فضاء التقاطع السردي في رواية «الرجع البعيد»

2024-09-24

محمد خضير سلطان

يتشكّل المجال الحيوي السردي والتواصلي في رائعة «الرجع البعيد» للراحل فؤاد التكرلي بين ثلاث بنيات سردية، الأولى، البنية الإطارية التي تمثل غلافاً «سيلوفانياً» للنظام السياسي، بوصفه زمناً حقيقياً للنص الروائي، أو تشكّل غلافاً «سيلوفانياً» شاحباً لأثر النظام السياسي في الوقائع كلها، تبدأ السردية الإطارية ببوادر تهكمية وشيكة الانتهاء لمرحلة الزعيم عبد الكريم قاسم في بداية الستينيات، ثم تمضي في إشارات انحدار أكثر، وتراجع أسرع، دون تبيان حيثياتها كأنها عابرة تحت السطح أو ضامرة في الوقائع، وتنتهي بمقتل الزعيم ومقتل شخصية الرواية الرئيسية.

والثانية، البنية السطحية ممثلة بالمجتمع المحلي البغدادي في باب الشيخ، والمناطق القريبة منه، وتتضمن هذه البنية السردية طبيعة المكان وفعاليته الإنسانية، التي تحمل الظلال الروحية والدينية والصوفية الغاربة للقرون البغدادية الوسيطة، إلى جانب الأنوار الشاحبة المكتسبة للقرون المدينية الحديثة، ومن الملاحظ في تاريخ الرواية والقصة في البلاد، بأن هذه المنطقة والمناطق القريبة جداً منها، تعد مركز الروي والقص الحديث في بغداد، يتجلى ذلك في بروز عدد من الروائيين والقصاصين العراقيين، في وقت مبكر مثل محمود أحمد السيد وغائب طعمة فرمان وغيرهما، وهي التجمعات المحلية الأكثر استقراراً في العلاقات المدينية والطبقية وشبه التحولية بين مدن البلاد الأخرى آنذاك.

والبنية الثالثة والأخيرة، البنية العميقة التي تمثل تحرك النزوع الإنساني في مواقف الشخصيات، وظهور فكرة التنافر والأدلجة الفنية التي تعكس مفاهيم جاهزة. وبالقدر الذي يشكّل تماسك وانسجام البنيات السردية الثلاث في ما بينها، فإن قدراً آخر من التفكك والتباين، يتضمن محتوى العلاقات الحيوية التواصلية بين البنى نفسها.

معمار رمزي

تنغمس رواية «الرجع البعيد» منذ بدئها الهادئ في الصفحات الأولى، في مسك العابر اليومي، أو انتقائه وإعادة اكتشافه لكي يؤدي وظيفته الفنية داخل النص، وينمو مع تصاعد الوقائع حتى يغدو كتلة رمزية، تلقي ظلالها العميقة على أنحاء متعددة من البيت، بسلالمه الحجرية الضيقة، وإيوانه المضاء أو المعتم، والزيتونة الصامتة والمطبخ وروائحه البغدادية الفاغمة (الطيبة) والغرف العلوية الأكثر صمتاً، المسكونة بهزيم الصخب البعيد، ورشقات الرصاص في الفضاء القريب، وما إن يتدفق هذا العالم المعيش العادي بكل حيويته الضاجة بالصغار والكبار، وباللغة المحكية الحميمة، حتى تبدأ الرواية بالكشف شيئاً فشيئاً عن وضع إنساني ووجودي، يكتنف الشخصيات الرئيسية (حسين، مدحت، كريم، منيرة) وما تعيشه من صراع واحتدام وأفكار قلقة، وبذلك يستحيل المشهد اليومي المتدفق الى ما يشبه السطح الذي تمور ثم تشف عبر أعماقه عوالم الشخصيات الداخلية، وما سيقع لها لاحقاً من تغيير في المصائر، والصراع الحاد في مواجهة الفناء والحياة معاً.

إذن اعتمد الراحل التكرلي، البنية السردية السطحية بالاحتفاء بهذه العوالم الإنسانية الحية كما هي، أو في إعادة اكتشافها، فيما تكشف البنية السردية العميقة في المقابل عن العلاقات الوجودية لدى الشخصيات الرئيسية، وبيان سموها القلق وترددها العاجز وأفكارها التشاؤمية المطلقة، في كائنية متصلة عبر الأسلاف والتاريخ ومتواصلة عبر الأزمنة.

ولعل الروائي التكرلي في خضم المشهد اليومي الجاري والعفوي، أراد أن يسلط الضوء، مثل لقطات قريبة متتابعة على صور منتقاة، تكشف عن شىء ما ممهد، ليستدل بعمق مثلاً على التعريف الأولي بشخصية السكير المعربد حسين، حين تحاول الأم تجنب رؤيته واللقاء به لدى عبوره وسط السوق، وتحاول أيضاً ألا تجعل الطفلة «سنا» تكتشف وجوده ثم يمضيان بعيداً عنه، لكن في المقطع التالي، تبادر الطفلة بمرح بريء إلى القول بوضوح، إنها رأت حسين في رحلتهما إلى السوق.

وبالطريقة نفسها التي دشنت الرواية، تقديم شخصية حسين، سوف تقدم شخصية كريم على نحو فني مشابه، حين يتأخر في الحضور إلى البيت لدى المقتل العابث لصديقه فؤاد، وتأخره يبعث على الاطمئنان طالما في حوزته مفتاح الدار، غير أن نسيانه الغامض له جعله يثير فزعهم في الطرق المتتابع على الباب. وهذه الإشارات التدشينية بالتعرّف، شملت الشخصيات الأخرى بمن فيها منيرة وعدنان وإلى حد ما مدحت، وانتقلت هذه الإشارات رويداً، إلى خوض الشخصيات لصراعها المرير، دون أن يخفت هدير وجريان اليومي والمعيش.

آفاق رحبة ومتقاطعة

وكلما أراد الروائي أن يكشف شيئاً ما عن كنه شخصياته الباطني، زاد من تدفق وجريان وإلفة البحر اليومي الزاخر في مطبخ البيت والمحلة، أو البار، كأن البنية السطحية الفياضة هي الزخم الواقعي والتخيلي المعادل لنزعة الأفكار الوجودية والاستغراق العبثي الغامض لدى الشخصيات الرئيسية في الرواية. ومع ذلك، فإن الأفق الفني الرحب والإنساني ممثلاً بالبنية السطحية، لم ينسجم كلياً مع الطروحات الفكرية الجاهزة والوافدة للشخصيات وإقحامها في مواقف يستعصي على السياق الاجتماعي العفوي قبولها والانسجام معها داخل الرواية، وإذا كان من الطبيعي أن تنشأ في الواقع موضات ثقافية وفكرية متبناة من قبل أدباء ومثقفين، وتتخذ شكلاً من السياق المشهدي الثقافي والإبداعي، مثل تبني الشاعر حسين مردان للاتجاه الوجودي، لكن هذا الشكل الجاد من التبني الواقعي في مداه الثقافي، يغدو صورة أو دلالة كاريكاتيرية في النص الروائي والقصصي الافتراضي، يستدعي التهكم والسخرية، لأن المدرك الواقعي يعاكس المدرك النصي، إن جاز التعبير.

إن «الرجع البعيد» نجحت في بيان الموقف الاجتماعي وجوهره الفني في البنية السطحية، فيما تركت المواقف الإنسانية للشخصيات رهناً باجتهاداتها الجاهزة من مناشئ فلسفية وفكرية لها مراجعها ومحيطها الواقعي في الثقافة العالمية، وتعاملت بشكل جاد مع هذه المواقف غير المنسجمة مع الفضاء الاجتماعي. وهنا نصل إلى مشكلة هذه الرواية بوصفها جزءاً من مشكلة الرواية العراقية بشكل عام، ونقصد بها مشكلة الظلال الإصلاحية والأيديولوجية، التي رافقتها منذ نشوئها في العشرينيات من القرن الماضي على النحو الإصلاحي والوعظي والتعليمي، مروراً بتواصلها في الأربعينيات والخمسينيات على النحو الفكري والأيديولوجي، وحتى تقديمها نماذج فنية متقدمة ومنها هذه الرواية إلا إنها لم تتخلص من الأفكار المنهاجية الجاهزة فكرياً، التي تعاملت معها كونها موضات واقعية، بينما يفترض أن تكون الرواية استباقية وليست مسبقة في مورد الأفكار. يرى ميلان كونديرا في كتابه «فن الرواية» أن «الرواية تعرف اللاوعي قبل فرويد، وتعرف صراع الطبقات قبل ماركس، وتمارس الفينومنولوجيا قبل الفينومنولوجيين» ومن الحتم أن تدرك الإحساس الوجودي بالعالم قبل سارتر. غير أن «الرجع البعيد» وسواها من الأعمال الروائية الأيديولوجية العراقية والعربية، على وجه العموم، كتبت بعد سارتر أو سواه، ونقلت أفكاراً من قبيل الفردية والحرية والمسؤولية والفناء، عقب تكريسها في واقع الاتجاهات الفكرية والثقافية في العالم. ربما من المبالغة المقارنة السابقة مع الرواية وتاريخها في العالم، لكن كونها ترتبط في إحدى مشاكل التحديث في هذا المجال، وهكذا فإن البنيات الثلاث انقسمت لتكوّن البنية السطحية، بما يمثل اجتماعية الرواية والأدب والبنية العميقة التي أنشأت الفكرة الأيديولوجية المقحمة والبنية الإطارية المتقاطعة في البيئات الثلاث.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي