وسام حسين العبيدي
لم يكن التأليف في سابق عهوده متاحا لكل عالم، أو أديبٍ، بحكم قلّة وسائل التدوين، بما جعل التعويل على الحفظ وتلقّي المعلومات عن طريق الحضور المباشر في الحلقات التي يعقدها العلماء في المساجد أو المدارس، التي ظهرت في النصف الثاني من مدة الخلافة العباسية، ولما كانت العلوم تُتاح عن طريق المشافهة المباشرة بين المعلم وتلاميذه، أخذت تنتشر تلك المعارف على يد أولئك التلاميذ، في ما بعد بما أملَوه من محاضراتٍ لذلك العالم، ما أتاح لنا مؤلّفات توصف بـ»الأمالي» فكبار علماء النحو، مثل الخليل وأضرابه لم تظهر مؤلفاتهم إلا على يد تلاميذهم، مع ما يضيفه أولئك التلاميذ من شروحات أو تعليقات على آراء أساتذتهم.
وحين أخذت العلوم مكانتها في المجتمع، وبدأ بعضها يتوسع تبعا لتوسّع الحياة ومتطلّباتها، فضلا عن انفتاح الحضارة العربية على ثقافات أمم مجاورة، الأمر الذي أتاح للترجمة أن تكون وسيطا، تدخل من خلاله معارف لم يكن العرب بسابق معرفةٍ بها، وهنا أخذت حركة التأليف تنشط وتأخذ مكانتها المهمة لدى كثير من العلماء، ولأن بعض الخلفاء كان لهم أنْ يدعموا ذلك الحراك المعرفي، توسّعت حركة التأليف، الأمر الذي دعا الحريصين من العلماء أنْ يُنبِّهوا على كثيرٍ من الكتب التي يجدون في بعض مضامينها من أوهام أو أفكار غير صحيحة من وجهة نظرهم، بما دفعهم أن يؤلِّفوا في الرد على بعض الكتب، وقد تناقل العرب حكمة تحكي عن حال من يتصدّى للتأليف، نقلها لنا الأصبهاني (ت: 502 هـ) في محاضراته، (وقيل من ألّف فقد استهدف فإن أحسن فقد استشرف، وإن أساء فقد استقذف)، هذه الحكمة تُلخِّص لنا حراك الوعي النقدي لدى العلماء السالفين، حين يتصدّون للمصيب فيُعربون عن صواب منهجه بما يدعم أفكاره، ويشيدون بما في مدوّنته من فائدة علمية تدعوهم لأن يروِّجوا لها للمهتمّين من طلبة العلم، وإنْ لم تكن كذلك، فما لهم إلا أنْ يكونوا لذلك التأليف بالمرصاد، بما يؤشِّرونه في ذلك المؤلَّف من مواطن خلل تدعوهم لأن يُحذِّروا منها الآخرين، ويكونوا على علم، وقد لا يُشترط ذلك؛ لأن بعض تلكم المعارف قد طُرِح فيها ما يمثِّل وجهات نظر قد لا تكون مُلزمة للآخرين، ولكن حراك التأليف يتصدّى لهذه الحالة ولغيرها من حالات، وفي كل الأحوال لا يكون المؤلِّف وكتابه بمنجى من نقد الناقدين له، سواء أكانوا في عصره، أم من الذين سيطالعون كتابه في عصورٍ أخرى.
في هذا السياق، يضع عبد العظيم السلطاني كتابه التأسيسي «نقد التأليف الأدبي عند العرب» الصادر من دار الشؤون الثقافية، في بغداد، عام 2021، (وهو في الأصل أطروحته لنيل الدكتوراه عام 1997) مُسلِّطا الضوء على حراك نقد التأليف العربي بين الحربين العالميّتين، وهي مرحلةٌ تاريخيةٌ مُهمّة، تُلقي ظلالها على ما بعدها من مراحل زمنية مرّ بها تأليف الكتاب الأدبي في البلاد العربية، سلبا أو إيجابا، وتؤشّر إلى بعض مواطن الخطاب المتوتّر الذي صحب تأليف بعض الكتب، ويشتبك بعض رجالات هذه المرحلة، بالتأليف الأدبي، من دون الاكتفاء بمهمّة الناقد، كذلك يأخذنا السلطاني في كتابه، إلى مسألة أراها مهمة عند المشتغلين في هذا الحقل، تتمثّل بفضِّ الالتباس العلائقي بين نقد التأليف ونقد النقد، إذ بيّن لنا أنَّ نقد النقد يمثِّل جزءا من هذه الدراسة؛ لأنه بصدد الوقوف على الدراسات التي تناولت الكُتب الأدبية، ومعلومٌ أنَّ كثيرا من هذه الكتب، لم تكن خالصة من النقد، بوصفه البوصلة الفكرية التي من خلالها نتعرّف إلى فكرة الكتاب، ودوافع تأليفه، ومنهجية المؤلِّف، وأولويات اختياره النماذج الأدبية، وطريقة التحليل التي يقتفيها معقِّبا على تلك النماذج، عبر ما يتبدّى للقارئ من خطابٍ نقديٍّ ينعكس من خلاله أسلوب المؤلف، وتوجّهاته النقدية، وكيفية تعاطيه أفكار الآخرين، كل هذه الأمور تقع في صميم العملية النقدية، الأمر الذي لا يمكن للناقد إهماله في قراءة تلك المؤلّفات الأدبية، وبهذا يكون ناقدا، حسبما يتبنّاه من موقفٍ ومن رأي.
ويُلفت مؤلِّف الكتاب، إلى مسألة نسبيّة، تتعلّق بوفرة النقد من ضآلته في الكتب الأدبية محل النظر، في مجال نقد التأليف الأدبي؛ لما لأهمية هذا الجانب في توصيف الدراسة تحت يافطة (نقد التأليف) أو (نقد النقد) وهنا يكون المناط مرتهنا بوفرة الخطاب النقدي في تلك المؤلفات، فالدراسة الأدبية ـ حسب ما يراه السلطاني ـ بما توفّره من (متاحاتٍ للقول وبسط الأفكار أو التدليل والبرهنة وإمكانية الإقناع، هي غير الإمكانية التي توفِّرها مقالةٌ نقديّةٌ ومن هنا تأتي بعض خصوصية نقد التأليف، بوصفه حقلا يتمتّع ببعض الاستقلالية، على الرغم من كونه بدلالته العامة مؤسسا تحت مظلة نقد النقد حين تكون الدراسة المنقودة متضمنة كمّا وفيرا من نقد الأدب، أي أنَّ نقد الأدب هو المُهيمن، ويترتّب على هذا أنَّ نقد النقد سيكون هو المهيمن أيضا، وبخلاف وفرة النقد في تلك الدراسة يتصدّر الاهتمام بالبعد التأليفي، وهنا يُصبح نقد التأليف الأدبي هو المهيمن وهو العنوان الأصلح والأشمل، ويكون نقد النقد جزءا منه، ومعنى هذا أنَّ مصطلحي (نقد التأليف الأدبي) و (نقد النقد الأدبي) ليسا دائما على حالٍ واحد من حيث أيُّهما الرئيسي وأيُّهما الفرعيُّ تابعٌ له)
وقد لا يمكن لنا في هذه المقالة الوجيزة، استعراض ما تناوله السلطاني من قضايا تخص نقد التأليف، إذ ينقسم الكتاب إلى بابين، كان الباب الأول، بعنوان: (المنطلقات النظرية ومنهجيات النقّاد) يتناول فيه كل ما يتعلق بالجانب النظري في هذا المجال، من معنى لنقد التأليف وتعريفه، ومعايير هذا النقد وشروطه، ومن معايير أخلاقية ينبغي الالتزام بها في هذا النقد، ثم المناهج التي اعتمدها النقّاد في تلك النقود، ثم استعراضه طرائق تجلّي ذلك النقد عبر بعض المقالات التي تصدّى فيها أصحابها لنقد الكتب، أو بعض الكتب التي تصدّت هي الأخرى لنقد ما صدر من كتب أدبية، لما فيها من قضايا إشكالية، أثارت الرأي العام في حينها، فكان للنقّاد أن يتصدّوا لها نقدا عبر مؤلّفاتهم في هذا الصدد، ومن أبرز الكتب التي كان النصيب الأوفى في التأليف نقدا عليه، هو كتاب عميد الأدب العربي طه حسين، في كتابه ذائع الصيت «في الشعر الجاهلي» الذي أثار ما أثار من ردود فعل، انحصر اهتمام السلطاني بالعلميِّ منها، وإلا فهي تجاوزت حدودا، ما سبقه أحد إليها، وللمتأمِّل في هذه القضية، يرى الجانب الإيجابي في ما أثاره هذا الكتاب من ردود أفعال علميّة أعادت النظر فيما شكّك فيه طه حسين، بما حفّز العقول للبحث عن إجابات معزّزة بالأدلة العلمية، بعد أنْ كانت هذه المسائل تُعدّ من المُسلّمات.
ثم كان للمؤلف في الباب الثاني استعراض (مسارات النقد التطبيقي) في مجال نقد التأليف الأدبي، متناولا في الفصل الأول نقد الأفكار، وفي الفصل الثاني جعله لنقد المنهج، وهو برأيي لُبّ الدراسة، إذ وقف على نماذج كثيرة تمثّل للقارئ نقد المنهج، وأهميّة الالتفات إليه من قبل نُقّاد ذلك العصر، بدءا بالعنوان الذي يضعه المؤلف، والخطّة التي يضعها لمسار تلك الدراسة، وكيفية تعامله مع المصادر والمراجع، وكيفية ربط المؤلف أفكاره بعضها بالآخر، ومدى صحة المقدّمات التي تؤدّي به الى الاستنتاج الصحيح في ما يُديره من أفكار في كتابه، متوقِّفا عند بعض الآفات الفكرية ـ إن صحّ الوصف ـ التي رصدها أولئك النقّاد في تصدِّيهم لنقد بعض المؤلّفات الأدبية في هذا المورد، من تناقضٍ سببه نسيان المؤلف ما ذكره في كتابه في موضعٍ سابق، أو قد ينساق وراء نتائج جدّية أوصلته إليها معطيات غير المعطيات التي أوصلته إلى النتائج السابقة، أو قد ينشأ التناقض من الانقطاع الزمني الطويل في تأليف الكتاب لأسباب تتصل بالظروف التي يمرُّ بها بعض المؤلفين، بما يجعل هؤلاء لا يهتدون إلى الأفكار التي أوردوها في بداية تلك المؤلّفات، فيقع فيها التناقض، أو تتبدّل لديهم وجهات النظر التي آمنوا بها في السابق إلى أخرى، بما ينعكس أثره على الكتاب الذي شهد اضطراب المؤلِّف فيما كان عليه سابقا ولاحقا، ثم انتهى السلطاني بالفصل الثالث وهو ما اصطلح عليه، بالنقد التصويبي، وهو يقع في الجانب الشكليِّ من النقد، أي قِبال نقد الأفكار التي أشار إليها في الفصل الأول من هذا الباب، ويريد بالنقد التصويبي، ذلك النقد الذي يعبّر عن رأي الناقد في ما يطالعه من معلومات غير دقيقة في الكتاب الأدبي، «وهنا يمارس النقد دور المراقب، والمرشِّح الذي يقوم بتصفية ما علقَ بالكتاب من خطأ لغوي أو معلوماتي».
وهنا يستدرك السلطاني موقفه من هذا النوع من النقد، من كونه لا يمثِّل دائما صواب ذلك الناقد وخطأ المؤلِّف، فقد لا يكون ظنّ الناقد في محلِّه وبذا يكون تصويب الناقد خطأ، وثمة احتمالات أخرى ممكنة، فقد يكون الأمر خاضعا لمنطق الفصيح والأفصح، وقد يكون خاضعا لتعدد الآراء فيه وما سوى ذلك من احتمالات. ولعلَّنا نشهد في عصرنا هذا انحسار هذا النقد، بوصفه عند كثيرٍ من أهل الاختصاص، أنه صار مستهلَكا وليس ذا جدوى معرفية، في حين كان لهذا الضرب من النقد حضوره المهم بين تجليات النقد التأليفي السائدة في المدة الزمنية التي تناولها الناقد السلطاني، بما جعلَه يؤشِّر لأهمية هذا النقد وإن كان شكليا إلى جنب الممارسات النقدية التي تناولها في الفصلين السابقين، بوصفهِ يعكس تواضعا منهم في بيان هذه الشكلِّيات والاهتمام بها إلى جنب الجوانب الأخرى، والتواضع يمثل قيمة أخلاقية رفيعة تكشف الغاية الأساس من المعرفة، وهذا الجانب لم يقتصر على صغار النقّاد، بل كان يمارسه كبارهم، ويُعرِب لنا السلطاني في ختام هذا الفصل، عن إجلاله هذا الخُلُق في هذا الجانب، بقوله: «وبذلك قدّموا خدمة معرفية للمؤلِّفين وللقُرّاء على حدٍّ سواء. مثلما قدّموا أنموذجا جيِّدا لفكرة أنْ يكون الموقف النقدي من الكتاب موقفا نقديّا باحثا عن الحقيقة المعرفيّة ومُحترِما لها، بمعنى أنَّ السكوت عن الخلل أو الخطأ المعلوماتي إنما يخدش ضمير الناقد؛ لأن الخطأ المعرفيَّ مصدرُ تلوُّثٍ لعقول الناس وثقافاتهم».
نخلُصُ من هذا العرض، قيمة نقد التأليف، بما تتمثّل فيه من قيمٍ ثقافية رصينة لواقع الثقافة التي يعيشها المجتمع، وبما يسعى لتأسيسه من ضوابط أخلاقية يمارس أصحابها دورهم، حسبما اضطلعوا فيه من اختصاصات، يكون الحرص رائدها والمعرفة الصحيحة غايتها الأولى والأخيرة، وبانحسار نقد التأليف، ينكشف لنا بالضرورة انحسار القيم الثقافية وتراجعها في أي مجتمعٍ كان، حين يتسيّد الجهل متلبِّسا ثوب المعرفة أو الثقافة، وتكثر المزاعم، ويعلو الطنين، من دون أثرٍ حقيقي يُحقِّق ما ينبغي له تحقيقه من قيمة معرفية أو حتى أخلاقية، وما نشهده من التباسٍ واضطرابٍ في المشهد الثقافي الراهن إلا ترجمة عمليّة، لافتقادنا حضور هذا النقد، الذي بافتقاده، يسمح الأدعياء لنفسهم أنْ يقولوا ما يحلو لهم من دون رادعٍ معرفيٍّ أو أخلاقي.
وختاما لنا أن نختصر صورة هذا المشهد، بما قاله المتنبي في سياق آخر، ولكنه ينطبق بشيءٍ من المجاز، على بعض من يمثِّلون رداءة هذا المشهد بكل فوضاه:
وإذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ … طلبَ الطعنَ وحدهُ والنزالا
كاتب عراقي