علي لفتة سعيد
يبدو العنوان وكأنه مبضع دخل إلى جرحٍ لا أحد يريد رؤيته. هكذا بدا الأمر وأنا أقرأ كتاب جمال حسين علي «لماذا يكره المثقفون بعضهم؟» وهو سؤال معلق من عرقوب الحقيقة تارة، أو أراد تعليقه بالقوة بأحد مسامير الكراهيات المتعددة عند كل فئة من فئات المجتمع، لكنه ربط الأمر بالمثقفين وزاد عليه في العنوان عنوانا فرعيا (هذا الكتاب مثقف جدا.. فاجتنبوه) على اعتباره عملا من رجس الشيطان، كونه (بز) المنطقة المحظورة في كشف الخفايا التي تنتاب الوسط، وكثيرا ما كان الكثير، بل الأغلب الأعظم يشكو منه ويشتكي إليه ويراد أن يشكى عنه، والمسور بالحسد والضغينة والانتقاص، التي تلوح من هو مثقف مبدع، رغم أن كلمة المثقف هنا لا تعني فقط الأدباء، لكن المعني والمخفي بين السطور والمضمر في المعنى هم، فئة الأدباء وهو ما أكده المؤلف في تقديمه للكتاب، وهو تقديم تهكمي وربما انفعالي (أعرفُ أن الأدباء يملون من كلامي، لكن لحسن الحظ، لم أكتب لهم طوال حياتي) وأتبعها بتقديمين يرتبطان بتقديمه والعنوان وغاياته، ليعينا مبضعه الذي أراده أن يكون جارحا أكثر منه مداويا. فقد استعان بسؤال الشاعر عنترة بن شداد (هل غَادر الشعراء من مُتَردم؟) ليكون محمولا لما يمكن أن يعين أهداف الكتاب وغاياته، من خلال تفرده في قيادة القصدية والتأويل، ليكونا مفاتيح أبواب الكتاب، التي ربما هي مفتوحة للآخرين، لكنه سهل مهمة الدخول التي يجد فيها المتلقي كمياتٍ كبيرة من التفرد أو مغايرة المقولات السابقة، التي أريد لها أن تكون قارة، حتى إنه يجعل من العنوانين لكل باب متعاضدين مع بعضهما بعضا، فهو يعنون الأول منهما (نَافِذةُ الجَمالِ الأخير) لكنه أيضا يردفها بمقدمة (لمْ نَصل مُتأخرين، فالثقافة لَم تبدأ بَعْد!). وكمراد أن الضجيج الحاصل في أصوات الثقافة هم المثقفون صار استهلاكيا ومبتذلا، حسب رأيه وهو الذي يسوق لثقافات كهذه (بمساعدتنا وتأييدنا وصمتنا وربما بجهلنا) بل إنه يمضي بوضع المبضع على خطورة تهديد الثقافة من أنه (ليس الإنترنت ولا التلفزيون أو السينما ولا أي تطور تكنولوجي، أكبر الأخطار هو «الثقافة» نفسها حِينما تُقدم على نحو سيئ).
الكتاب حافلٌ بلغةٍ مميزة. لغة شاعرٍ أو سارد أراد مهاجمة الثقافة، ككل من أجل الدفاع عن الثقافة لا عن المثقفين الذين يمارسون الحرب على الثقافة، كونهم يمارسون رذيلة نشر الثقافة، وهو يشبه الأمر بلغة الشعر والتأويل الصوري، حين (الجدارَ ينهارُ مِن حجرٍ لا يُوضَعُ في محله، والنارُ تنطفئ مِن تعثرِ اللهَب، والنهرُ يُغيرُ مجْراهُ بفعلِ صَخْرة، والنخلةُ تصيرُ عَاقرا مِن سوءِ التلقِيح، والتنهيدةُ لا يُعمرُها الصُراخ، الأصيصُ ليس وميضا، لكن في الأدب يمكنك تحويل الأبواب إلى أناس) معتبرا ذلك ضوابط التماسُك التي ينبغي أن ندركها لكي نعمل في الثقافة).
هذا الكتاب هو إشعال نارٍ لمنح المتلقي دفء صيد القصدية الكبرى لكي يتمكن من فصل الثقافة عن التفاهة وصناعة الثقافة عن احتراق الثقافة، وهكذا لكي يشعر (باحترام النفس وبإلهام العقل والأحاسيس) وهو بهذا يخوض ليس في بحرٍ عميقٍ، بل داخل النفس وداخل الكتاب معا، بمعنى أنه يريد فهم الثقافة وتعريفها الصحيح، مثلما يسعى إلى جعل الثقافة هي القوة الكبرى لصناعة الجمال، وليس الاستسلام للحروب والتفاهات التي تصنعها الحروب، وتنجبها من رحمٍ ولد منه الطغاة والباحثون عن الحرب، وأنه يدعو إلى أن يخرج الكثير من المفكرين من خانة الاستسلام لينيروا الظلام (ففي إيطاليا، خلال ثلاثين عاما اندلعت حروب واغتيالات، في هذه الفترة ظهر أيضا مايكل أنجلو وليوناردو وعصر النهضة. في سويسرا، عاشوا تاريخهم دون مأساة قومية واحدة، وبالنتيجة يصحونا بديك الساعة).
ربما يكون الكتاب في عنوانه تهكميا، لكن المتلقي حين يجد الأسئلة سيمضي إلى اتجاهٍ آخر وسيحمل التهكم على أنه مسمار لتعليق الإجابات، باعتبار الأديب (فلاح ثقافة) كما يصفه، ولهذا فهو يدعو إلى استثمار الخلاف لصناعة الجمال، وليس الاستمرار في الكراهية (لتكن لدينا درجة معينة من الخلاف مع العالم، وعدم الرضا عنه، لنجد ضالتنا في الفكر والإبداع والخلق).
الكتاب يشير إلى تراجع الإبداع لأسبابٍ عديدةٍ منها الإنترنت و(تدني الذوق أو ندرة المواهب، بسبب تراجع القِيَم والمُثل العليا في كثير من وسائل النشر المهتمة بنشر المحتوى والمؤثرة في الوعي الجمعي لمجتمعنا المعاصر، الذي وجد صعوبة في نهاية المطاف في التفريق ما بين الثقافة الحقيقية والمزيفة، العميقة والسطحية) ما أدى إلى زيادة الجرائم الفكرية التي هي أخطر من الجرائم الجنائية، فالثانية تكون حاصلة بفعل الأولى. تبدو مهمة الكتاب مواصلة الصراع وليس تجنبه، فالتجنب يعني زيادة تضخم الصراع، وصعوبة إيجاد الحل من أجل (الحصول على: ثقافة حقيقية وأصيلة) من أجل الوصول إلى ثقافة خالية من الكراهية، التي لا تنحصر بين الأدباء والمثقفين، بل في عموم الثقافة لتنظف (مشاعرنا من غبار الأيام وشوائب السنوات المريرة). الكتاب جاء نتيجة تجربةٍ شخصيةٍ للمؤلف، كونه كان محررا ثقافيا للعديد من الصحف والمجلات، وهو يكشف عن هذا في واحدة من الفصول (أنْ تَكُونَ مُحررا ثقافيا) وهي مهمة مكنته من الاطلاع على الحجم الكبير من جودة الثقافة المكتوبة وتفاهتها. فالمحرر الثقافي/ المبدع تحديدا، ليس ميزانا لمعرفة الإبداع من غيره، بل هو دفتر تسجيل الملاحظات والغايات، وهو ما جعله في حالة ازدواجية بين الغث والسمين، وتجارب مختلفة وأجناس متنوعة وأهداف متعددة، ولهذا فهو مثقف حاكم ومراقب ووسيط وحارث أيضا، لذا يبقى (في الظل) لكنه الماسك بجمرة الاختلاف والخلاف والصراعات ونوعية المثقفين/ الأدباء الذين يفضحون دواخلهم في ظل المحادثات غير الكتابية كما يرى.
هذا الكتاب يبحث عن الثقافة لا الكراهية، يبحث عن الكراهية ولا يعني الثقافة التي يدافع عنها، فهو يناقش مستقبل الثقافة من خلال المنتج الثقافي وسط الصراع المحتوم بين الوعي واللغة، وبين المناسبة والكراهية، بين اليأس والتصلب، لأننا نعيش السرعة في محاولة (استكشاف محاولات الأدب المعاصر والفن الحديث لكي يفهما ويعكسا ويتفاعلا مع الوتيرة السريعة للتغيرات الاجتماعية والسياسية والتكنولوجية، ونضيف إليها الصحية، في العقود المقبلة) فهو معني بالمستقبل الذي لا يريده أن يكون راكدا على سببيات متعددة أو جامدة، على آليات لغوية متصلبة من خلال فهم حتى المصطلحات العلمية. لذا هو يحدد الأنماط السببية منها/ التاريخية/ أدب المستقبل الأسود/ البحث عن الغد/ الزمن كآخر/ النظام التاريخي/ علم الوجود. الكاتب يصنف ليفتح الأبواب العديدة في كتابه من أجل ربط كل ملامح العنوان في ما يسعى إليه. ربما يجد المتلقي غاية أخرى، وأن العنوان جاذب، لكن نظرة متفحصة نجد أن هذه الأبواب ترتبط بالأقفال، التي وضع المفاتيح فيها بيد المتلقي، وقال له أدخل واقرأ ما تيسر لك من أجل المساهمة في معرفة خيوط المعاناة الثقافية. فهو ينتقل من باب (الثقافة المُقاوِمَة) والتي خص بها الفرد المثقف، ومكانته في الوعي الثقافي العالمي، التي تقود إلى (الفردانية الثقافية) التي تعني بقهر كل شيء. ثم إلى (الثقافة والإقصاء) التي يعاني منها الوسط الثقافي، وهو يتساءل في مفتتح هذا الباب (هل المثقف مثل أي شخص آخر؟) ليدخل مع المتلقي إلى مفهوم (المثقف الشكاك) ويضع مفهوما مغايرا ملاصقا للفهم مؤكدا (أن اليقين، علامة على الدونية الثقافية، فالشخص غير العميق متأكد من معرفته بالضبط الخطأ والصواب، بينما التقدم البشري، كان ثمرة تفكير الأشخاص الذين شككوا في الثوابت) وبالنتيجة فالأبواب تسير إلى الدخول إلى مفهوم (الثقافة والوعي) التي تسعى إلى خلخلة ما هو فوضوي لكون المضاد له آليات التفكير المنطقي.
لكن الأجمل في الكتاب هو الباب الثاني حيث عنوان (شَوَاهدُ الخَرَاب الكَبِير) وتتفرع منه أبوابٌ صغيرةٌ كما الباب الأول، لكنه أكثر جرأة والتصاقا بالعنوان الذي يبدأ بـ(صُعود الثقافة.. وانْحِدارها) معلقا أسئلته المفصلية (هل الثقافة في صعود أم في انحدار؟ هل تنمو مع ما يشهده العصر من تقدمٍ في العلوم والطب والصحة العامة والتكنولوجيا والاتصالات والفضاء وغيرها من العلوم؟ هل في إمكان الشق الفلسفي من الأمر إنقاذ إشكالية «التقدم» بحد ذاتها على المستوى الفني والإبداعي والإنساني والتقني والمهاري؟ والإجابات يوزعها على فصول الأبواب الصغرى للباب الرئيس التي تتمحور كلها عن أسباب الخراب وتداعياته من خلال (فهم ما حصل من عملية تطور للإبداع الإنساني سنحتاج إلى الكثير من الدراسات الرصينة التي تفهم الفلسفة الدينية واللاهوتية السائدة في تلك العصور، وتفك الرموز والمفاهيم، لكي يستطيع أي دارس تشكيل صورة يمكن عن طريقها رؤية ملامح الشكل العام المعقول للواقع) كون الثقافة ليست يقينية فحسب، بل الكاتب فتح باب (الثقافة، المشكوك فيها دائما) وهو باب الدخول إلى السايكولوجيات البشرية التي تدعو بطريقةٍ طريفةٍ إلى حل المشكلات عبر الثقافة البسيطة، وليس إلى ثقافة الـ(المتمكن) ولهذا يضع سؤالا كما في كل الأبواب، إذا كان المجتمع في غالبيته متعلمين (فلماذا الإصرار على ملء رؤوس الناس بالهراء؟ لمصلحة مَن إبعادهم عن أفضل الأعمال الأدبية والفنية والموسيقية القديمة والحديثة؟ لماذا حرصت الأجيال على متابعتها، ونحن لا نهتم بها؟ لماذا الخوف من الثقافة الحقيقية؟ ولماذا أكثر مَن يخاف منها هُم المنادون أكثر من غيرهم بالحفاظ على القيم والأخلاق والعادات، إلخ؟).
قد تكون المحاكاة للكتاب على إنه تمزيقٌ لفعل الثقافة أو تهميش دور المثقفين، لكنه كما قلنا يضع الأصبع على الجرح لتحريك الساكن في الوعي، أو التكبر الفارغ من قبل البعض. فهو يفتح باب (ثقافة السرقة) باعتباره أمرا شائعا، حيث لا (يوجد رادع للسارق والمُنتحل، بل العكس، هناك من يصفق له ويُحيي تلفيقه وكذبه المرضي) وهو باب انتحال اللغة إلى وصفياتها الجميلة وأسئلته الواقعية من جهة، والميتافيزيقية من جهةٍ أخرى.
أجمل ما في الأبواب الصغرى يدخلنا إلى (ثقافة الابتذال» للكبار فقط!) وهو باب القصدية الكبرى، كونه يمزق شباك («علية القوم» و»سيدات مجتمع» يتصرفون أسوأ في السر) ووضع جمرة (المهازل) في كف التوصيف اللغوي العمومي (اكتب أي هراء، وستجد من يرقص عليه). يعود الكاتب إلى الميتافيزيقيا، إلى عملية الخوض في بحرٍ هائج (مَن هو المثقف؟) فهو ذاته يقول (لا أعرف ماذا يعني هذا المصطلح، أعرفه كصورته التي حملتها منذ الطفولة) لذا فهو باب استراحة تعريفية غرضها بث المقاربة والمقارنة، لتوسيع نطاق العملية المجهرية الساخرة التي يدخل من خلالها إلى الباب الآخر («المُسَقفون» الكاتب وفجواته) وهو باب لا يستريح فيها المتلقي من عناء المقارنة، ويضع جملته كثريا عالية لهذا القسم (لا مخلوق في الأرض، لديه غطرسة المثقفين، والأدباء منهم على وجه الخصوص، وليس التشكيليين والموسيقيين والباحثين… لذلك إذا خُيرت أن أجلس في رحلة طويلة إلى جانب مثقف مِهْذَار وشخص هادِئ، سأختار الجلوس إلى جانب الثاني طبعا. فالهدوء أجمل من الثقافة بكثير) وهو أمر صادم هنا، خاصة أنه يزيد بالقول (اكتشفت أن أكثر ما ينقص الكثير من الأدباء، هو: الأدب).
ليصل إلى باب العنوان الرئيس (لماذا يكره المثقفون بعضهم؟) داخلا إلى مساحة قد تكون محسوسةٍ وملموسةٍ، لكنها غير واضحةٍ بطريقةٍ واثقةٍ وإن كانت بسخريةٍ لاذعةٍ لأن فيه استعراض لخصومات أدباء معروفين كتولستوي وتورجنيف وماركيز وقبلهم أبو حيان التوحيدي، ليؤكد أن المثقفين (سادة «ذر الرماد في العيون» وهم أساتذة التظاهر بالمساعدة) وهم (أساتذة «الشللية» والانتقاء وسادة «المعايير المزدوجة» ويملكون حصريا ابتكار «عبادة الفرد» قبل الساسة.. هُم أول من صنع الأصنام التي يأكلونها.). وربما هو الباب الأكثر جرأة والأكثر قسوة، لكنه أراد وضع البارود، كي تنطلق شرارة المدفع، التي ربما تكون قنبلة أو تكون مشعلا. ولم يكتفِ الكاتب بالبابين الرئيسيين، بل وضع بابا ثالثا (هذا ما تبقى لنا) وهو يحمل أبوابه الصغرى (الأدبُ وقواهُ الخفية) و(أحافير الأدب) و(مهمة المثقف) و(تواضعُ المثقفين) الذي يشير فيه إلى ندرة وجود مثقفٍ متواضعٍ ليرتبط بعنوان (التواضعُ الثقافي) و(خاتمة الإبداع).
إنه كتاب يهاجم ويدافع.. يتهم ويبرئ.. يعرف ويرصد.. يحلل ويفكك في كل عوالم من يسميهم المبدعين لأنهم (الأكثر أَسى، وسخطا وعذابا من كل البشر، كونهم يرون كل شيء يسقط أمامهم ويشعرون بالعجز عن إعادته إلى وضعه الأصلي، فضلا عن الارتقاء به) لذا هو يضع سؤالا كبيرا على غلاف الكتب الثاني (إذا هلكت الثقافة ، فما مصير أمل العالم؟).
كاتب عراقي