ديوان «سماء أوديتي رؤاي»: أو كيف يتحقق العبور فلسفياً؟

2024-08-25

نضال الشمالي

إذا كان الشعر مسخراً للفلسفة في موضع من مواضعه، وناطقاً أميناً بطروحاتها العميقة دون الإخلال باشتراطات الشعر وغنائيته، فهل يُشكك هذا التسخير بالثنائية الكلاسيكية المؤولة للفن إلى مقولة إن «الفن للفلسفة»؟ هل يمكن أن تقيم الفلسفة أود الشعر رغم تمنع سورها على جمهور القراء؟ يبدو أن الفلسفة على ندرة حضورها الممنهج في الشعر تقدم حالة من التكثيف الرؤيوي غير المعهود الخالي من البراءة، التي يتطلبها مقام البوح، فالدرس الفلسفي لا يقبل الدرجة الثانية من العرض إذا ما حضر في سياق من سياقات التواصل، والشعر هو مقام النخبة في هذه السياقات.

صدر في عام 2021 ديوان شعر بعنوان «سماء أوديتي رؤاي» للشاعر زهير توفيق. يرافق هذا الديوان عتبة نقدية فلسفية تمتد على ثلاث عشرة صفحة، مستلهمة من أسلوب الشعراء الرومانسيين العرب في النصف الأول من القرن العشرين، مثل أحمد زكي أبو شادي. تساهم العتبات النقدية في توجيه القارئ توجيهاً تأويلياً ونقدياً، مما يساعد في فهم النص الشعري المبتكر وتقدير التجربة الجديدة التي يقدمها الشاعر، بالإضافة إلى تبرير اختياراته الفنية والمضمونية.

تشكلت عتبة الديوان من جملة إسمية تامة المعنى مكتملة الإخبار، بُنيت على مفارقة تجمع بين ما يملكه الشاعر (الأودية) وما لا يملكه (سماء). أما (الرؤى) فهي ما سيتمثله الشاعر في المسافة الفاصلة بين السماء والوادي. والعنوان يعلن ابتداء عن منظور سردي يسعى الشاعر إلى تمثله يتعلق بالرؤى التي سيُعلن عنها في قصائد النثر الأربعة متن الديوان؛ (معراج جلجامش، في شارع السبعين، دمشق باب الرؤيا، هجرة السنونو) التي شغلت صفحات الديوان المئة والثمانية صفحات، هذه الرؤى محملة بالعديد من التوجهات الفلسفية التي خلبت لب الشاعر فجعلها زاداً لشعره تكثف رؤاه وتستر عُريها.

يجمع الشاعر في العتبة الفلسفية التي صدر بها ديوانه شهادتين؛ شهادة ممارس لفعل الفلسفة (الإطار المهني) وشهادة الممارس لفعل الشعر (الإطار الإبداعي). وهو إذ يحاول أن يوازن بين الفعلين، يظهر بجلاء تسخير فعل الشعر لصالح فعل الفلسفة، فالفلسفة تمتطي صهوة القصيد بكثافة واستمالة وإجبار. يقول زهير توفيق في عتبته الفلسفية: «لكن من حيث المبدأ فإن كل شاعر كبير فيلسوف له وجهة نظر عميقة في الوجود والحياة، ويقدم فكرة ورؤيا بالصورة والمجاز، لكن ليس بالضرورة أن كل فيلسوف شاعر. وجوهر الإشكال في: كيف يتمثل الشاعر الفلسفة، وكيف يعبر عن ذاته وعن وجوده، وموضوعاته بالفلسفة، وكيف يطرح موضوعات كبرى تتعلق بالقضايا الحدية في حياة الإنسان، بمصيره ومآله ووجوده، وكيف تتمفصل الفلسفة والشعر فتختلف وتأتلف. هذا هو مصدر الإشكال الذي يتطلب تحليلاً فلسفياً لوضع الأمور في نصابها». وهو إذ يضع هذا التصنيف يحرص على أن تكون الفلسفة في الشعر تتمظهر في التأملات العميقة التي ترفد القصيد عمقاً وتكثيفاً ورؤية «دون الوقوع في فخ التفلسف المباشر» وعلى المتلقي أن يخوض غمارها حسب إمكانياته ووثوقه المعرفي.

يُعلي الشاعر من شأن إنضاج الرؤى وتمثيلها شعراً دون الاكتفاء بتلبية الاشتراطات الفنية واللغوية والموسيقية للقصيدة، انتصاراً لمبدأ «الفن للفلسفة» وهذه حالة جدلية تعيدنا إلى نقطة الصفر في تحديد الوظيفة الأساسية للشعر، وهي تلك الوظيفة التي تتحدد بناء على العلاقة بين منشئ القصيدة ومتلقيها. وقد أكد الشاعر الإنكليزي الرومانسي بيرس بيش شيلي (1792 – 1822) أن للشعر الحق في التغيير الثقافي وتوجيه القيم وتحديد معايير المجتمع، بمعنى أن هناك علاقة بين القصيدة وزمن كتابتها، ورهن لحظتها الفلسفية النابعة من حالة الترائي التي يمارسها الشاعر في قصيدته، بعد أن استوت في دخيلته. يقول زهير توفيق في بدايات قصيدته الأولى «معراج جلجامش»:

«عصفت رؤاي الأرض، فانصهرت وعادت للفناء

وسِرتُ أبعد من رؤاي، إلى أبدية عذراء تدعو للتريث والخروج من الفضاء».

وقد مزج الشاعر الفلسفة بالتصوف لإيصال العبارة إلى حالة التكثيف المطلوبة وفاء للدرس الفلسفي الذي بشر به في عتبة الديوان، من حشد للمصطلحات والأعلام والرموز الفلسفية، ما يحتم على قارئ الشعر أن يمتلك نصيباً من المحمولات الفلسفية التي تعينه على إدراك مرامي الشعر. تحقيقاً لإشكالية «العبور» وهذه الأخيرة ضالة الشاعر في ديوانه، إذ يعي بما يملكه من مفاهيم فلسفية بلوغ المرام وتحقيق المقام، والشاعر في المقام يحاول التوفيق بين ما يريده الشعر الذي يتجاوز الواقع بلغة المشاعر والانفعالات، وما تريده الفلسفة بلغة العقل واشتراطات المنطق. وإشكالية «العبور الفلسفي» تتمظهر لدى زهير توفيق في مواضع عدة، ومن ذلك قوله:

«فكيف أعبر حالماً حتى أرى الفردوس أدنى من وريدي والنظر!

ماذا ترى خلف الجحيم؟ وكيف نعبر سالمين؟!

سنعبر سالكين ونترك الدنيا غباراً للقدر!».

والعبور يقتضي القفز على الواقع باللجوء إلى مقام الخيمياء في قصيدته الأولى «معراج جلجامش» التي تمنحه إكسير الحياة ومقاومة الفناء، وفي الخيمياء يتحقق الانسجام بين المادي والروحي وهو تحقق أساسي، لاكتشاف إكسير الحياة، «الذي سيحول الجسم البشري إلى نور لتحقيق التجدد». والسؤال الفلسفي فيما سبق ينهض بإثارة السؤال تلو السؤال في حالة بحث أزلية عن الحقيقة، أو الجوهر substance بلغة سبينوزا أي الموجود والمتصور من خلال ذاته، أي ما كـان مفهومه لا يفتقر إلى أي مفهوم آخـر ينبغي أن يُستمـد منه. فلا يمكن أن يوجد إلا شيء واحد فقط يصدق عليه هذا التعريف وهو الله والطبيعة ككل، وعلى هذا المفهوم يقوم مذهبه في وحدة الوجود، أي أن الجوهر الفلسفي في تصوره، علة محايثة للكل، أي لكل الأوصاف والأحوال. وهو المفهوم المحوري، الذي اهتمت به فلسفة سبينوزا، في إطار البحث الفلسفي العلمي والأنطولوجي الذي هو الوجود، ارتباطا بنقد الأخلاق. يقول الشاعر باحثاً عن هذا الجوهر:

«وانتقل مقامي في الأثناء من الناسوت إلى اللاهوت.

وسرنا دهراً، لا ينفعني فيه النظر إلى الأشياء؛ فأفنى

وعلى مقربة من رحلتنا، كانت تلك المستعرات تموت وتحيا

في الأنواء على مصطبة النار، وفي سبخات الضوء تهاوى

الحس مع الإحساس، وصرنا في الأفلاك هباء…»

تنهض قصائد الديوان الأربع بتركيب بنيوي أصيل نابع من جوهر الشعر يتعالى بطرحه تعالياً فلسفياً استشرافياً ميتافيزيقياً لا يعيق التواصل الشعري ولا يلغي متطلباته الإبداعية من وصف وتصوير وانفعال، إنه طرح يجمع بين الرمز الديني والتاريخي والأسطوري واليومي والدرس الفلسفي، فجاءت عبارة زهير توفيق مُرهِقة للقارئ بتتابعها المكثف متعدد الإحالات، وعليه جدير بالقارئ أن يستظهر مرجعيته الفلسفية لمشاركة الشاعر طرحه ورؤاه التي يستمدها من سماء أوديته. فإذا كان الشاعر يملك الوادي فليس بالضرورة يملك سماءه إلا إذا امتلك رؤى توازي السماء رفعة واتساعاً. يقول في فاتحة الديوان «أبطأت في حلمي الخُطا، حتى أرى سقف الوجود ولن أعود من المدى والمنتهى وأبدي ما تيسر من علامات التعجب والشرود».

يتخلى زهير توفيق في ديوانه عن جانب اللاشعور نسبياً ذلك الجانب الذي يذوت نصوصه إلى جانب العبارة المركبة تركيباً فلسفياً تكشف بعده الرؤيوي المنهجي الذي يحجم الانفعال ويُطلق العقل والتأمل والمنطق، في مداعبة الغيبي والأنطولوجي:

«يا مولاي أريد البت ولا أحتاج وعوداً في الإكسير.

يا مولاي، أريد سماء لا تنكمش أمامي، ولا يسبرها غيري بعزازيل؛

سماء تبكي في الناسوت كمريم، وتضيء جراحي في اللاهوت

وتبني فوق سماء الماء سمائي

فلا تحرمني في مسعاي الظامئ للإمحاء من الياقوت.

ودعني أبحث في الأجرام عن الإكسير..»

وهذا هو خطاب العارف الشاكي الذي ملّ ىقيوده ورغب في الانطلاق، ملّ من قيود فهم النصوص فارتضى لنفسه دروباً خاصة به يتوحد فيها صوفياً مع الإله. يقدم الشاعر إضاءة حول ذلك بقوله: «فأنا شخصياً أكتب شعراً يتطابق مع الفلسفة التي أراها مناسبة لوجهة نظري الكلية للأشياء: ميتافيزيقيا الوجود وفهمي لمصير الإنسان والاغتراب والرؤية. تشكل هذه الفلسفة مرجعيتي ورسالتي في الحياة.. للوصول إلى عذرية الأشياء ومنابعها الأصلية». هذه العذرية تجعله يتغيا مذهب التحليل النفسي، والكهانة، والأحلام، والتشوف، والخيال الجمعي، والميثولوجيا، والسريالية، والرمزية، والخروج عن العالم التقليدي لتخصيب تجربته ونزعها عن كل ما هو مباشر ومفضوح وحاسم حتى يوجد المناخ الشعري المناسب لمناخ الفلسفة التي ينادي بها وهي الفلسفة التي تبحث في أصول الوعي بالأشياء، أو الوصول إلى جوهرها بتجريدها من حمولتها التي معنى غير المعنى الحقيقي، وهذا قد يُحدث قطيعة مع أي نصوص اشتغلت على تفسير الوجود، حتى لو كانت نصوصاً تتجاوز فعل البشر.

والسؤال الماثل: هل نجح زهير توفيق في إخضاع العقل لمعايير الشعرية؟ وهل حطم منطق اللغة الشائعة ودلالة الألفاظ المباشرة ومزج بين المنطق الجدلي والميتافيزيقي؟ وهل نجح باستخلاص موضوعاته الكبرى من الفلسفة؟ إنه يتجنب في صياغة جملته الشعرية العشوائية والاعتباطية والرصف الغامض باسم السريالية والعبثية، بل يمنح جملته الشعرية صدى معرفياً فلسفياً قائما على القصدية في التواصل ذات الوعي العالي الذي يصعب انسجامه مع انفلاتات الشعر، لذا تأتي عباراته تنويرية مُرهِقة بترميز فلسفي يتجاذبها بطاقة معرفية حريصة على تجاوز الواقع. ومن ذلك ما يمكن تلمسه في قصيدة «معراج جلجامش» التي جعلها بمثابة محج شبيه برحلة «ابن القارح» في رسالة الغفران:

«تأملتُ الريح ملياً في الإسراء وقلت لماذا يا شيطان؟

لماذا لا أقتحم الجنة دون دليل أو رضوان؟

وبعد جدال قال الخازن: ادخل!

فعبرت شموساً، وسبرتُ بروجاً.. وكشطت سماءً إثر سماء حتى انهار براقي».

يستخدم الشاعر سلاح التساؤل والتأمل والإجبار في محاولة تحقيق قيمة العبور الفلسفي نحو إدراك الوجود، فالتساؤل هو طريق الشاعر لاستعادة توازنه، وإن كانت تساؤلاته تصب في غير الممكن من قيم الوجود، وهي أسئلة حوارية سقراطية، إذ كان سقراط يدرس الفلسفة أثناء تجواله في طرقات أثينا، كان يلهج على الدوام بالعديد من الأسئلة الحوارية، «فهو لا يتكلم بمفرده ولا يتساءل مع ذاته، بل يسأل شخصا ما ويحاوره. فيضع عليه أسئلة ويتدرج فيها». ومن مظاهر العبور في هذا الديوان توظيف الزمن الفلسفي الذي يقوم على القفزات الذهنية، يقول في قصيدته الثانية «في شارع السبعين»:

«مضى زمني بلا عدنٍ، تكسر في المرايا

وعادني الوسواس يا امرأتي إذا لمح الأجانب ساعديك على المصاطب

فتاه جيلي خلف عراف تمادى في البراري

وبارح الوطن السليب بحجة الإيمان أولى من سجال الفاتحين

في شارع السبعين من تلمود أغنيتي خرجت من الردى

وقلت: يا وطني أنا: زمني مديدٌ، وعمري مشمشي، وأسواري تداعت في الزمان الكوكبي».

يبني الشاعر زمنه بناء لغوياً فلسفياً على ما يُدركه ذهنه من معطيات يجمع فيه بين القصدي والحدسي، والقصدي هو الفعل (مضى، تكسر، خرجتُ، قلتُ) والحدسي هو رد الفعل (عادني الوسواس، أسواري تداعت) وقصدية الفعل في ما سبق ترتبط بمعرفة خصائص الأشياء وطبيعتها وأجزائها، فالعمر يمضي ويتكسر، ورد الفعل هو انسكاب للمشاعر يأبى الترتيب والتنظيم والتخطيط، فيكون نهبا للوسواس والتداعي. وقد قيل إن مشاعر الإنسان غير المعللة شكل من أشكال المعرفة لها منطقها الخاص لا تفسرها إلا الفلسفة. وهي المسؤولة عن إيجاد تصور فني عن الوجود يعين على العبور نحو توجسات الذات وإرهاصات الحقيقة الغائبة، فالعبور الفلسفي تساؤل مُفسر يقترن بزمن معلن عبر صياغة ذات مرجعية معرفية.

ناقد وأكاديمي أردني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي