عبدالحفيظ بن جلولي
بحلول فصل الصيف، تهجم على ساحة التفكير ذكريات الزمن الجميل، قد يصعب تفسير ذلك، لكن الأكيد إنه مرتبط بالعطلة الصيفية وبموسم الاصطياف.
يتمدد زمن الطفولة في الصيف، لأن العطلة لا تعطل التفكير في شيء آخر سوى تحررنا من سجن المدرسة وجدران القسم المصمتة، وهذه أول عودة إلى الماضي باعتباره جميلا. يسيح الذهن في التفكير في جهة الاصطياف واللعب قبل ذلك، والامتداد في الفضاءات المفتوحة، إذ تعتبر السطوح بهاء وفتنة، زمن مطلق خارج زمن المدرسة وثقل الثياب المضادة للبرد، السطح بما يمثله من رومانسية الليل والانفتاح على السماء والإغراء اللافت بالهروب في لمعان النجوم، انتعاش الجسد بنسيم مُلطف بطراوة الماء المرشوش على مساحة السطح الطينية. يتقوى الخيال بهذه اللحظات المرنة والمفعمة بالمتعة وممارسة أقصى ما يتمناه.
أمسية سعيدة على سطح بيتنا
أراني الآن طفلا، تتحرك النساء بعد العصر نحو السطوح ترطب حرارة طينها برش الماء، قبيل المغرب بقليل يبدأ الفرش، يتسابق الأطفال إلى الشقلبة على الفُرُش التي لم يتم بسطها بعد، وهو ما يغضب الأم أو الجدة، لتصب إحداهما جام غضبها عليهم، أما إذا قبضت على أحدهم فإن قرصة أو صفعة سوف ينزوي بها باكيا، لكن الأطفال مولعون بالضحك مما يصعد من نرفزات الكبار، ففي غمرة البكاء تطلع الضحكة التي نِصفها دمع ونصفها قهقهة. بعدها تنتصف السطح القِربة المعلقة على «الحمّارة» (حامل ثلاثي القوائم) فوقها عادة تُدس ربطة نعناع، فمها مربوط بخيط، وقطرات منها تتسلل متساقطة على تراب السطح، فيختلط عبق القطران برائحة الطين وأريج النعناع، ويسود جو من العبق الروائحي السحري، الذي يضفي على الليلة بنجومها المتلألئة وقمرها الساطع، خيالا لقطعة مهربة من ليالي الأندلس أو إشبيلية في قصر من القصور العربية. قبيل المغرب بقليل يتداخل في السطح لون العشية المائل إلى حمرة الشفق، مع بقايا من لون أزرق سماوي وبدايات لعتمة المساء، فيحضن هذا المناخ اللوني الأفرشة الموزعة عبر السطح والقربة المعلقة.
في منتصف السبعينيات كانت الشاشات (أبيض وأسود) قد شهدت حضورها في بعض المنازل، وبذلك أصبح التلفزيون المحمول من لوازم السهرة في عراء السطح، وكان في هذه المرحلة عاملا مهما في لمة العائلة، قبل أن ينفرد كل فرد بشاشته في غرفة مكيفة. أذكر وإلى بدايات الثمانينيات كان يستهويني الراديوـ مسجل، والاستغراق البديع مع الألحان العربية الأصيلة، أو الاستماع إلى راديو هيئة الإذاعة البريطانية، أما يوم الخميس فكان الموعد مع الإذاعة الوطنية في سهرة كلثومية.
في ليالٍ خاصة كان العشاء يزين سهرة السطح، فما تسمع سوى الأم تشير إلى خفض زعيق الأطفال إلى مستوى الوشوشة، لأن جيرانا آخرين صعدوا إلى سطوحهم، وفعلا عبر السطوح كنا لا نسمع ونحن أطفال سوى وشوشات، فالليل في وعينا كان للسكون، ولا يمكن إزعاج الجيران. بعد العشاء يدخل الأطفال في حالة سباق نحو السطح، كي يفوزوا بالرطوبة الأولى على الألحفة، كانت برودة اللحاف تجلب لذة التمرغ عليه قبل أن يصعد الكبار، وكل يلزم فراشه وتبدأ حكايا الجدة، كان الأطفال يعرفون جيدا وقت «الحجاي» «لَمْحاجية» فتُرخى الأذان وتُفْغر الأفواه، وفي متعة الحكاية يأخذ النوم مجراه إلى الأعين، وكم كنا نكتم ضحكات قوية، إذا التوى لسان الجدة وهي تسرد الحكاية.
كشكول الزمن وما يصنف جميلا
تتسع مساحة التفكير في الصيف لأن ما يشغلنا هو الحرارة، وتوفير إمكانات تلطيف المناخ، هذه الفسحة تبدو صعبة لأنها تتعلق بالحر، لكنها في حقيقة الأمر هي فرصة للعيش داخل بلّورة اللطافة السحرية، لطافة الجو، المكيفات المعدلة لضغط المناخ الخانق، السمر الليلي في عراء المكان والوقت، الوقت في الصيف لا تحدده الساعة في معصم اليد، إنه كل شيء يحيط بنا، لحظة التهام بطيخة بحمرتها، التي تستعصي على التلوين، دورق ماء بارد، جسد تدغدغه لسعات رهيفة لموج خفيف، امتداد بصر في أفق أزرق لامحدود بين مسطح مائي وقبة سماوية..
كل هذه المعايشات الحسية لشيء نشعره جميلا تنعكس على جهازنا النفسي، فيبحث لها عن معادل نفسي يختزن ذات المواصفات الجمالية، ولا يجد أجمل من الارتجاع إلى براءات الطفولة السحرية، وذاك ما نسميه «الزمن الجميل». لا نعني طبعا كما يفهم البعض بالزمن الجميل سوء الراهن. الذي يسترجع «الزمن الجميل» حقيقة، يعيش لحظاته الأشد وجودية وجمالية في راهنه.
إذن ما معنى «الزمن الجميل»؟
ليس «الزمن الجميل» مفهوما خارج تحديد الراهن، وبالتالي يصبح معيارا في مقابل الراهن. الزمن الجميل حالة نفسية يعود بها الوعي والشعور إلى لحظة تكرست في الذاكرة وأرخت لاستمرارية الذات في الزمن والتاريخ، فكل ذات لها زمنها الجميل، حاضرا معها كبصمة وجودية ودونه لا معنى لاستمرارها في الحياة والوجود. أن نعيش لحظة جمالية تلفت انتباهنا نحو ذاتنا، والأفق الذي ندركه في حينها في مستوى «سعادة» أن تبرهن لحظة زمنية مفعمة بالمعنى على إنها ذات جدوى في ترتيب الذات، الوعي، العقل والوجدان، على سلم ذي أولوية وجودية/جمالية، معناه أننا نساهم مع شعورنا في نحت وتكريس تلك اللحظات في كشكول الزمن ضمن ما يُصنف جميلا. فاستذكار تلك اللحظة الجمالية لا يعني الانفصال عن الراهن، الذي قد يكون أكثر جمالية بالنسبة لمن يعيشه بإحساس وواقع وعيه بسنين عمره الفتية، التي لم تنفتح بعد على شيء تستطيع أن تكرسه كلحظة جمالية، ضمن أضمومة حياتها على الأرض الجميلة والآسيانة في الوقت نفسه، فالوجود جمالي مكثف بالقبح، وجدارة الإنسان تتجلى في قدرته على تحويل القبح إلى جمال، وقد يتحقق ذلك أكثر في عوالم الأدب والفنون.
الزمن الجميل وتحديات الراهن
كل ذات تعيش زمنها الجميل، وفق معايير ومعطيات مختلفة، طبقا لما عاشته أو تعيشه، فمن يعيب على من يستحضر الزمن الجميل، يعيش هو أيضا زمنه الجميل، ففترة زمنية ممتدة في العتاقة، قد لا تعني شيئا لذات فَتِية في الوجود، بينما قد تترجم هذه الذات الفتية نفسها تَذَمرها من واقع تعيشه، مرتجعة إلى فترة تستجدي فيها «هوية جمالية» تقارع بها ما تعتبره نشازا وجوديا في راهنها، ولو كانت الفترة غير ذات مسافة زمنية بعيدة، لأن الإنسان لا يمكن أن يعيش دون مرجعية أو هوية وجودية ذات بعد جمالي، حتى لا أقول «هوية جمالية» لأن الأولى قد تضفي عليها الذات الطبيعة الجمالية ولو كانت في حقيقتها قبيحة، وهذا يتجلى أكثر في مستويات الوعي المعرفية، لكنه في المستوى العام قد يتحقق دون وعي به، فالكثير من اللحظات الطفولية التي لا توحي بأي معنى في حينها بالنسبة لوعي وعقل غير ناضجين، حينما يستذكرها الوعي الراهن المفكر تصبح ذات جدوى وجودية ومعرفية بما يبنيه التحليل على مفرداتها التي بدت سطحية في مرحلة سابقة، فلحظات الفرح بالنجاح المدرسي لم تكن في حينها سوى فرح بانتقال على سلم التعلم، لكن هذا الفرح السطحي كان يخفي فرحا جوهريا بمعنى الحياة، التي يرتقي الإنسان سلمها مدركا بعض مفرداتها السرية التي يتطور الفهم لها كل سنة نتيجة اتساع الأفق الإدراكي المعرفي.
تتناوش الأجيال عند منعطفات حاسمة في مسارها نحو الكينونة والنهايات الأكيدة، يَعبُر الوعي الناضج في التاريخ والزمن شوارع المدينة في الراهن، يرى مزق الكراريس منتشرا بصورة بذيئة ومنكرة، فيبث حكما قاطعا بعدم إيلاء الجيل الجديد أي أهمية للعلم، ويعود مرتجعا في الذاكرة والزمن إلى البرهة الجمالية مفرشا كراريسه، متباهيا بزمنه الجميل الذي كان فيه الاحتفاء بالعلم ليس فقط بإتقانه، لكن بحفظ وعاءاته أيضا. لكن في المستوى ذاته قد لا يبدو له – مع الكثير من التحفظ – أن الورقة فقدت شيئا من بريقها الماضوي الجميل مع الثورة الميدياوية الجديدة في عالم يسير نحو الرقمنة بخطى متسارعة.
اللحظة الرقمية قد تسجل هويتها الجمالية بالنسبة لذات لا ترى في اللحظة الورقية أي جمالية تذكر، ولهذا فمفهوم «الزمن الجميل» نسبي ذاتي وعابر، بمعنى أنه ليس معياري إلغائي، فجميع الذوات تركن إلى زمنها الجميل في لحظة أزموية تراها، وقد لا تكون كذلك بالنسبة لذوات أخرى، لكنها في الوقت ذاته تعيش راهنها بكل قبحه وجمالياته، فالوجود استمرار وليس قطيعة عزلوية، وفي استمراريته منشأ الخيال الجميل، فأبو العلاء المعري كان معتزلا برغبته كما ترى عائشة عبد الرحمن، مختلفة مع أستاذها طه حسين الذي كان يراه معتزلا رغما عنه.
كاتب جزائري