رسول عدنان
أهمَ ما يميّزُ التجارب الشعريّة هو ما تحتويه من الدلالات والرموز، التي تفرزُ من خلال التجربة لتكون معياراً على تميّزها وتفردها عن غيرها من التجارب. ومما يغني هذه التجربة هو تعدد ثيماتها التي تعمل على تفجير المكنون الإيحائي والصوري، وترتقي بدلالاتها التعبيرية، عبرعامليّ اللغة والخيال. وتعد تجربة الشاعر اللبناني جوزيف حرب (1944 ــ 2014) خير مثال على ما سبق، حيث يتحقق مفهوم القصيدة الدرامي وينأى بها عن المفهوم الغنائي الشائع. وأهم ما يميز
أسلوب حرب في غالبية قصائده، الفكرة ولغة الجسد.
الفكرة
تأخذ الفكرة في قصائد جوزيف حرب مداها خاصة عبر قصائده القصار، التي تُنتج غالبيتُها عبر الفكرة ومفهوم المفاجأة حيث يتمتع الشاعر بقدرة تحويليَّة تختلط فيها رؤى الجمالي والغريزي لتنتج صورا شعرية، وكأنّها تتحول إلى حالات ذهنية قريبة من مفهوم الشعر «الفكري» بكل ما في هذا من إيجابيات وسلبيات تقود المتلقي مباشرة إلى لعبة فكرية لافتة وفق مفهومي الدلالة والإيهام. وهذا المزيج من اللغوي والمجازي والواقعي يدخل القارئ في مفهوم درامي، وكأنّه يستمع إلى حكاية، فالشاعر يجيد مفهوم الصنعة البلاغية، فتراه مقتراً جدا في مفرداته، ومن الصعب بمكان استبدال مفردة بدل أخرى، لأنّ القصيدةَ خاليةٌ تماما من الحشو والزيادات، وهذه سمة دائمة ترافق الشعر الإنكليزي، حيث يتحوّل الإيحاء إلى حسرة تنتج عن غصات باردة لا تخنق التعبير فحسب، بل تدفعه إلى ما يشبه الجفاف في نهاية القصيدة التي عمل الشاعر بذكاء إلى تركها مفتوحة.
لغة الجسد
يعتمد الشاعر على التصوير الحسيّ للجسد، من حيث خلق الصور الفنية مدمجة في الإحساس، عبر آليتيّ الحس والشعور، ليتم منح الجسد دقة جمالية توصيفية، تلج إلى حيثياته وجزيئياته عبر مفهوميّ الإحساس والشعور الخفيّ. والملاحظ على نصوص الشاعر أنه يصوغ لكل نص من نصوصه أسلوبه الشعري المفصل الخاص من حيث تشكيلاته وأنساقه التصويرية المراوغة ومعانيه الخاصة، وفيه يتحول كل جمالي إلى مثير ومؤثر في مدى تفعيله لمفهوم الرؤيا الشعرية وما تكتنزه من دلالات رمزية وصور فنية.
قصيدة (الفراق)
في هذه القصيدة ـ النموذج ـ يحاول الشاعر جرّ قارئه إلى عوالم علاقة عابرة بين اثنين من خلال خلق درامي تحوّل به المكان إلى مسرح للحدث، لكنَّ الشاعرَ يستخدم تقنيات مفهومي الإيهام والمراوغة ليخفي التفاصيل، فاكتفى بتعابير مجازية حول هذه العلاقة، التي لم تستمر غير ساعتين ليتحول مدلول الخاتمين واشتعالهما إلى انطفائهما ونهاية هذه العلاقة، التي أخفى الشاعر أبطالها ليجرّ القارئ إلى عوالم نصّه ويشركه في تفسيره.
المقطع الأول
«بينهما
ورد وشمع
وقهوة
وعلبتا سجائر
وخاتمان
يشتعلان
في أصبعين»
يدخل الشاعر من باب السرد إلى الجو العام للقصيدة، عبر ظرف المكان (بينهما) ليحدد ماهية العلاقة بين شخصين، أو زوجين جالسين مع القهوة وعلبتي سجائر لتتحوّل العلاقة عبر آلية السرد إلى ارتباط رسمي من خلال مفهوم الدلالة في جملة «وخاتمان يشتعلان في أصبعين»، فهذه هي بداية العلاقة يصوغها الشاعر المقتّر في كلماته ليدخل القارئ في جو القصيدة من خلال تهيّئة المشهد عبر السرد التصويري، ليكون الدخول إلى عوالم المقطع دلاليّا، من خلال ما توحيه مفردات «خاتمان يشتعلان في أصبعين»، فقد أدخل القارئ مباشرة إلى عوالمه الحسية، ووظّف الفعل المضارع (يشتعلان) ليرمز إلى البداية الرسمية المفرحة لهذه العلاقة، وهي التقاليد المتبعة في الزواج او الارتباط، إنّ الدلالة التي قاد إليها الفعل المضارع (يشتعلان) قد تعني عدّة مفاهيم تتمثل بأنّ الخاتمين، ما زالا جديدين ويبرقان ولم يمض وقت طويل على شرائهما، أو هناك دلالة أخرى قد تختفي خلف تورية بعيدة، المقصد حول العلاقة الجديدة بينهما. كما أن اللافت في هذا المقطع هو نفي التعريف عن هذين الشخصين ليترك القارئ في حالة من التساءل، هل هما زوجان؟ أم صديقان أم حبيبان، وعمد إلى عدم استخدام (أل) التعرف ليترك القارئ في حيرة مقصودة، هذه الحيرة التي استمرت إلى نهاية القصيدة، حيث لم نر الشاعر يحددهما، وكأنّه يعمد إلى مفهوم اللعبة الشعرية الأثيرة، إنما هي أسلوبية البناء على شيء هو غير معد أساساً للبناء عليه، بمعنى أنه يستعير من الصورة جزءا فيربطه بقطب مقابل ليشرك المتلقي في اكتشافه، وبالتالي توظيفه في البناء الشعري، أيَّ انّه يحيله إلى حدسِ القارئ وإلى مخيلتهِ، وبهذا يحمّل اللغة أحمالاً مختلفة عما هو متداول، أو حتمي عما هو متعارف، أو متفاهم عليه، من خلال ربط الشعرية باللغة لجعلها متفردة متميزة خلقا آخر يكون فيه الدلالي متلبسا بالحدث أو بمفهوم درامي مشوق.
المقطع الثاني
«وبعد ساعتين
بينهما كان دخان
والخاتمان
بالرغم مما فيهما
من لمعان
منطفئان»
هكذا يتمّ عبر آلية السرد تفجّر إيحاء الصورة الشعريّة، لترتقي بدلالاتها، وبما ان الرمز كان جزء من الصورة فأنّه يقود إلى دلالات أخرى تكسبها الحيوية والاستمرارية، إذ تتحول إلى مشهد يحيلنا إلى مفهوم درامي، حيث يدخل عامل الزمان (بعد ساعتين) ليحدد المصير الذي آلت اليه الدلالة في المقطع الأول، خاتمان يشتعلان بينما تقابل دلالة مفردة السجائر في المقطع الأول، التي تدّل على الهدوء تحوّلت إلى دخان في المقطع الثاني، الذي يدل على الدخول في حالة احتدام ومعاناة نفسية حادة قادت إلى تحويل السجائر إلى دخان، بينما تلخص مفردة (منطفئان) ما آلت إليه الدلالة الوصفية الأولى في المقطع الأول (يشتعلان)، حتى يتمّ إعلان الفشل في هذه العلاقة من خلال إحالة المدلول الرمزي من لمعان إلى (منطفئان). ويبقى عامل الزمن المحدد بساعتين وهي مدّة قياسيّة على الاتفاق، ثم الفراق الرسمي عبر المفهوم الدلالي (الخاتمان)، وهذا ما يوحي به عنوان القصيدة «الفراق»، فليس هناك حركة في النص دون التأويل والتفسير، لذلك ترك الشاعر للقارئ عملية التأويل، حيث ترى الشاعر متعمدا استخدم تقنية التقابل لمعالجة اليأس وغياب الأمل، من خلال صور القصيدة التي جمع فيها المضادات اللفظية مثل (ورد وشمع، قهوة وسجائر، خاتمان وأصبعان) في المقطع الأول وأيضا في المقطع الثاني، حيث انفرطت هذه الثنائية، ليهيئ القارئ نفسيا إلى المشهد المقبل، حيث قال (بعد ساعتين/كان دخان الخاتمان/ منطفئان) هذا التكتكيك اللفظي عبر طاقة المضادات المتقابلة يقودنا إلى مفهوميّ المفاجأة والفكرة التي تقود هذه القصيدة او ثيمة القصيدة، والتي جاءت في المقطع الأخيرة بعد الاستطراد الدلالي وتحويله إلى مشاعر هي مزيج من الحسيّ غير المدرك والحسّي الشعوري اللامادي.
المقطع الثالث
«وحيث كان الورد
لم يبق غير الصمت
والأحزان
وحيث كان الشمع
لم يبق غير الدمع».
في هذا المقطع تتحوّل دلالة الورد، التي كانت تعبر في المقطع الأول إلى اللقاء والحب والصفاء، هكذا اختفت هذه الإحالة الدلالية في المقطع الأخير، فلم يعد هنالك ورد، بل لم يبق غير الصمت والأحزان، وهذه إشارة إلى تبدّل الوضع السائد إلى وضع آخر، عبرت عنه مفردات هذا المقطع (الورد، الصمت، الأحزان، الشمع، الدمع)، التي يريد الشاعر من خلالها أن يخلق حركة بانورامية مفتوحة الدلالة لرؤاه الشعريَّة صوب ماهية مشهد الاستبدال الدلالي، في مشهد درامي تصويري في محاولة للمزاوجة بين الصور الحسيَّة ومدلولاتها المثيرة، والامتداد الشعوري بمفرداته المتحركة التي تبتعد عن المعنى القاموسي، حيث عمد إلى مفهوم المفارقة في نهاية القصيدة، التي زاوج بها بين مفهومي الشمع والدمع باستخدامه الطباق، فالأول كان ما بدأ به قصيدته، حيث إحالته الدلالية هو الفرح، بينما يختم قصيدته بالدمع، دلالة الحزن، إضافة إلى لغة بلاغية، فنرى الشاعر مقتراً في مفرداته، هكذا أسس لغته الخاصة المختلفة صياغة وبلاغة، وترك المفردات تفخخ نفسها، لتنتظر القارئ ليفجر معانيها ويشارك في تحليلها، أو الوصول إلى معنى المعنى، حسب تعبير عبد القاهر الجرجاني، بل كأنّه تعمد إلى ربط الشعرية باللغة أنه يلتقط المفردات البسيطة ليعمل على إعادة صياغتها بحلة جديدة تكتنز طاقة شعرية كبيرة وما تلك إلا أسلوبية بنائه الشعري رابطا أجزاء صوره ببعض عن طريق الاستعارات من جهة، ومن جهة أخرى عن طريق القافية وما تكتنزه من طاقة موسيقية تساعد على ربط الجملة عن طريق اللفظ والحدث عن طريق المعنى.
عوالم القصيدة
في القصيدة حركتان أحدهما ثابتة، والأخرى متحركة، أحداهما تمثل الثبات والوجود والأخرى تمثل حركة المكان المرتبطة بالواقع، ويمكن بيان ذلك في المقطع الأول بواسطة (بينهما ورد وشمع وقهوة وعلبتا سجائر) جعلت المتلقي يلحظ انزياحا قصديا بزحزحة فكرة التوجه، نحو ظرف المكان (بينهما) ليفارق العنوان متبناه، والأخرى ببيان فعل الحركتين الثابت والمتحرك ويتجه لشيء آخر أكثر ثباتا، سواء كان ذلك على مستوى الزمن (وبعد ساعتين بينهما كان دخان)، أو مع استمرار قراءة النص يظهر الثبات وتظهر المتغيرات جميعها، لكنها في الحقيقة متغيرات الواقع ووجودهم.
فالشاعر وظّف ظرف المكان (بينهما) بمقطعين من القصيدة، الدلالة الأولى تعني الثبات كما أسلفنا، والدلالة الثانية تعني الحركة من خلال مفردة (دخان)، ثم يستخدم ظرف المكان (حيث) ليوظفه في دلالتين أخذتا مفهوم الأنزياح التقابلي، متمثلا بجملتين الأولى (وحيث كان الورد)، حيث يتحدد المفهوم، أو الإحالة الانزياحية الدلالية بجواب هذه الجملة (لم يبق غير الصمت)، والثانية (لم يبق غير الدمع)، وهو تقابل لفظي عمد الشاعر إلى استخدامه لما له من وقع في بناء الجملة الشعرية، خاصة مع صرامة القافية التقليدية.
ناقد وشاعر عراقي