حمزة قناوي
نلاحظُ في مُجملِ دراسات السردية العربية، أن جانب الراوي والمنظور وتنظيم الخبر السردي ـ الصيغة السردية عامةً مما يتحدث عنه جيرار جينيت- هي أقل الجوانب بحثاً لدى النُقّادِ العرب، فالتوجه النقدي يذهب غالباً إلى الشخصية وأنواعها، والأحداث وترتيبها والتعالق بين بعضها بعضا، وفي بعض الأحيان إلى الهدف الكامن والرسالة المشفرة في العمل. لكنَّ دراسات تتبع السارد وأثره على تشكيل السرد، ما زالت تحتاج – من منظوري- لمزيد من الجهد، ويبدو واضحاً في حالتنا هنا الاشتباك المباشر مع قضية السارد والمنظور. يقول سعيد الوكيل: «حضور السارد يفترض حضور المتلقي، فكل دور للسارد يقابله دور للمتلقي. فإذا كان دور السارد الاستشهاد، حق على المتلقي أن يُصَدَّق أو يُكَذِّب، وإن كان دور الراوي التنظيم؛ لزم على المتلقي أن يختبر ذلك التنظيم وعلاقته بالرؤية، وإن كان دور القارئ ـ كما نحاول أن نلحظ هنا ـ هو الصمت؛ كان على المتلقي أن يعرب عن نفسه بملء الفراغات واتخاذ القرارات» ( سعيد الوكيل: نزهات أخرى في غابة السرد).
إذن هناك ربط بين كلٍ من السارد والمتلقي وعملية التأويل، وعلى هذا النسق الثلاثي من محاولة تتبع العلاقات بينهم، كانت الرحلة التي يرتحل فيها الوكيل داخل فضاءات غاباته السردية، فالهدف ليس تكرار ما قيل عن هذه الأعمال التي يتناولها، التي لا ينكر أحد قيمتها وتناول النقاد لها في الفترة الماضية، لكن المنطلق للتناول هنا هو الأمر الأكثر جديةً في التحليلِ النقديِّ، ورغمَ أن الناقد هنا لم يفرد مساحة للحديث عن التنظير، وعن هذه الثلاثية : السارد ـ المتلقي ـ عملية التأويل، التي يمكن أن يقال الكثير عنها من الناحية النظرية، إلا أنه ذهب لاختبارها عملياً، ويمكن القول إن الاختبار جاءَ عبرَ طبقاتٍ مختلفةٍ من التحليل السردي، الذي تنوّعَ بحكم تنوع الأعمال المتناولة، فما بين الرؤية المعبرة عن الكتابة الكلاسيكية للرواية العربية عند نجيب محفوظ، إلى عملية التجريب والكولاج عند صنع الله إبراهيم، مروراً بخصوصية المكان والصحراء عند إبراهيم الكوني، بجانب خصوصية المشاعر والعاطفة عند يحيى مختار، وطبيعة التاريخ في تعالقه مع المكان والأشخاص عند محمد البساطي، ومحاولة التحديث والعصرنة عبر استحضار عالم الفضاء الإلكتروني عند إبراهيم عبد المجيد، فكان انتقاله عبر محطات مختلفة من الكتابة، يمثلُ كلٌ منها مؤشراً لنوعٍ من التنميطِ السرديِّ Typing الذي له حضورُه وقواعده الخاصة.
إذن نحن إزاءَ محاولة نقدية ناضجة في الوعي بآلياتها، دون الحاجة للتمسك بالإطار النظري لما تريد أن تقدمه، ولعل من أمثلة هذا الوعي بالذات النقدية التي تدرك أن لها حضورها الخاص إزاء حضور النقد، أو حضور الأعمال التي يتم نقدها، المقطع التالي، يقول الوكيل: «فالتداخل النصي هو من صميم إنجاز اللغة وتنوعاتها الفردية (الكلام)، واللغة لا تكف عن مصاحبة الخطاب، بل إن وجود معنى للنص يتوقف على مفهوم التداخل النصي، ويحتم علينا أن ندرجه داخل نسق أغلى. إذا لم نقم بذلك؛ ينبغي أن نعترف بأن العمل لا معنى له؛ فهو لا يدخل في علاقة سوى مع نفسه، فيشير إلى ذاته دون أن يحيل على أي مكان غيره».
وإن كان يتضح لنا في هذه المقولة التأثر بآراء تزفيتان تودوروف إلا أنه يتضح لنا أيضاً الوعي بجوهر عملية التنظير النقدي للدراسة السردية، وتمثلها الواعي، ثم إدماجها في حالة حوارٍ مفتوحٍ دون افتراضات مسبقة تجاه العمل الأدبي، ليتحرك بين الرؤية التي ألمحت إلى أنها تتبعت خط السارد وطريقة تقديم السرد وأثر ذلك على توجيه المعنى، أكثر مما اهتمت بالنمط التقليدي من الشخصيات والأحداث وغيرها، لتصبح رؤيةً نقديةً قائمةً على أصولها الخاصة بها من ناحية، والمُدْرِكَة لجوانب الغموض التي تخفى على الكثير من النقاد، الذين مارسوا النقد السردي من ناحية ثانية، فضلاً عن كونِها ذات انتقائية في تلقيها، حسبما سأبين من جهةٍ ثالثة.
أدى ذلك الوضوح في الهدف والمنهج إلى قدرة الناقد على إصدار أحكامه الخاصة التي جاءت بالموازنة مع الموضوعية المنهجية، جاءت تحمل طابع الشخصية في أحكامها، يقول على سبيل المثال في نقده لرواية «مرافئ الروح» ليحيى مختار: «هذه الرواية تقدم تصوراً أنطولوجياً لعلاقة الطبيعة بالثقافة، والحقيقة بالمجاز، والكينونة باللغة. الرواية نفسها محاولة لغوية أنطولوجية تقاوم المحو وتؤكد الوجود. تنطلق الرواية من وعي خاص بعلاقة المكان باللغة بالوجود؛ ومن ثم فإنها تخلق استعارتها الأساسية التي صاغها هيدغر بقوله، إن اللغة هي مسكن الوجود. والرواية هنا تفتح الباب على وعي خاص بمعنى متميز للرمز والتحقق عبر الكلمة؛ وهذا الوعي يتراسل مع فهم فلسفي للغة».
بهذه الكيفية السلسة بعد تحليل مُقَدَّم من قِبل الوكيل إلى القارئ يخرجُ بأحكامهِ غير قلق منها، مُصدِراً الحكمَ على العمل المقروء، متى شعر بالحاجة إلى ذلك، فالمعرفة التنظيرية والاتجاه الأكاديميّ لم يكن حاضراً بالنحو الذي يخنق النقد، الذي يحتاج في جانب منه إلى قدر من الحرية عند الناقد ليكون رؤيته الانطباعية عن العمل الأدبي، من ذلك أيضاً قوله – عن رواية «في كل أسبوع يوم جمعة» – «إن الرواية باستعارتها شكل صفحات الإنترنت تخلق لدينا حالة من توقع بناء غير تقليدي، وهو ما نجحت فيه إلى حدٍّ كبير، لكنها من ناحية أخرى لم تكتفِ بخلق علاقات موازاة خفية، أو علاقات تماس هادئ بين الشخصيات، بل حاولت أن تصطنع علاقات أكثر تماسكاً وسخونة وتوتراً، لتتشابك المصائر على نحو حاد، وهذا ما كان سبباً لانحرافها إلى التقليدي. وهكذا يكون الإخلاص للعالم التقليدي بتضافر أحداثه وشخصياته سبباً في إضاعة فرصة نادرة أمام الكاتب لكي يخلق نصاً جديداً بحق، لا على مستوى الشكل وحسب، بل على مستوى رؤية العالم كذلك».
مهما كانت المنهجية التي يستخدمها الناقد ـ أي ناقد ـ فإنها دون دقة الملاحظة والتنبه لكل كبيرة وصغيرة في العمل الأدبي، والتنبه لتداخلات العمل الأدبي مع بعضها بعضاً، ستبقى هذه المنهجية مجرد استعراض لقوالب جامدة دون الخروج منها بنقد حقيقي، وأقصد بنقد حقيقي نقداً يمتلك رؤية للعمل الأدبي، أو على الأقل رؤية يمكن النقاش حولها بقبولها أو رفضها. وعبر فصول وتقسيمات الكتاب، مثل: «تفكيك السرد/ تفكيك العالم»، أو «البكاء بين يدي السرد»، وغيرها من العناوين التي ربما تأثرت بشاعرية ناقدنا، نجد أن الإضافة المهمة التي حدثت هي تقديم رؤية لها منطقيتها حول تلك المجموعة من الأعمال السردية مستعينة بالمنهجية التي تقدمها نظرية الأدب المعاصرة في مجال التنظير لنقد السرد، وهي رؤية تمتاز بدقة الملاحظة وبمحاولة تعقب أثر العلاقة بين الراوي والقارئ وتأثير ذلك على عملية التأويل، بيد أن هذا الطموح كبير بحيث يبقى لنا في رؤية سعيد الوكيل هنا فضل الإشارة إليها، دون القدرة على سبر كامل أعماقها، لكن لا شك في أنه يفتح باباً من الحوار النقدي ـ النقدي، حول هذه القضايا التي تناولها في رحلته بين غابات السرد التي خاضها في كتابه الفريد.
كاتب مصري