتدت الكتابة على ضوء الشموع في بداياتي في سوريا وكانت بسبب انقطاع الكهرباء، ولكني شعرت بأنها في الحقيقة تثير فيّ الكثير من فيض المشاعر التي تضيء وتتناغم مع لهب الشمعة. استمرت معي هذه العادة حتى وأنا هنا. أطفئ ضوء الكهرباء لأشعل الشمعة لأنها تضعني في مزاج الكتابة ولم أدرك سر تصرفي الغريب هذا إلى أن كشفته مع قراءتي لكتاب ‘لهب شمعة’ لغاستون باشلار يقول ‘اللهب هو من بين أشياء العالم التي تستدعي الأحلام، وهو واحد من أعظم صانعي الصور، إن اللهب يجبرنا على التخيل، وحالما نشرع بالحلم أمام اللهب فإن كل ما نراه يصبح لا شيء نسبة لما نتخيله’. ولكن في وقت لاحق، تضاءل استخدامي للشمعة أثناء الكتابة وأنا أمام شاشة الكومبيوتر”.

شاعرة مغتربة، تركت وطنها لتحلق في سماء أخرى

تسألها “العرب” عن المحطات التي أثرت في تحديد ملامح مسيرتها الشعرية، فتجيب “حتى هذه اللحظة، أشعر بأني في حالة اكتشاف ذاتي الشاعرة واكتشاف العالم من حولي من خلالها. رادارات روحي تلتقط كل ما يثيرها ويؤلمها ويحييها ويميتها. أكتشف الكون بكل ما يحمل من قوى شيطانية وملائكية. قد لا أسمي الأشياء بمسمياتها ولكنها تتفاعل مع كيمياء أعماقي ومشاعري لتولد القصيدة. مع كل قصيدة جديدة أعيشها، يسكنني قلق جديد لكأنها القصيدة الأولى في حياتي. هاجسي أن لا أكرر ذاتي أبدا. يجب أن آتي بما هو جديد وهنا تدخل فنية القصيدة ومهارات الشاعر. أكتب. أحذف. أتعلم. أخطئ وأصيب. وأقرأ كثيرا جدا في الشعر والنقد والمعارف الأخرى وباللغتين العربية والإنجليزية”.

أما المحطات التي أثرت في تحديد ملامح مسيرتها الشعرية، فهي، كما تقول، الانتقال منذ الطفولة من عالم كتابة المذكرات إلى كتابة القصة القصيرة ومشاركاتها في مهرجان الأدباء الشباب عندما كانت طالبة في الجامعة في منتصف الثمانينات لثلاث سنوات متوالية، قبل سفرها إلى الولايات المتحدة، وهذا الذي أعطاها قوة دفع إيجابية للاستمرار. انتقلت بعدها في نفس الفترة لكتابة قصيدة النثر أثناء دراستها الجامعية ونشرت في الصحف السورية واللبنانية آنذاك.

سعت إسماعيل إلى التعمق في الشعر العربي أكثر إذ لا مكتبات عربية في ميشغن لاقتناء دواوين الشعر وغيرها، فانطلقت إلى مكتبة جامعة ميشغن قسم الدراسات العليا. كان هذا في مطلع التسعينات قبل الإنترنت. كانت تمكث في المكتبة لساعات واستعرت عشرات الدواوين الشعرية والمراجع النقدية في الشعر. وجدت ضالتها المنشودة من امرئ القيس وحتى شعراء الحداثة العربية وكتب نقدية كثيرة. هذه كانت ثروتها التي فتحت لها آفاقا جديدة لتطوير تجربتها الشعرية والقفز إلى قصيدة التفعيلة التي استهوتها بعد قراءة الأعمال الكاملة لجميع الشعراء العرب المعاصرين وروادها. ثم كتابة الأبيات الشعرية ولكن بلغة الشعر الحديث وليس الكلاسيكي التقليدي.

نسألها كيف تعيش الغربة وهي بعيدة عن ثقافتها العربية والسورية ومدى تأثير ذلك على الإبداع، فتجيبنا “لكأن الغربة لم تعد غربة. الزمان غير الزمان. الغربة الحقيقية كانت في زمن ما قبل الثورة التكنولوجية، ما قبل الإنترنت، ما قبل التواصل بالصوت والصورة عبر الهواتف النقالة والآيباد وغيرهما. لم أبتعد عن ثقافتي العربية ولا السورية ولا عن هويتي العربية ولا السورية، هي جذوري وتعيش في. أنا منها وهي مني. أمنحها أجمل ما في من وهج روحي ومخزوني الشعري وتمنحني الإرث الرائع من الشعر والأدب والذي أستقي منه كل يوم شيئا جديدا”.

وتضيف “لا شك أن الغربة تثير الكثير من الشجون والحنين وتدفعني إلى الكتابة من منظور مغتربة. تجربة الاغتراب لا يمكن أن يكتبها من يقيم داخل الوطن الأم كمن يكتبها وهو يعيشها. ما أثر على تجربتي الإبداعية ومنحها بعدا آخر، هو الدعوات التي كنت ومازالت أتلقاها للمشاركة في فعاليات أدبية وثقافية أميركية تارة وعربية – أميركية”.

أما عن رأيها في قصيدة النثر فتقر بأن قصيدة النثر أو “الشعر المنثور” كما تحب أن تسميه – لأن القصيدة العربية لها مقوماتها وخصوصيتها العربية تحديدا – هي جنس أدبي حديث نسبيا دخل على الأدب العربي ليتوازى معه أسوة بالقصة والرواية والمقالة وقصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية. لديها أربع مجموعات شعرية من جنس قصيدة النثر من أصل عشر. كانت قصيدة النثر بالنسبة إليها البوابة الأولى والأقرب لتكوينها الأكاديمي وتجربتها الشعرية أيضا، فدراستها في سوريا الأدب الإنجليزي وإكمالها للماجستير في الولايات المتحدة في الأدب الإنجليزي والأميركي أدخلاها في أجواء قصيدة النثر ونظرياتها النقدية، وفتحا طاقاتها الإبداعية إلى حدود بعيدة ومدهشة، ولو أنها لم تكتف بها في المراحل التالية من مسار تجربتها الشعرية.

وتضيف “قبل أن أحاول كشف سبب كثرة الشعراء الذين يكتبون هذا النوع من الشعر بالمقارنة مع الأنواع الأخرى من الشعر، علينا أن نحدد بشكل تقريبي أين وفي أي فئة ينتشر هذا الشعر. إنه ينتشر بين فئة الشباب بنسبة ثمانين في المئة في تقديري، وهو يزداد انتشارا في الدول العربية الأكثر انفتاحا على الغرب والأقرب إلى الفرانكفونية مثل المغرب وتونس ولبنان وغيرها. بينما تلاحظ في دول الخليج العربي أن القصيدة العمودية هي الأكثر انتشارا”.

لا نتخلى عن فنية القصيدة لصالح الموضوع وإلا تحولت إلى كلام عادي.

وتتابع “إن قصيدة النثر تحتاج إلى موهبة شعرية وخيال وتوهج ورؤيا حداثية، ويلتقط شعراؤنا الشباب الموهوبون كل هذا لإنتاج قصائد جميلة تثبت وجودهم واستمراريتهم، بينما تتساقط الأقلام غير الموهوبة بفعل الزمن مهما كثرت وانتشرت تبقى زبدا على السطح. إن قصيدة النثر هي السهل الممتنع، يخيل لأي ماسك القلم أنه يستطيع كتابتها بثقة ولو لم يكن على علم بعلم العروض والقوافي التي تتطلبها القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة، فالاستسهال هو من أكبر أسباب انتشارها بشكل رديء وعشوائي أيضا. والكثير من النصوص النثرية ‘المقفاة’ توهم شريحة قراء ‘السوشيال ميديا’ بأنها رائعة ومتميزة، وهي في الأساس لا علاقة لها بالشعر وتدل على جهل كاتبها وقارئها معا”.

موجة شعرية
كتابات إباء إسماعيل مختلطة ومليئة بالحزن والألم والغضب والرحيل والغربة والسفر والحب والعشق والوطن، تقول الشاعرة “هو قدر جيلنا بأكمله الذي اتسمت قصائده بهذه الروح. عشنا حروبا كثيرا وأزمات ورحيل أحباء والشعر هو النافذة التي تضيء أحلامنا وأعماقنا التواقة للحب والجمال والسلام. هذه هي وظيفة الشعر. الشعر كفن وظيفته أن يرتقي بمشاعرك ويمنحك رؤى جمالية تمنحك القوة. قوة الروح، وقوة الحياة. أنت تكتب حزنك وألمك وغضبك لتنتصر عليه. تكتب عن الرحيل والغربة والسفر لتجد وطنك داخل القصيدة يضيء حبا وعشقا وحنينا. هذا الخليط هو الصدق. ليس دائما أعذب الشعر أكذبه. صدق المشاعر، صدق التجربة وحتى صدق التجربة المتخيلة في الحب أو الموت”.

وتضيف “الأهم من هذا كله، ليس ماذا أقول، بل كيف أقول. بمعنى آخر، أن لا نتخلى عن فنية القصيدة لصالح الموضوع وإلا تحولت إلى كلام عادي. فأي كاتب يمكن أن يكتب عن هذه الموضوعات وكلامه لا علاقة له بالشعر ولكن عبر عنه بكلام عادي”.

حول الأثر الذي تركته إقامتها في أميركا في قصيدتها، تقول الشاعرة السورية “أود أن أنوه بأن انطلاقتي الأولى في كتابة الشعر والنشر في سوريا كانت قصيرة جدا لا تتعدى العام، ولا مجال للمقارنة مع أكثر من ثلاثين عاما قضيتها في الولايات المتحدة وأنا أغمس حبري بمشاعري وأكتب. القصائد القليلة التي كتبتها ونشرتها في سوريا لم يكن فيها أثر الشوق والحنين والغربة، كان هناك اغتراب روحي ممزوج بعشق طفلة كبيرة. ولم أفكر يوما بالكتابة باللغة الإنجليزية أو الترجمة. هذا التحول وجد أرضا خصبة في هذا الفضاء المكاني الجديد”.

نسألها إن كان هناك شعراء وشاعرات لفتوا انتباهها وتأثرت بهم في الساحة الأدبية الشعرية، فتجيبنا “من الشعراء الذين أشعلوا تجربتي الشعرية ومنحوها زخما في بداياتي كان بابلو نيرودا ووالت ويتمان في القصائد ذات النفس الطويل وإميلي ديكنسون في الومضات الشعرية المكثفة. أما الشعراء والشاعرات العرب المتميزون الموجودون حاليا على الساحة الأدبية فهم كثر وأنا أقرأ لمعظمهم بشكل جدي. ولكن يصعب علي تحديد أسماء بعينها لكثرتهم كما ذكرت. ولأننا في موجة شعرية تحمل سمات متقاربة على ما يبدو. إنها روح العصر المليء بالتناقضات والخيبات والتحديات حتى داخل القصيدة”.

التعمق في الشعر العربي

وتضيف “بشكل عام، يعجبني الشعراء الذين يمسكون بالقصيدة العربية بقوة من كافة جوانبها ويقدمونها للقارئ بأرواحهم العذبة ومواهبهم الفذة. الذين يعيشون القصيدة ويكتبونها ويمتلكون ناصيتها ويحملون رايتها. كل شاعر أو شاعرة يكتب الشعر العمودي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر بذات الزخم والجمال وقوة الشاعرية، لأن موهبته وثقافته وحافظته المعرفية تمكنه من أن يكون شاعرا فارسا في ميدان الشعر العربي بكل جدارة. ويبقى في رأيي امرؤ القيس أمير الشعراء العرب في كل العصور”.

إذا كان هناك حدث في حياتها أثر على إبداعها وحياتها الشخصية، تقول “هناك أكثر من حدث في حياتي أثر في تجربتي الإبداعية أو ساعد على ظهورها. وللمعاناة والألم النصيب الأكبر منها كما يقول جبران خليل جبران ‘ليس الشعر رأيا تعبر الألفاظ عنه بل هو أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم’. العمل الإرهابي الذي فجر منزلنا في مدينة حلب وكنت في السابعة عشرة من عمري. أنا لم أكتب يوما عن هذا الحدث بشكل شخصي لأنني وجدته حدثا أكبر من ذلك بكثير. لأن الإرهاب هو ضد الإنسانية، ضد الوطن، ضد الحرية. ومن هنا وجدت في أعماقي طاقة هائلة للدفاع عن المظلومين ضد الظلاميين وأتعاطف وبقوة مع كل حركات التحرر والمقاومة في العالم، وضد الإرهاب وقد امتلأت دواويني بهذا الهم الوطني والإنساني”. حول طموحاتها على الصعيد الشخصي والعملي تقول إسماعيل “أطمح أن تصل صرختي الشعرية ليسمعها الكون بأسره”.

*إعلامي سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي