نوح إبراهيم: شاعر ثورة فلسطين الكبرى

2024-07-21

مروة صلاح متولي

عاش نوح إبراهيم في الفترة من سنة 1913 حتى سنة 1938، ثم ذهب بعد استشهاده إلى الحياة الدائمة المتصلة عند الله. خلال ذلك العمر القصير الذي لم يتجاوز خمسة وعشرين عاماً كان شاعراً وملحناً، ومجاهداً ثائراً وشهيداً نال شرف الدفاع عن أرضه وبلاده، ومجد الفداء والتضحية في سبيل الوطن والحق.

ولد نوح إبراهيم في مدينة حيفا، وعاش حياة صعبة بسبب موت والده مبكراً وهو طفل صغير، فلم يكمل تعليمه واضطر إلى العمل وتحمل مسؤولية أسرته الصغيرة المكونة من أمه وشقيقته الوحيدة، قام بالعمل في إحدى مطابع فلسطين وفي تحرير مجموعة من صحفها القديمة أيضاً، وكان إلى جانب الشعر مطرباً وملحناً، سجل بصوته عدداً من الأسطوانات، بعضها متاح على موقع يوتيوب، وكما هي عادة تلك الأسطوانات القديمة نستمع إلى مقدم الأسطوانة يقول في بدايتها: «نوح أفندي إبراهيم». ويقال كذلك عن نوح إبراهيم إنه كان يقوم ببعض النشاط المسرحي، ما يعني أنه كان يمثل حركة فنية مضيئة للغاية على أرض فلسطين في ذلك الزمن القديم.

تلميذ القسام

حول ثورة فلسطين الكبرى، التي امتدت لعدة سنوات، كان هناك مجموعة من كبار الأبطال والفنانين والمثقفين، حيث الشعب المتوحد بأكمله والنخبة الملتحمة بالعامة، ويبدو أن مناخ الثورة كان ملهماً للمخيلة الفلسطينية، مفجراً لطاقات الإبداع في شتى النواحي والمجالات. كان الشاعر الشهيد نوح إبراهيم من أبطال الثورة، ويمتد جهاده إلى السنوات السابقة عليها، حيث كان من المقربين الذين أحاطوا بالشيخ عز الدين القسام ومن ألقابه «تلميذ القسام»، ويبدو أنه كان يعتز كثيراً بهذا اللقب ويوقع به بعض أعماله، وقد رثى نوح إبراهيم الشيخ المجاهد عز الدين القسام بعد موته سنة 1935 بقصيدة «يا خسارة يا عز الدين».

لم يكن دور نوح إبراهيم مقتصراً على الجهاد بالكلمة فقط، بل كان يحمل السلاح ويدرب الآخرين على حمله أيضاً، وكان من الأجيال التي تصدت مبكراً لتلك اللعنة التاريخية الهائلة، التي حاولت منع المأساة منذ بداياتها وسعت إلى إيقاف تمددها.

استشهد الشاعر نوح إبراهيم سنة 1938 وكان ذلك في أول أيام شهر رمضان، حسبما يقال، حيث تربص به الإنكليز الذين طالما أرقهم بجهاده وأشعاره وأغانيه، وصادروا مطبوعاته ومنعوه من البث الإذاعي، واعتقلوه مرة في سجن عكا ومرة أخرى في سجن المزرعة، وظلوا يطاردونه إلى أن تمكنوا منه وقتلوه في نواحي قرية طمرة عندما كان مع مجموعة من أصحابه، قام الإنكليز بقتل المجموعة بأكملها وألقوا جثامينهم الطاهرة في بئر من الآبار، ثم اكتشف أهالي قرية طمرة الجثامين وقاموا بإخراج الشهداء والصلاة عليهم ودفنهم، وفي ما بعد أقيم نصب تذكاري لنوح إبراهيم في القرية، وكتب على ضريحه: «الشاعر الشهيد الفلسطيني نوح إبراهيم الذي استشهد سنة 1938، في المعركة مع جنود الاستعمار البريطاني خلال الثورة الفلسطينية التي ابتدأت سنة 1936، له الرحمة».

لم يتزوج نوح إبراهيم وكرّس سنوات العمر القصير للدفاع عن بلاده، وكان لفلسطين شاعراً وشهيداً، وكان روحاً فنية شاعرة متعددة المواهب، مفعمة بالحس الوطني الجارف وحيوية الشباب، وفي كلماته تسري حرارة الثورة والجهاد، كان يؤجج حماسة الشعب ويحرض ضد المحتل الإنكليزي الغاشم وعصابات الصهاينة سارقي الأوطان، التي كان الإنكليز يمهدون لها الطريق ويعينونها على الغصب والسرقة والاستيلاء. حُفظت أشعار نوح إبراهيم وتم تداولها عبر الأجيال، وصارت الجماهير هي الذاكرة التي تصون بعض فنه وتحميه من الضياع والاندثار، بالإضافة إلى أسطواناته المسجلة بطبيعة الحال. كانت كلماته بسيطة مستقاة من الشعب ومعبرة عن الشعب، وهي رغم بساطتها، فيها عمق الدلالة وقوة التعبير، بالإضافة إلى الذكاء الشديد واللماحية وإصابة الهدف مباشرة، والقدرة على التأثير وتحقيق النتائج المرجوة بكلمات سحرية، تصل إلى الجميع وتفعل مفعولها في النفوس والأذهان، ويلاحظ أنه كان يميل إلى الطابع التعبيري في ألحانه، وكان يعتمد على التراث الفلسطيني والألحان التقليدية الأصيلة. ذاعت أشعاره وأغانيه في وقت لم يكن يعرف قوة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، بالإضافة إلى أن الإنكليز كانوا كثيراً ما يمنعون بث أغانيه عبر الإذاعات في فلسطين، وكانت أغانيه وأشعاره متداولة بقوة بين الناس، وفق ما يروى، وكانت تتردد داخل السجون أيضاً بأصوات المعتقلين، وكان نوح إبراهيم يلقب بالشاعر الشعبي لثورة 1936.

عندما يتأمل المرء سيرة نوح إبراهيم يقول، كم كانت حياته القصيرة ثرية بالعمل والكفاح والجهاد والانتقال من مكان إلى آخر، والمواهب المتعددة والإبداعات الشعرية والفنية، ويقول أيضاً ماذا لو عاش ذلك الشاعر الفنان وامتد به العمر، ماذا كان يمكن أن يحققه لموسيقى فلسطين وأشعارها وأغانيها، كان في إمكانه أن يقدم الكثير بلا شك لكنه كان على موعد مع الشهادة لا يُخلف. وعندما يتأمل المرء أعماله قد يتذكر بيرم التونسي وسيد درويش وأعمالهما في ظلال ثورة 1919، حيث نجد في أعماله روح الوطنية والنقد السياسي والاجتماعي والسخرية اللاذعة، إلى جانب موهبته في نظم الشعر باللهجة الفلسطينية العامية، النابعة من صميم البلد والشعب، وقد يكون لزجلية أو لقصيدة عامية واحدة مفعول أقوى من ديوان كامل من الشعر الفصيح. كان نوح إبراهيم يعبر بالكلمة والصوت واللحن عن الشعب الفلسطيني والحياة في فلسطين، التي هي كأي حياة أخرى في أي بلد آخر، تضم نواحي مختلفة غير الجهاد والنضال، فكما كان سيد درويش يغني للوطن، كان يغني كذلك للحب والغرام، ويردد الأهازيج المرحة ذات المغزى الاجتماعي، وهذا نجده أيضاً لدى نوح إبراهيم في أغنيات كتب أزجالها العامية ولحنها وغناها بصوته، ترسم الابتسامة العريضة على شفاه سامعها، وتثير ضحكاته عند بعض المقاطع، وفي الوقت نفسه تقوم بتوصيل رسالة اجتماعية مهمة، وتحذر الناس من سوء عاقبة بعض الأمور كما في أغنية «مشحر يا جوز التنتين» وأغنية «الله يخزي هالشيطان»، فالأولى تصور معاناة من يجمع بين زوجتين، والثانية تصف ما يلاقيه من يركض وراء ملذاته الشخصية.

بالقراءة عن نوح إبراهيم نعرف أنه المؤلف الحقيقي لأغنية «من سجن عكا» التي غنتها فرقة العاشقين الفلسطينية في الثمانينيات، هذه الأغنية التي ينسبها البعض إلى مؤلفين آخرين كالشيخ فرحان السعدي وعوض النابلسي وغيرهما، تتناول أغنية من سجن عكا واقعة إعدام سلطات الاحتلال البريطاني ثلاثة من الأبطال الذين قادوا ثورة البراق سنة 1929، هم محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، وقد وضعها الشاعر في قالب الدلعونا من التراث الفلسطيني، لكنها كانت دلعونا حزينة للغاية يقول في مقدمتها: «كانوا ثلاث رجال تسابقوا ع الموت.. أقدامهم عليت فوق رقبة الجلاد.. وصاروا مثل يا خال بطول وعرض البلاد». وقد سُجن نوح إبراهيم في سجن عكا ذاته المذكور في الأغنية، وكما نسمع في حلقة من حلقات برنامج أهلين (من صور التراث الشعبي الفلسطيني) المتاحة على موقع يوتيوب، والذي كان يعده ويقدمه الصحافي والمذيع الفلسطيني مازن الشوا عبر إذاعة فلسطين من القاهرة، أن نوح إبراهيم، كتب في مذكراته عن سجن عكا قائلاً: «أدخلنا السجن في الشهر الثاني من سنة 1937، وقضينا خمسة أشهر في سجن عكا ومعتقل المزرعة، وكان عددنا يتزايد حتى بلغ مئتي معتقل، كلهم من خيار الشباب الوطنيين والرجال العاملين والعلماء الأجلاء، وكانت التهم التي وجهت إلينا مفبركة وعجيبة جداً، يكفي إثبات واحدة منها أن يذهب بنا إلى المشنقة على معدل القوانين الجديدة».

الأغاني في ساحات النضال

ذات يوم استمع الشيخ عز الدين القسام إلى نوح إبراهيم فأعجب بشعره وطرب لصوته، وشجعه على الاستمرار في قول الشعر والغناء والتلحين، إدراكاً منه لأهمية الفن وعظم دوره، إلى جانب المقاومة بالسلاح والجهاد بالمال والنفس. وكانت أغنية «حطة وعقال بخمس قروش والنذل لابس طربوش»، مما ألفه وغناه نوح إبراهيم وذاع على ألسنة الشعب الفلسطيني، ويمكن القول إن هذه الأهزوجة أو الأغنية إنما هي من وحي عز الدين القسام، أو أن نوح إبراهيم قام بتأليفها ليدعم ويساند فكرة اقترحها القسام عندما كان الإنكليز يلقون القبض على كل من يضع الحطة والعقال فوق رأسه، وإن لم يكن من المجاهدين، لأن غالبية المجاهدين في ذلك الوقت كانوا يضعون الحطة والعقال فوق رؤوسهم، فاقترح الشيخ عز الدين القسام أن يقوم جميع رجال الشعب الفلسطيني بارتداء الحطة والعقال من أجل التشويش على قوات الإنكليز وتشتيتهم وإرباكهم، ولكي لا يستطيع الاحتلال التمييز بين الفلاحين وأبناء المدن، فاستجاب لنداء الشيخ عز الدين القسام أغلب الشعب بطبيعة الحال، لكن لا مفر من وجود بعض الخائفين أو المتخاذلين كما في أي شعب آخر، الذي لا يرغبون في اقتسام الخطر مع إخوانهم وتوزيعه على الجميع بهدف حماية الجميع أيضاً، لكن نوح إبراهيم لم يتركهم وإن كانوا أقلية وأطلق أغنيته تدوي في أرجاء فلسطين وتنتقل من مكان إلى آخر يغنيها الشعب ويرددها، وصار كل من يضع الطربوش نذلاً لا يساهم في حماية إخوانه المجاهدين، فإذا كان هناك مجاهد مطلوب القبض عليه، فإنه يستطيع أن يهرب بسهولة، وأن يذوب وسط الجموع ويختفي عن أنظار الجيش الإنكليزي، إن ارتدى الجميع الحطة والعقال.

ألّف نوح إبراهيم مجموعة من الأشعار والأغنيات منها «الله يحيي المعتقلين»، «بحرية يافا»، «يا جناب اللجنة الملكية»، «يا فخامة المندوب غرينفل واكهوب»، وأغنية «دبرها يا مستر دل» التي يسخر فيها من جنرال بريطاني كان مسؤولاً في فلسطين في ذلك الزمن قائلاً: «دبرها يا مستر دل بلكن على إيدك بتحل.. يا حضرة القائد دل لا تظن الأمة بتمل.. لكن أنت سايرها بلكن على إيدك بتحل.. إن كنت عاوز يا جنرال بالقوة تغير الحال.. لازم تعرفن أكيد طلبك صعب من المحال.. لكن خدها بالحكمة واعطينا الثمن بالحال.. نفذ شروط الأمة من حرية واستقلال»، وأغنية «كنا نغني بالأعراس» التي يقول فيها: «كنا نغني بالأعراس جبرة عتابا ودحية.. واليوم نغني برصاص ع الجهادية الجهادية.. شوية شوية وصار الصوت يدوي بلهجة شعبية.. ضد الظلم وضد الموت والقصف والذلية.. وتغير صوتي يا ولاد صار أعلى مية المية.. يا بلادي يا أحلى بلاد إنتي أحلى غنية».








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي