رامي أبو شهاب
تمثل إسهامات الأجيال التي نشأت خارج فلسطين جزءاً من مدونة الخطاب الفلسطيني المتعدد التوجهات، والمتشابك مع مقولات الداخل والخارج، لكن الأهم الإبقاء على مفردة المقاومة التي تعني في جانب من جوانبها التمظهرات الثقافية التي تتصل مباشرة بإشكالية الهوية، أو تلك الهوية المتشظية التي تتشكل ضمن أقنية المكان والزمن، ومع ذلك تبقى متصلة بمصدر واحد، وأعني الوجود الفلسطيني في مواجهات عمليات المحو.
المقاربة
لعل دوافع باحثين فلسطينيين للتمحور حول إشكالية الهوية، يتأتى من تجربتهم القائمة على قيم القلق، وسؤال المعنى، فالاقتلاع يعني نقصاً في التعريف في ظل وجود سردية مضادة، بالتوازي مع أفعال التصفية المادية التي يمارسها الاحتلال، غير أن الأسئلة تُعنى بالآني والمستقبل، كما في دراسات الباحثين الفلسطينيين الذين اختبروا الطارئ، وتداعيات قلق الهوية، ومنهم دراسة الباحثة نور صباح بعنوان «بلا مكان» متبوعاً بعنوان فرعي: «الفلسطيني بين الارتحال والغياب والحصار» – منشورات دار الفينيق 2024.
ولا يكاد يخفى على القارئ جدلية الاستعانة بمفردة المكان، الذي أفاض إدوارد سعيد بإضافة بعد آخر لها في سيرته الشهيرة «خارج المكان» في حين أن الباحثة تنتمي إلى جيل جديد يتبنى مقولة «بلا مكان» وهو أمرٌ يبعث على الوحشة والألم، فالوجود يبقى معلقاً أو مرجأ ضمن تكوين تفكيكي، غير أن الباحثة تعيد تكوين الفعل عبر إضافة ثلاثة تصورات، ونعني قيمة الهوية في بعدها الارتحالي المستمر نتيجة غياب المكان، وأخيراً الحصار الذي يؤطر الوجود، وتشكل الهوية، سواء أكان في الداخل نتيجة الاحتلال أم في المنافي والشتات. يتبنى الكتاب مقاربة بينية تمتثل للمقولة التخيلية، ضمن تقاطع بارز مع الأطر السياسية، لكن عبر أسس ثقافية تتعلق بمفهوم الذات الإنسانية (الفلسطيني) ومن أجل تحقيق ذلك اعتمدت تخطيطات كل من بول ريكور وجورجيو أغامبين، من منطلق عنايتهما بتموضع الإنسان في مقولات الفراغ، والتهديد والاستلاب. تنهض دعائم الكتاب المنطقية، على اكتناه عدد من الروايات الفلسطينية، التي يمكن أن نعدها نتاج الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، وفيها تعتمد الباحثة تبويباً مركزه مفهوم الهوية ضمن تصانيف الهوية المرتحلة، والهوية الغائبة، والهوية المحاصرة، ضمن ثلاثة فصول مسبوقة بتمهيد نظري يتعلق بمفهوم الهوية السردية والحياة العارية، وقبل ذلك مدخل ينطوي على تعريف بالروايات متن الدراسة، ومفاهيم تتصل بجدلية المكان.
سؤال الهوية
يبحث الكتاب في معضلة تعريف الذات لأي فلسطيني يكمن وجوده في الطارئ من المكان، ما يعني أن هويته مرجأة، فهي ليست نقية في عالم بات يقترب من تحييد التمايز والاختلاف، وينحاز إلى شعبوية واضحة، فمواجهة سؤال من أين أنت؟ قد يبدو من أشد الأسئلة إرباكاً للذات الفلسطينية، التي تحتاج إلى إضافة تعليقات، وتفاصيل تبدو أقرب إلى زحافات من أجل إعادة تموضع الذات، بين الأصل الذي نرغب في تأكيده، وقيم الانتماء الجديد، دون أن يتسبب ذلك بإزعاج للآخر، مع أهمية تقدير قيم التفضل التي على الفلسطيني أن يراعيها.. ما يجعل وجوده مستباحاً، وبهذا يتأطر قلق الذات في مواجهة تكوين الهوية، ضمن مسارات أو مقولات قد تختزل شيئاً من المعضلة. نشأت المعضلة سنة 1948 أو بعبارة أخرى من «النكبة» التي تركت ظلالا قاتمة على حياة كل فلسطيني أصبح مضطراً أن يحمل تداعيات التاريخ، ويورثه من جيل إلى جيل، وبذلك تحقق انزياح لم يقتصر قط على المكان، إنما امتد في الزمن، فالارتحال لم يتوقف؛ فأثار قلق سؤال الهوية، الذي تفرد له الباحثة فصلاً يتعلق بمعنى الوجود في الامتدادات الفلسفية والثقافية، فضلاً عن قيم التداخل بين المرجع الفردي، وتقاطعه مع الوعي الجمعي، فالهوية – من وجهة نظر الكتاب- فعل غير مستقر، ودائم التحول، بل هو يخضع إلى منطق النمو والتطور، ويتجلى في مجالات متعددة منها: الاجتماعي، والنفسي، والسياسي، وأخيراً الفلسفي.
تخلص الباحثة إلى تمركز الهوية ضمن ما يمكن أن نطلق عليه «الإطار الفلسطيني» لتأكيد هوية الشعب أو المجموعة: أصحاب القضية، فالهوية الفلسطينية تعد قضية إشكالية تحتاج إلى نضال بهدف تأكيدها، في ظل قوى تسعى إلى تصفية الوجود عبر وسائل متعدة منها: الإبادة الجماعية، والفصل العنصري، كما نفي التكوينات الثقافية المؤسسة، فلا جرم أن تسعى الباحثة إلى ربط ذلك بالإطار المكاني الذي يتعرض إلى جملة إشكاليات تتعلق بالمكان المُنتمى إليه (فلسطين) وما طرأ من أماكن ينظر إليها الفلسطيني على أنها عوالم مؤقتة لا تعني الوطن، ومن أجل ذلك يبتكر دروعاً رمزية للتعويض منها مفردات شجر الزيتون، والكوفية، والمنزل، والمفتاح، وغيرها.
تتصل معضلة الهوية بالتعلق المكاني في الجسد السردي، ويتجلى هذا عبر بناء تخييلي يمتلك قوامه من المرجعيات التي تمزج الواقع بالتاريخ؛ ما يقود الباحثة إلى اجتراح مفهوم (الرواية السياسية) التي ترى أنها ترتبط بصورة وثيقة بالأيديولوجية، فتصبح الرواية الفلسطينية أسيرة السمة، التي يمكن أن تعد مأخذاً ضمن السياقات المتعالية الفنية، غير أن فيض تعدد الآلام يجعل الرواية الفلسطينية قادرة على تشكيل عوالمها، وتقدير قيم التكيف، والإبداع، فثمة قضايا المنفى، والمجازر، والانتفاضة، والثورة، والمقاومة، والمرأة، والحب، والحرب، والسجن، وغيرها الكثير. وهذا يتطلب تتبع ملامح الرواية الفلسطينية ضمن إحداثيات النكبة مروراً بالنكسة، ومن ثم اتفاق أوسلو، وانتهاء بالآني، وفي كل مرحلة تتغاير القضايا، والأساليب، لكن يبقى المشترك التجربة الفلسطينية.
يمكن اختزال الفصل الثاني في مفهوم الهوية السردية التي تُختبر عبر مرجعيتين اعتمدت عليها المؤلفة، ونعني مفهوم بول ريكور، الذي قاوم فكرة انغلاق النص ودائريته، فجعل من مفهوم الهوية السردية مجالاً من مجالات تأويلية الذات الإنسانية، التي تنشغل في سرد ذاتها، كما تجربتها في العالم الذي يحيط بها؛ والأهم توفر المعاناة، بيد أن كل ما سبق يحتاج إلى سردية، وشيء من التخييل كي يتخلق البعد الأنطولوجي، ومركزه الأنا، في حين تبرز نظرية الحياة العارية للفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين بوصفها المرجعية الثانية للكتاب الذي يتقدم نحو وعي تمثيل الذات المستباحة أو المنبوذة؛ من مبدأ محاولة نزع الحياة عن الذات، أو بمعنى آخر الوجود، واستباحة معناه، مع محاولة اقتلاع كل ما يتصل به، وهي ممارسة تنتهجها الخطابات الصهيونية على مستوى الفعل عبر ممارسات القتل والعزل والتجويع والتهجير، ومن ناحية أخرى فإن هذه الذات قد تعرضت للاستباحة أيضاً في أوطان الآخرين ما يخلق في وعي الفلسطيني شعوراً بأنه غير مكتمل، أو شخصاً مستباحاً على مستوى الحقوق والوجود، ما يقود بالمحصلة إلى تحقق معنى الاغتراب حسب المفهوم الهيغلي.
مدارات الهوية السردية
تخضع الفصول اللاحقة إلى محاولة اكتناه الهوية ضمن منظور الصورة، أو بمعنى كيف تتجلى الذات في الرواية، وتشكل الهوية، وفيها نرى مفهوم الهوية المرتحلة في عدد من الروايات التي تختبرها الباحثة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر روايات لكل من سوزان أبو الهوى، وحزامة حبايب، ففي رواية الأخيرة: «قبل أن تنام الملكة» نقرأ تحليلاً عن الارتحال الفلسطيني الثاني، أو الثالث للفلسطيني بعد الغزو العراقي للكويت، غير أن الباحثة تعكس ذلك من خلال تأطير الهوية ضمن شخصيات سردية تسعى لأن تجسد قلق الارتحال، وفعلي الاستلاب والاستباحة للذات التي تفقد قيم الاستقرار، في وطن كانت تعتقد أنه يمكن أن يكون تعويضاً عن وطن حقيقي، لكن الارتحال والاستباحة يضربان مرة أخرى فتنتقل الشخصية الرئيسية إلى الأردن، فيبقى معنى التخييل جزءاً من تعريف الذات، ومدى ما يخلعه من قيمة فنية في تعريف الرواية بوصفها عملا فنياً في المقام الأول، كما تختبر الباحثة ذلك في رواية أخرى للروائي سليم البيك، بعنوان «تذكرتان إلى صفورية» فترى أن مآلات تعطيل هذا الارتحال يتعلق بالعودة إلى صفورية أو فلسطين، وفي هذه الرواية نختبر الترحال المتكرر للفلسطيني (فلسطين ـ سوريا ـ الإمارات- فرنسا) على خلفية عالم متداع يسوده الاضطراب والتشويه. وتتجلى الهوية الغائبة في الفصل الرابع فنقرأ روايات تتخذ من فعل النكبة حدثاً مركزياً، غير أن الارتحال يتعلق أيضاً بالداخل الفلسطيني، كما في رواية سحر خليفة «حبي الأول» فمؤلفة «لم نعد جواري لكم» تعد من أهم الأسماء التي قدمت اختزالات عميقة في نقد الواقع الفلسطيني: تاريخياً وثقافياً ونسوياً، ولعل ما تتأمله الباحثة – تحديداً- نزعة سحر خليفة التي تتوجه إلى الداخل من أجل بيان قيم النضال، وشيء من التشوهات التي تطال الذات الفلسطينية؛ ولهذا يتخذ الاستدعاء للماضي جزءاً من فعل صوغ الهوية السردية، كما المكانية، وينسحب هذا التوجه أيضا في البحث عن الهوية ضمن حاضر الصورة في رواية عاطف أبو سيف بعنوان «مشاة لا يعبرون الطريق» من خلال الوقوف لتأمل معنى الموت، والأهم كيف يحمل الفلسطيني معه هويته التي تتعرض للتغييب القسري والتلاشي.
وينتهي الفصل الخامس بمفهوم الهوية المحاصرة التي تتعلق بممارستي الاستباحة والانتهاك اللتين لا يطالان البعد المادي إنما يمتد أثرهما إلى الروحي، كما في رواية «غزة تحت الجلد» لسلمى الدباغ، وفي هذا المحور يختبر الكتاب شخصيتي العمل اللتين تحاصران في إطار التجربة الإنسانية في غزة، وقوامها المعاناة، بالتوازي مع الاختبار الذي يتعرض له الفلسطيني يومياً بين معنى البقاء، أو الخروج ضمن بناء تقابلي تجسده شخصيتا (رشيد وإيمان). يلعب المكان دوراً في تحييد الهوية، فضلاً عن إطلاق جزء كبير من طيف الأسئلة التي تتعلق بها، بما في ذلك نقد الذات، ونقد الأجهزة السلطوية، ولاسيما السلطة الفلسطينية، في حين يأتي تمثل رواية سوزان أبو الهوى « الأزرق بين السماء والماء» من أجل اكتناه معنى تشكل الهوية لدى الشخصية المركزية تبعاً للذاكرة، وبذلك نعده تشييداً يتنازعه وجودان ثقافيان: غزة وأمريكا، أو بمعنى آخر كيفية مواجهة الحصار، وكيف يمكن للذات أن تتصل بكلا المكونين ضمن سؤال الهوية، في ظل استباحة الوعي الجمعي كما الهوية من لدن كيان همجي محتل.. جعل مدينة غزة سجناً كبيراً.
وفي الختام، تميزت الدراسة بقدرتها على طرح أسئلة، وتأطيرها فكرياً، فشكلت إضافة في مدونة نقد الرواية الفلسطينية، غير أن ذلك لم يمنع من أهمية العناية باختزال بعض المتن نتيجة التكرار الذي تسبب به الفصل الأول، أو التعريف بعناوين الروايات المختارة، حيث لم يقدم هذا المحور شيئاً سوى إضافة كان يمكن تضمينها في التحليل، مع أهمية الحرص على تكثيف التحليل ضمن مقولات بدت لي أكثر عمقاً من محاولة تحليل الروايات، أو شرحها من خلال التركيز على التعمق في مقولات الاستباحة والنبذ، وقلق الهوية، ومع ذلك فإن هذه الملحوظات تبقى جزءاً من هوية الفعل النقدي أو البحثي الذي يميزه الاجتهاد، دون أن ينتقص من الجهد.
كاتب أردني فلسطيني