إبراهيم سبتي
ترسم رواية « البصّاصون « للروائي العراقي عباس خلف علي، الصادرة عن مؤسسة الأمة للطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة مؤخرا. وهي الرواية السادسة في سجل منجزه الروائي، عالماً مغايرا للوقائع المعيشة، باعتبار أنها تخوض في مساحة إشكالية تمتد منذ القدم وتتوغل في عمق التراث، وفي كل الأزمان، وفي كل الأنظمة السياسية، التي حرص المؤلف على التركيز فيها على التاريخ بإشكالاته وتدويناته المختلفة، وبين التراث ليبدأ أحداثه وحيثياته من هناك، ومن ثم ربطها بالحاضر وفق معايير ذات الصفات التي تتكرر في كل الحقب والأزمنة التاريخية، وهي أسلوب البصّ، أو المخبر السري، الذي كان الثيمة الأساسية في الرواية، وأخذ حيزا واسعا فيها. هي مهنة يمتلك صاحبها مواصفات لا يمتلكها غيره تؤهله لذلك، لا يمكن لأي شخص آخر القيام بها. إذ يقدّم خدماته للقصر، رغم أنه قد يكون منبوذا من السلطان نفسه لأنها مهنة غير مشرّفة، رغم أنه لا يمكن الاستغناء عنه، لأنه سيصبح بمرور الوقت وسيلة مهمة من وسائل بقاء السلطان، الذي يبحث عن تلك الأساليب لضمان ديمومة حكمه (غيّر أسلوب حياتك من الآن، وانتبه إلى ما تأتي به التبليغات اللاحقة). هذه الممارسة المرفوضة من الناس، لا يقترب إليها إلا من كان يشعر نقصا في داخله، ويحاول أن يكون مهماً بين الآخرين.
اعتمد الروائي عباس خلف علي، على ترتيب روايته باستخدام إسلوب الأسفار التي حلّت محل الفصول، ولكل سفر هويته وعنوانه الخاص به. وحرص الروائي على الحفر في التاريخ السياسي والفكري والأدبي لشخصياته الرئيسية الثلاث، المستلة من التراث والمعاصرة على حد سواء، وهي ابن إياس وحسن الوزان وإسفور (وهو بطل رواية «نزيف الحجر» لإبراهيم الكوني). وهم الذين سيبنون عوالم الأحداث برفقة السرد الواعي، الذي أمعن الكاتب في ذكر أسماء الأماكن والكتّاب والروايات والمفكرين والسياسيين. فهي تستفز مخيلة القارئ لأنه سيكون في مواجهة هذا الكم النوعي من المعلومات التي بالتأكيد هي دلالة الوعي النوعي، ففي كل صفحة تقريباً سنجد أسماء الكتب والروائيين، وهي تسير مع عدد الصفحات التي تكتنز بتلك الإضافات المعرفية.
ابن إياس يأتي ذكره في الرواية لأول مرة في مصر عندما يكون الراوي هناك (أنا) فيقابل شخصاً جالساً في مقهى ريش، وهو من أشهر مقاهي القاهرة، الذي يرتاده أهل الفكر والثقافة. ويعتقد الراوي، أن ذلك الشخص الذي التقاه هو ابن إياس وهو شخصية تأريخية عاش في أواخر دولة المماليك، وبدايات الدولة العثمانية، وهو صاحب الكتاب الشهير «بدائع الزهور في وقائع الدهور» ويسأله الراوي (ماذا أضاف إليك جمال الغيطاني في روايته الزيني بركات؟ قال بلا تردد إن معشر الكتاب لا سيطرة عليهم في تناول الموضوعات، لديهم خيال لا يتوقف، خصب، يفوق ما يحدث في الواقع فالتاريخ الذي نعرفه غير ما يتبناه المؤلفون). الأمر الذي جعل القارئ يذهب لرواية الغيطاني ويعرف تفاصيل من امتهن التلصص والاستحواذ على الأموال، إنهم (البصّاصون) الذين استحضرهم الروائي عباس خلف علي عن طريق ابن إياس الذي ظل يشتغل على ظاهرة التلصص والبصّ في دولة المماليك وبداية نشوء الدولة العثمانية. ويأخذنا السرد بين طياته إلى رواية إبراهيم الكوني «نزيف الحجر» ويستل منها الشخصية المحورية (أسوف) ومدى طيبته، ومن ثم كيف يُقتل من قبل قابيل وينزف دمه على الحجر، وفيها ملمح تاريخي هي الأخرى عن استلهام الحوادث والأفعال من بطون التاريخ وربطها بالواقع. وفي مقارنة بين أسوف الابن وأسوف بطل رواية الكوني يقول الراوي (لو جمعتني الصدف بابراهيم الكوني سوف اقول له، إن «أسوفك»… يختلف عن «أسوفي» الذي نذر نفسه لأن يكون نزيفا دائما، ليس مع الحجر وإنما معي، لقد شقيت من أهوائه المتعددة). أما حسن الوزان، فهو الجغرافي التونسي الشهير بليون الافريقي، المؤلف لكتاب «وصف افريقيا في عصر النهضة». لقد استحضر الكاتب هؤلاء الثلاثة من بطون التاريخ والكتب واسقطهم على أبنائه (الراوي) الذين سماهم بتلك الأسماء نفسها.
إن الراوي الذي يصنع السرد بأحداثه وتفاصيله وانزياحاته، هو شخص لديه الاستعداد التام للقيام بمهمة البصّاص، بل إنه يذهب أبعد من ذلك، حين يقول لرجل القصر (افتح الشيفرات). لكن سيده لا يقتنع بهذا الإجراء المحدود، بل يدعوه إلى فكّ شيفرات حتى من كانوا فوق الشبهات. إن الرحلة الطويلة للأحداث وغوصها في التراث، جعلها لوحة متعددة الألوان حين يدخلنا الكاتب في قيعان تلك الحقبة الزمنية، ومن ثم سحب الأحداث نحو الراهن المعاصر، وبيان الارتباط الوثيق بينهما. فبينت لنا الرواية ان مهنة البصّاص ليست طارئة، أو تأتي صدفة، بل إنها متجذرة داخل أروقة السلطة مهما كانت مساراتها، ما دامت تساهم في كشف نوايا الأفراد تجاه تلك السلطة ومحاربتهم بشتى الأساليب للقضاء عليهم. إنها مهمة لا أخلاقية يقوم بها المتصدي لها تجاه جميع الناس الذين هم في محل شكّ دائم من السلطات، باستخدام الوسائل الدنيئة. لقد دخلت الرواية إلى دواوين وقاعات ومحافل السلطات عبر أزمان مختلفة، وبالتالي هو دخول إلى عالم من الفلسفة أحياناً ومن الغموض في أحيان أخرى لأنها تُسقط القناع عن المزيفين الذين دخلوا صفحات التاريخ بوجه إنساني وودي. تستعرض لنا الرواية، باقات من الأسماء المهمة المؤثرة في واقعنا الأدبي والثقافي المحلي والعربي، وحتى ذهبت إلى إيراد بعض اسماء الأدباء الغربيين. فنكون أمام إعادة استذكار لتلك الأسماء وهي مهمة تنشيط للذاكرة، عبر مقاطع السرد الذي لم تأت غريبة أو محشورة فيه، إنما كانت مكمّلة للأحداث ومعززة للفكرة الأساسية التي اشتغل عليها الموضوع، وهي مهمة البصّاص في المراحل الزمنية المختلفة، وقد عبّرت تلك التضمينات عن الأبعاد الأساسية لعمق المساحات التي اشتغل عليها النص الروائي.
«البصاصون» رواية التساؤل المطلق الباحث عن الأجوبة التي لا تأتي، والألم المؤبد الذي ظلّ ينهش دون اكتراث في بعض المفاهيم الملازمة لأنماط الحياة منذ أزمان بعيدة وحتى اليوم، وظلت معاناة الناس هي ذاتها في كل العصور. جاءت الرواية بواقع 182 صفحة من القطع المتوسط..
كاتب عراقي