رنا قاروط
لا علاقة لرواية «ليلة مرصعة بالنجوم» للكاتب السوري الشاب يوسف الخضر، الصادرة عن دار نوفل / هاشيت أنطوان 2023، باللوحة الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه للرسام الهولندي فنسنت فان غوخ، لكن هذا الميل للتركيز على القضايا النفسية والوجودية، التي وسمت المدرسة ما بعد الانطباعية، التي تنتمي اليها اللوحة هو الانطباع الذي تتركه في نفس القارئ الرواية الثانية ليوسف الخضر.
هذه الوجودية المفرطة ليست العامل المشترك الوحيد بين اللوحة والرواية. يقول البعض إن حياة فان غوخ تأثرت بقصة النبي يوسف، (حيث عاش الرسام العالمي منبوذا من عائلته ولم يتمكن قط من نيل تقديرهم). كما عانى فان غوخ طوال حياته من الحزن واليأس. هي محض صدفة أن يكون اسم كاتب «ليلة مرصعة بالنجوم» يوسف وأن يكون هذا الشاب الذي هرب من ويلات الحرب في بلاده سوريا إلى لبنان، ليبيع الورود في شوارع الحمرا في بيروت، قبل أن يهاجر إلى كندا قد عاني الحزن واليأس، وخضع كما الرسام لجلسات طويلة ليشفى من الاكتئاب، تساعده في ذلك قراءة الكتب، قبل أن يشرع في الكتابة.
«ليلة مرصعة بالنجوم»، هي الرواية الثانية ليوسف الخضر بعد روايته الأولى «الهامستر» 2021) الذي يملك في رصيده أيضا ثلاث مجموعات شعرية.
تنتمي رواية «ليلة مرصعة بالنجوم» التي تقع في نحو 140 صفحة من القطع المتوسط، إلى أدب الواقع، إلى حد الصراحة الفجة؛ وإن تخللتها ومضات من الدراما الحية، الرعب السريالي مع سِيَر للسكان وتأريخ للمدينة يعبر من «الأوزاعي» إلى «مار مخايل» ويمر بـ»الظريف» و»ڨردان» في بيروت الكبرى.
في العاصمة اللبنانية، ومع الحروب والأزمات التي يخوضها الداخل، ويرزح تحت نيرها الجوار، «ليست الحركة بركة دائما»؛ بل هي جزء من ضوضاء التنقلات المتواصلة للأشخاص، الذين يبحثون عن التجذر من جديد، ضمن مساحات يرجون بين حدودها بعض السلام والأمان. هكذا، تشكل قصة «آدم» نموذجا عن بيوغرافيا تحركها تخبطات سياسية واجتماعية جمة، شائعة في زمننا وبلادنا: ففي بداية العمر، رتب آدم ذاكرته داخل الحقائب هربا من حياة غابت عنها أمه بشكل غامض، مشحون بالتوجس؛ وخلالها، قطع له أبوه جناحيه، غير مدرك لعواقب تربيته – كما يصنع غالبا كل جيل سابق بالجيل اللاحق.
وفوق حياته، عبرت صديقته- المنتمية إلى دينٍ آخر- مثل سحابة صيف، فنال من حبها ما لا يتعدى كونه أُنساً لحظويا، ينعش، إنما لا يروي. ثم أعاد آدم توضيب تلك الذاكرة قُبيل سن النضوج، داخل صناديق هذه المرة، فترك وظيفته التي لم يقدر على تحملها، لأن فظاظة «الزملاء» تستفزه يوميا، كما يقول. لكن تبريره كان رأس جبل الجليد، ويحق للقارئ بين السطور أن يتساءل: إلى أي مدى يعتبر تفسيره ذاك واقعيا أو منطقيا، أم إن تصرفات زملائه معه كانت تستفز لديه صدمات الماضي، فتكرر إحياء تشظيه؟ بلغ آدم حدا من الضيق جعله يجرب أخيرا ترتيب روحه خارج جسده، للفرار من هذا العالم كله ولآن، إذ أسر بوجدانية سوداوية، ذات ساعة يأسٍ: «أحد أسوأ أشكال الموت فقدان القدرة على تقبل الواقع».
بيد أن المُقدر له كان أن يعيش بعد، لكي يفكك شيفرة الصدمة الأساس التي خلفت باكرا مرارة عيشه.
«آدم» هو إذن «بطل» الرواية، لكنه غير مبهرج على الإطلاق. ولعله السبب الذي من أجله لا يكشف لنا الكاتب اسمه سوى مع بداية الفصل الرابع من القسم الثاني؛ وربما أيضا اختار له هذا الاسم ، للدلالة على هوية إنسانية جامعة لتقاطعات عديدة من حيوات الشباب العربي المعاصر. يروي لنا «آدم» كيف انتشلته يوما مرآته من غرق صراعاته الباطنية، فلاحظ ما يطفو على تفاصيل وجهه الذي نسيه تقريبا، ورسم البورتريه الذاتي له مع «شعر أسود»، «مجعد قليلا»، «جبهة عريضة وعينان سوداوان»، «حاجبان عريضان ومتباعدان، لحيةٌ حليقة طيلة الوقت وشاربٌ أسود معقوفٌ من جانبيه إلى الأسفل».. أما عن نفسه ومشاعره، فقال: «أنا كأي أحد منهم (البشر). لا أعدو كوني شخصا نزقا صعب الطباع». هذا التماهي وعناصر أخرى (سوف يكتشفها القارئ، جعلت دوافعه الغرائبية – كشخصية رئيسية- مبررة؛ وتحثنا على التعاطف معه، بعيدا عن الأحكام الأخلاقية.
ثم يأتي «رواد»، صديق «آدم» الذي تعرف إليه في متجره لبيع الأقراص الصلبة (وهي الوسيلة السمعية – البصرية التي تشي بوقوع الأحداث خلال فترة التسعينيات، حيث راجت بشدة). ثم ما يلبث أن يتشارك الرجلان في ما هو أبعد من هواية على الموضة، فيظهرهما لنا الكاتب أقرب إلى طفلين مجروحين، يتعطفان مع بعضهما على طريق التعافي. فيلخص لنا «آدم» علاقته بصاحبه كالتالي: «يستمر الإنسان بالبحث عن نفسه حتى يعثر على شخص آخر أكثر روعةً منه»؛ كما ينقل لنا بعض حواراتهما، ومنها: «ما الذي فعلته بك كراهية أبيك؟» يسأل واحد منهما -»شردتني!» يرد الثاني. «رواد» يليه «إدرغار»، عشيق الأم المبتلي، إلى حين موته الشقي، بانتقام الأب الوحشي. والجدير بالذكر مع «إدرغار»، هو أن الكاتب حمل سيرته رمزيات عن سطوة السلطة السورية في لبنان، في فترة ما قبل اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
يمكن القول إن جميع اللاعبين في الرواية من الذكور؛ أما النساء، فيقبعن في الظل (كما تشي فكرة الغلاف)، رغم تفاوت أهمية أدوارهن: فالأم «سمية»- أصل الجرح وجذره – تحولت من زمان إلى جثة محنطة؛ والحبيبة «غنا» ترهبنت واختفت، فأحيت جرح الفقدان، ذاك الذي ولدته الوالدة. وكلتاهما محركتان مؤثرتان بعمق في المشهدية السردية، البانورامية للنص.
أما «ماما سامية»، فهي تقريبا أم الكل من دون أن تكون فعليا أما لأحد، كونها تستمد توصيفها هذا من وظيفتها في الحانة التي تديرها. تماما كما إذا عرفنا الحانة بالـpublic house وِفق النهارات البيروتية العادية، منذ ما بعد انحسار الحرب الأهلية، فتلك لم ترتقِ عمليا إلى مقام المنازل البديلة للرواد، رغم ما يمكنهم أن يجدوه وسطها من دفء وحميمية.
تبقى العشيقة «نوال»، وقد أُسندت لها مهمة خطرة، لغاية سوف تصدم القارئ عند النهاية!
إن كاتب «ليلة مرصعة بالنجوم» هو في الوقت ذاته راويها. يوسف هو الراوي العليم الذي ينقل إلينا توالي وتشابك أحداث حياة «آدم» بلسان الـ»أنا» المنفعلة بالأحاسيس والباحثة بعمق، فلا يبدو كمجرد فضولي، يتلصص على غريب عن مسافة «آمنة». لكنه لا ينتقي من حيوات الشخصيات الثانوية سوى ما يخدم التشويق السريع فقط والخاطف للأنفاس. كما يصرف جل أفعاله بصيغة ماضي الأمس القريب، غير المنفصل عن الحاضر المُعاش، مستعملا لغة خالية من التعقيد ووظيفية خالصة. يبدو أن «يوسف» الذي عاش حياة بائع الأزهار الصغير، واللاجئ المتجول، يقدم إلينا عبر عمله الذي بين أيدينا، رؤيته وآراءه في كل شيء تقريبا وإلى حد بعيد!
إن استعارة عنوان اللوحة الأكثر حزنا لفان غوخ، من أجل عنوان كتاب مأساوي إلى هذا الحد، هي فكرة لماحة، ذكية. في الأمر، نوع من غمزٍ إلى مناجاة المقهورين والمهمشين خلال ليالٍ قدرية، يصطفونها وتصطفيهم، فيبدعون بجلائها. وكما القصة المقتضبة مسكونة بالموت، فهناك من شبه النجوم الكثيرة في السماء التي داخل اللوحة بالقبور. وهذه استعارة تبرهن أخيرا أهمية العلاقة التفاعلية بين الفنون كافةً، كي تزهر كفروع شجر اللوز.
كاتبة لبنانية