لاهاي عبد الحسين
يستشف القارئ من خلال قراءة كتاب «دعونا نتفلسف 2: 25 مفكراً لم يغيروا حياتنا»، الصادر عن دار أثر السعودية عام 2024، أنّ الكاتب يمارس ضرباً من ضروب النقد الناعم، وهو يغذ الخطى لاستكمال مشروعه التنويري، من خلال تقديم الأعمال الفلسفية المهمة بنظرة جديدة تجتذب القراء، خاصة الشباب منهم. هذا الكتاب هو التاسع في حقيبة أعمال الكاتب العراقي علي حسين، والثاني المكمل لكتابه الذي حمل عنوان، «دعونا نتفلسف: كيف استطاع 25 مفكراً تغيير حياتنا»، الصادر عن دار أثر السعودية أيضاً عام 2018. تناول الكاتب في الكتاب الأول نخبة من المفكرين والفلاسفة الغربيين، الذين أغنوا الفكر العالمي، من خلال التأكيد على أهمية إعمال العقل وتخليصه من مقيدات الدارج والمطروق من أفكار انحدرت إلى دروب الأيديولوجيا الجامدة، لتصبح الراية والمآل. وفيه تناول تطور الفكر العلماني غير الديني، الذي قاد تفكير علماء النهضة الأوروبية وترك تأثيراته في العالم الغربي وأصداءه في العالم.
يستكمل الكاتب رسالته بالعودة إلى نخبة من المفكرين والفلاسفة العرب والمسلمين، ممن سبقوا كثيراً من الفلاسفة الغربيين المحدثين، أو أثمروا باستقلالية عنهم، كما في أمية بن أبي الصلت والكندي والفارابي وابن سينا والرازي، مروراً بأبو حيان التوحيدي والغزالي والجاحظ، وابن طفيل وابن باجة وابن رشد، وابن عربي وابن خلدون والبيروني، وابن مسكويه وجابر بن حيان والحسن بن الهيثم. تضمن الكتاب أيضاً نخبة مهمة من الفلاسفة والمفكرين العرب المحدثين من أمثال سلامة موسى وفؤاد زكريا، وحسن حنفي وعبد الرحمن بدوي، ومحمد أركون ونجيب محمود، ومصطفى صفوان ومحمد عزيز الحبابي.
وقد أثار العنوان اللافت الذي وضعه الكاتب لكتابه الثاني الذي تضمن أداة «لم» الجازمة حسب فقه اللغة العربية، التساؤلات من قرائه ومتابعيه حول هذه الـ»لم»، ربما لأنه تحدى ما درجوا على الاعتقاد به من فخر واعتزاز بكل هذه الأسماء الكبيرة، عندما قدم له في صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي بين ساخر ومستنكر، ومتسائل ومتأمل بما قصده ورمى إليه. تساءل القراء والمتابعون كيف لم يغيروا حياتنا! ألا نفتخر بهم ونسترجع أسماءهم وأفكارهم ونستلهم حججهم في أننا الأسبق في تقديم الآراء الفلسفية المهمة! سيجد القارئ الجواب على هذه التساؤلات عند استكمال قراءة الكتاب.
يشرع الكتاب بمراجعة للجدل الدائر حول ما إذا كانت هناك فلسفة عربية أم إسلامية في العالم العربي والإسلامي. يعرض في هذا المجال لمن وصم الفلسفة العربية الإسلامية بالنقل والتأثر بالفلسفة اليونانية القديمة، ويستشهد بالبعض ممن اعترف له بالتميز والأصالة. لعل سؤال التأثر والنقل أكثر الأسئلة تعبيراً عن الجهالة، وهو الأمر الذي يكرره المحدثون في عالم الفكر والثقافة. يعرف طلبة العلم ودارسوه المنظمين أنّ المعرفة الإنسانية متشابكة ومتداخلة وأنه لا خير فيمن يضع ما يعلق بذاكرته، دون العودة إلى مصدر ودليل.
يكشف الكاتب هدف الكتاب من خلال الملاحظة المتأسية، التي يبديها في مقدمة الكتاب بسبب تعرض معظم أولئك الفلاسفة والمفكرين المبدعين العرب والمسلمين إلى حرب «الإبادة» الفكرية والثقافية بوصمهم بالزندقة والكفر والإلحاد، مما ترتب عليه الاعتداء المباشر عليهم وسجنهم وتشريدهم وحرق كتبهم وعزلهم وحتى قتلهم. خاف أولئك الحكام وحاشيتهم «المثقفة» من سلطة الدعوة للتعلم والتفكر الذي تقدمه الفلسفة، فكان أنْ تجبروا وأمروا وتسيدوا. هنا يكمن المعنى الذي تضمنته «لم» الجازمة التي توسدت العنوان. فقد خسرت الأمة وضيعت وضاعت حتى صرنا نبحث عما يراه رواد عصر النهضة ممن ذهبوا للدراسة في جامعات الغرب ونأمل الحصول منهم على بارقة أمل.
لقد شرع الغرب بطرح الأسئلة الفلسفية منذ بواكير القرون الوسطى مستفيدين مما أنتجه الفلاسفة العرب والمسلمين، التي بلغت ذروتها في تلك الفترة أيضاً. ولكن الذي حدث أنْ غذّ الغرب الخطى لتوسيع ميدان الفلسفة، ليس فقط على مستوى الوجود والعدم، والحي والميت، وإنما أيضاً قضية الحرية والعدالة والمساواة، التي سرعان ما تلقفتها الشعوب لتنسج على هديها نمط الحياة في السياسة والإدارة وتصريف شؤون المجتمع، حتى صارت هذه مهناً تؤدى وفق قواعد عمل محددة وليس وسيلة للاستحواذ والهيمنة والتسلط. في المقابل، أسدل الستار المعتم على أعمال أولئك الفلاسفة العرب والمسلمين الذين خاضوا في قضايا العقل والمنطق، ومحاولة حصر الغيبيات في زاوية محددة. فقد نفي ابن رشد وأحرقت كتبه وأحرق ابن المقفع وهو بعد في الخامسة والثلاثين من عمره، واكتفى الكندي بدور المعلم لابن الخليفة، وعاش الفارابي فقيراً معدماً، إلا من ضوء الفانوس الذي يقرأ في ظله. توقفنا عند ذلك، وتقدموا منذ ذلك. هكذا سارت الحكاية كما تروى في هذا الكتاب.
تتمثل أهمية هؤلاء الفلاسفة العرب والمسلمين بأنهم سعوا سعياً فردياً للحصول على العلم والمعرفة إذ لم تكن المدرسة لتشيع كمؤسسة يحشد لدخولها الآلاف من الطلبة آنذاك، كما هو عليه الحال، اليوم. من هنا تنبع أهميتهم. فقد سعوا وارتحلوا وتحملوا وكابدوا وتركوا إرثاً لا تستغني عنه الأجيال اللاحقة حتى حصلت النكبة التي قطعت طريق المعرفة مع ما حصل لأبهى الفلاسفة العرب المسلمين والأكثر اعترافاً بجهده، ابن رشد.
ربما فطن الغرب إلى ما لحق بالفلاسفة العرب المسلمين من أذى واضطهاد ساهم بقطع سبيل تطورهم، فكان أن أكدوا على مستلزمات تطور الفلسفة، من خلال التأكيد على حرية الفكر والتسامح والحوار، في ظل أجواء من السلام النسبي، والتبادل الأخلاقي، كما دعا هيغل وآخرون. في المقابل وبسبب الشعور بالقلق والتوتر تمسك الممسكون بالسلطة بالدين، معتبرين إياه الجدار الذي لا يسمح باختراقه.
امتداداً لهذه الأجواء التي تحض على الحذر والانغلاق ظهر جيل من المستشرقين الذين عابوا على الفلاسفة العرب والمسلمين منجزهم، وحاولوا تصغيره من خلال إنكار المساهمة الفلسفية العربية المسلمة وخفضها إلى مستوى أنْ تكون ترجمة ونقل نصوص إغريقية وشرحها في أحسن الأحوال، كما أجمعوا على توصيف ابن رشد وسموه «الشارح».
هذه هي الرسالة التي يخوض بها علي حسين في الحلقة الثانية من كتاب «دعونا نتفلسف»، إذا كان عبد الرحمن بدوي دعا إلى إتقان الفلسفة الغربية المعاصرة وصولاً لتقديم الفلسفة العربية الشرقية المعاصرة، فقد كتب هذا الكتاب وفق هذه القاعدة. لقد فرض التطور الذي أحدثته الفلسفة الغربية المعاصرة حقيقة ضرورة استيعابها والتمكن منها، قبل القفز إلى فلسفة بلا مرجعية من حيث أنّ الفلسفة فكر إنساني لا ينأى عن التبادل والتفاعل في عالم لم يعد منغلقاً على نفسه. فما يحدث في مكان ما يجد صداه في أرجاء المعمورة، بالتأكيد لا بد من الاعتراف بأنّ للتنوع والابتكار الفكري الذي حققه الغرب أثر مباشر على ما يمكن تحقيقه في الشرق.
نقرأ في هذا الكتاب أن أمية بن أبي الصلت قد يكون أول الفلاسفة العرب الأصلاء بقدر تعلق الأمر بأنه وليد الطائف في قلب الجزيرة العربية. وأنه ارتحل إلى الشام واليمن ودرس التوراة والإنجيل، وحاور الرهبان والقساوسة واهتم بالسؤال طريقاً للبحث عن الحقيقة، وفكّر بطريقة عقلانية في مسألة الخلق والوجود. فكأنه ألهم الفيلسوف الألماني كانط في كتابه «نقد العقل المجرد»، الذي تناول فيه محدودية العقل والإيمان بنظرة عقلية لا غيبية. ولكنه أيضاً كان ابن الصحراء والهائم في رحابها، وغير المنكب على صنعة الكتابة فيها، بل ارتجل الشعر الذي حفظ من قبل المحيطين به، وكانت أخته ممن حرص على ذلك. وردت بعض من أشعاره كما جاء في هذا الكتاب في كتاب «الأغاني» للأصفهاني وكتاب «الشعر والشعراء» لابن قتيبة و»تاريخ الطبري» و»الحيوان» للجاحظ وكتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب» للنويري و»خزانة الأدب» لعبد القادر البغدادي. وفي تناوله للكندي الذي عاش في القرن التاسع الميلادي، والذي يجمع الكتّاب على أنه الفيلسوف العربي، نرى كيف أنه ميز بين الدين والفلسفة، واستعان بالعقل وخاض في مختلف الميادين، بما فيها الفيزياء والموسيقى والرياضيات، وعلم الفلك وعلم النفس. كان يمكن لومضاته تلك التي تلت تعريفه وترجمته لبعض كتب سقراط وإعجابه به أنْ تكون مادة يبنى عليها.
ولكن المحنة التي تعرض لها الكندي نتيجة تصور القائمين على السلطة بالخوف على الدين من الفلسفة، ساهمت بوأد أولى المساهمات الجادة وأسست لما أعقبها من محن حتى توجت بما تعرض له ابن رشد من إهانة وتقريع ونفي أدى في النهاية إلى رحيله المبكر. وبذلك أسدل الستار على احتمالات التقدم، حتى ظهر علماء وقادة رأي في القرن التاسع عشر مثل، رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني ممن انشغلوا بالدعوة إلى إصلاح ذات البين بين الفكر والدين، حصراً. فكأننا بدأنا تواً. وصار لزاماً على الأجيال الحاضرة أنْ تعيد اكتشاف أولئك المفكرين الأفذاذ وتهضم منجزهم في وقت صارت فيه الجامعات ومراكز البحث العلمي موطناً للفلسفات الغربية المتطورة والشائعة، وما رافقها من علوم قديمة وجديدة. وهذا أبو بكر محمد بن زكريا الرازي المولود منتصف القرن التاسع الميلادي والمتوفى في الربع الأول من القرن العاشر الميلادي في مدينة الري في بلاد فارس، يدعو إلى استخدام العقل وتجسيد ذلك في الحياة الدنيا، مؤكداً أنه لا قيمة لفكرة لا يمكن التحقق منها مادياً. وصفت المستشرقة الألمانية سيغريد هونكه، الرازي بأنه «أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق»، في كتابها المعروف «شمس الله تشرق على الغرب». وكان الرازي من دعاة «الربوبية»، التي تؤمن بالصلة المباشرة بالله، دون الحاجة لدين يأخذ دور الوسيط. أخذ الرازي ذلك عن الفيلسوف اليوناني أبيقور، الذي أنكر تلقي الله للأدعية بسبب ميل الناس إلى إلحاق الشر ببعضهم بعضا. وهذا ما أجج المتشددين عليه ممن قالوا بزندقته وكفره، رغم أنه يؤمن بعمق بالله.
وظهر الفارابي في الفترة نفسها تقريباً القرن التاسع الميلادي، الثالث الهجري. ارتحل في سبيل العلم وكان زاهداً محباً للعلم وقارئاً له. تأثر الفارابي بالمدرسة التي تحاول الجمع بين الدين والفلسفة، وهي المدرسة التي سعت للتوفيق بين أفلاطون وأرسطو على الضد من المدرسة المادية، التي تمثلت بفكر الرازي. يلاحظ الكاتب أنّ سبينوزا تأثر بالفارابي الذي ظهر في القرن السابع عشر، من خلال اطلاعه على منجزه المنقول إلى العبرية من قبل موسى بن ميمون في القرن الثاني عشر الميلادي. نقلت ترجمة بن ميمون إلى اللاتينية في ما بعد، التي حاول الفارابي فيها التوفيق بين فلسفة أرسطو وأفلاطون. وجد تشبيه الفارابي للمدينة بالجسم الإنساني صداه، فيما بعد في المدرسة الوظيفية المعاصرة في مجال علم الاجتماع الحديث على يد مؤسسها تالكوت بارسونز. يتمثل الرئيس وهو «الإنسان الكامل» في المدينة الفاضلة للفارابي بالقلب الذي يقود الجسم. وجدت أفكار الفارابي بعد ما لا يقل عن سبعة قرون صداها في أعمال جان جاك روسو «العقد الاجتماعي»، وفكرة البقاء للأصلح، التي جاء بها دارون.
ولد ابن سينا بعد ست وأربعين عاماً على رحيل الفارابي، كما نعلم هنا وذلك في نهاية القرن العاشر الميلادي. قرأ وأتقن العلوم حتى بلغ كتاب «ما بعد الطبيعة»، لأرسطو فجزع منه بعد أنْ قرأه وأعاد قراءته حتى حفظه، ولكنه فشل في فهمه. عثر ابن سينا على كتاب صغير لشرح نظرية ما بعد الطبيعة لأرسطو للفارابي، فإذا بذلك الكتيب يفتح مغاليق الكتاب الأصلي. وهكذا نرى كيف أن كل فيلسوف بنى على ما سبقه وتوصل إليه كما يوضح الكاتب. يذيل الكاتب هذا الكتاب بقائمة للكتب التي تركها كل من الفلاسفة الخمسة والعشرين التي وجدت له، وتلك التي كتبت عنه، وهي لازمة للباحثين والراغبين بمزيد من الإحاطة والاطلاع. كتاب يقرأ ويقود وينير.
كاتبة عراقية