«سماء بضفيرتين»: كِتابةٌ جَدِيرَةٌ بِاسْمِهَا

2024-10-01

رشيد الخديري

ما يُميّز تجربة الشاعر عبد الجواد العوفير عن تجارب مُجايليه من شعراء التّسعينيات هو هذا الانهمام بالنّفس الشعري الشّذريّ القصير والإيجاز والتكثيف فمنذ عمله الشعري الأول «راعي الفراغ 2010» مروراً بـ»ضحكات الكركي، 2015» وصولاً إلى منجزه الشعري الصادر حديثا «سماءٌ بضفيرتين 2023» لا يكاد ينفك الشاعر عن تقديم شذرات شعرية مفعمة بمفارقات الوجود والذات والآخر، ولعلّها مكرمةً أن يَتَوَجَّهَ الشاعر إلى القارئ بهذه المنمنمات الشعرية المُكَثَّفَة، وكأن عبد الجواد يفتح نافذة صغيرة على الكون.. يتأمّل ويتفاعل ويتماهى مع الأشياء عازفاً على وتر المفارقة والإدهاش والمماهاة.

وواضح أن الشاعر يستثمر حوارياته مع الترجمة الشعرية من خلال نصوص كلود إيزو وألبيرتو كورابيل وكلود فيجي وغيرهم، فتأتي الكتابة لديه ضَاجَّةٌ بالإيجاز والتّكثيف والبنية الجُمَلية القصيرة، بعيداً عن البناء المركّب والمعنى المُتَشَعِّب المثقل بكثرة التشابيه والاستعارات، بل يوثر ركوب روح المغامرة وتفكيك الخيوط السريّة للكائن الإنساني، وتلك من خصوصيّات القول الشعري عند عبد الجواد، فهو دائم العزف على إيقاع المفارقة وفعل الإدهاش عبر لغة شعرية تَتَخَلَّقُ من رحم الشرخ الإنساني، وكأن الشاعر في نصوصه يَتَنَكَّرُ لكل ما أسَّسَه الشعراء من قبل، كي يجترح لنفسه طريقاً مليئاً بالتّصدّعات والشقوق، وأعتقد أن الكتابة بهذا المفهوم الهايدغري، هي كتابة لإحداث الشرخ والتَّمرّد أكثر على تقليدانية الشعر بالتّوجه نحو فضاءات رحبةٍ للكتابة. يقول الشاعر:

مُعَلِّمَةُ الإنشاء كانت ترتجف بين يديها الشَّمسُ

تنّورتها الصغيرة علمتنا اللغة.

وأنا الآن أنظر للشمس

تغيب التّنورة

تغيب اللغة.

ففي هذا النّص/ الشذرة وغيره من نصوص الإضمامة، لا يكفُّ الشاعر عن نسج مثل هذه المفارقات، فاللغة ها هنا، تَتَخَفَّف من ثقل البلاغة وتسير في اتّجاه الشمس حيث الوضوح والإدهاش بين رحابات الكون. لنقلْ، إنها اللغة- الأنثى- المرأة التي تجمع الأشياء والرؤى في عمق، وفي حالةٍ من السيرورة مع الفلسفات الكبرى التي تسعى إلى الهدم وإعادة البناء.

أفق هذه التفاعل مع نداءات الكتابة بما تنطوي عليه من مفارقات لا يتوقف عن تخوم هذه اللغة، بل يتجاوزها إلى الارتقاء بجوهرانية الشعر نحو مقامات لا مرئية ولا نهائية، وأحسب أن هذه التجربة في الشعر هي أوّلاً تجربة في الحياة وفي كيفيات الاستفادة من الفلسفات الكبرى لكتابة الشعر وفق رؤيةٍ مغايرة ومختلفة. ثمة إذن، مفارقات وجودية تَتَلَبَّسُ إيقاعاتها من اللهب الكائن في الكينونة، وفي الذات المثقلة بحركيّة الزمن وبلاغة البوح الشفيف العاري المنذور لمأساوية الكتابة بتعبير رولان بارت، وهي مفارقات أيضاً، تتقاطع مع نصوص الحياة ونصوص الكتابة، فالشاعر لا يكتب إلا من خلال تَمَدُّد الجنون فيه بحثاً عن الحقيقة أو الحقائق باعتبارها كينونةً وتجربةً وذاتاً. يقول الشاعر:

اكتشفتُ الحقيقة في الوردة

الوردة اكتشفت الحقيقة من خلال نظرتي إليها

أنام هذه الليلة،

تحرسني وردة وحيدة.

هكذا هي حقيقة الشّاعر ومساره الشّعري والتّأمُّلِي المُحايث للتجربة الشِّعريّة، حقيقة منذورة للغليان الذاتي الانفعالي، وقد يكون ذلك من تجليّات الكتابة الجديدة التي تَأبى عن التَّموضع ضمن كتابة المعيار/ النموذج. تلك هي الكتابة عند عبد الجواد العوفير لا تستكين لأنواء الرّتابة وغبار الدوكسا والتّكرار، وإنّما في لغتها ومنظوراتها للكتابة تُمارسُ لذّة التّدمير والتّجريب من داخل الكتابة نفسها، وكأنّنا أمام كتابة ضد الكتابة بتعبير الناقد الأمريكي بيل أشكروفت، لكنّها كتابة جديرة باسمها، فكينونتها تمتدّ من أديم الأرض إلى زرقة السماء.

في زرقة السماء هذه وتَمَدُّدَاتها، ينفتح النّص الشعري على إيقاعات الكائن والخيوط السريّة للكون، ناسجاً حوارات جريئة مع المرأة والجنس والإله، وهنا على الخصوص، تتجلّى منعطفات الكينونة ومسارات الوجود، حيث الانفلات من الحصار المرئي إلى اللامرئي، ومن السكوني العابر إلى اللانهائي في توليفة شعرية شغوفة بالسير نحو المفارق والمجهول. يقول الشاعر:

حين نصيرُ عجوزين

سنسمع دبيب السموات على الأرض

لكن، هل سنسمع دبيب الحب؟

وهل سيعرف الله هذا البياض؟

الذي يطلع مثل أشجار النوم

ضمن هذا التفاعل بين الواقع والمخيّلة، يواصل الشاعر عزفه المنفرد على إيقاع المفارقة والمخالفة والإحداث. إحداث قطيعة ما مضى وما التّفكير فيه من معرفة في الشعر ومعرفةً للشعر. كل شيء هنا مرتبط بالكشف عن الأسرار والوصول بالقصيدة إلى أقصى درجات توصيف الجوهر بما ينطوي عليه من انزياح عن العابر والمؤقت. بهذا المعنى، يكتب عبد الجواد العوفير مُلتمساً فضاءً آخر للسيرورة، فالشعر لديه ليس إيقاعاً أو لغةً، بل هو أيضاً تجاوز- وسيلة للاحتجاج على السائد والكائن والتّطلع إلى البعيد، أبعد نقطةٍ في الكون. هكذا، فإن أضمومة «سماء بضفيرتين» تُقدِّم للقارئ نظرة إلى الحياة وتصوغ إشكالات للوجود وهي تتوجه إلى وعدها المستقبلي، غير عابئةً بالأصوات المُتَقَطِّعة التي تبرز هنا وهناك.. تتعالى في صخبٍ واندفاعٍ، ثم تهدأ وتعود إلى كمونها المؤقت، دون أن تحدثَ أي شيء. فقط صرخات في وادٍ منسي لا ماء فيه ولا زرع، فالقصيدة – السيرورة هي التي تقول كل شيء وأيّ شيء، دون أيّ صخبٍ أو ادّعاء أو تزيّد.

شاعر وناقد مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي