زيد خلدون جميل *
هل يخدعنا الإعلام؟ هل يخدعنا أصدقاؤنا؟ وهل كل ما حولنا أكذوبة للسيطرة على الإنسان؟ هذا ما يتناوله فيلم الخيال العلمي الشهير «استعراض ترومان»، الذي عرض في دور السينما عام 1998. ومثّل الدور الرئيسي فيه جيم كاري بينما ظهر كل من أد هاريس ولورا لني في أدوار ثانوية. ويعد بعض النقاد هذا الفيلم أفضل ما عرض عام 1998 وأحد أفضل أفلام الخيال العلمي في تاريخ السينما، لاسيما في طريقته في دمج الفكاهة بالدراما وموضوعه العميق.
أحداث الفيلم
يعيش «ترومان بربانك» (جيم كاري) ذو التسعة والعشرين عاما في جزيرة سيهَيفن الأمريكية، التي يصلها بالبر طريق معبد واحد. وعلى الرغم من أن «ترومان» لم يغادر الجزيرة طيلة حياته، فإن حياته مريحة وكل من حوله لطيف معه. ويعمل «ترومان» في مبيعات بوليصات التأمين، يساعده زملاؤه في العمل، ولكنه لا يعرف أنه يقضي حياته في موقع تصوير عملاق مغطى فيه خمسة آلاف كاميرا تنقل جميع تفاصيل حياته اليومية على الهواء إلى جميع أنحاء العالم، كبرنامج تلفزيوني حائز شعبية كبيرة في كل مكان. وأنه نجم ذلك البرنامج التلفزيوني، على الرغم من أنه لا يمثل، بل يعيش ظانا أنه يعيش حياة عادية، دون أن يعلم أن كل من حوله ممثل، ومنهم زوجته وصديقه المقرب.
وسبب جهل ترومان كل ذلك أن والدته تركته عند ولادته، فتبنته شركة لإنتاج البرامج التلفزيونية وحولته إلى نجم ذلك البرنامج، الذي ينتجه «كريستوف» (أيد هاريس) منذ لحظة ولادته. ويسيطر المنتج على كل ما يدور في موقع التصوير. ويشمل هذا الجو والمياه المحيطة بالجزيرة ودرجة الحرارة والرياح. وكان من أهداف البرنامج منع «ترومان» من مغادرة الموقع. ولذلك افتعلوا غرق والده أمامه في حادث قارب عندما كان طفلا، فتولدت لديه عقدة خوف مفرطة من الماء. ولم يكن الطفل يعرف أن والده لم يكن في الحقيقة سوى ممثل انتهى دوره.
يقع «ترومان» في غرام «سيلفيا»، ولكن هذه الفتاة، الممثلة طبعا، تحاول أن تشرح له حقيقة عالمه إلا أنها سرعان ما تؤخذ من قبل شخص يدعي أنه والدها وقال لـ»ترومان» أنهما ذاهبان إلى جزيرة «فيجي». وتطرد «سيلفيا» من البرنامج، وتقوم بحملة لتحرير «ترومان» من عالمه المزور لأنه في الحقيقة في سجن كبير. تقوم فتاة أخرى (لورا لني) بإيهامه بأنها تحبه، فيتزوجها دون أن يعلم أنها ممثلة.
ولكن شعورا غريبا ينتابه حيالها حيث يشعر بأنها لا تحبه، بالإضافة إلى أن تصرفاتها غريبة، لاسيما عندما تتكلم عما تشتريه من منتجات، إذ أنها تقوم في الحقيقة بإعلانات تجارية أمام كاميرات تلفزيون مخفية في منزله. وليست هي الوحيدة التي تقوم بذلك، فكل من حوله على هذا المنوال. عندما يقترب عمر البرنامج من عامه الثلاثين يبدأ «ترومان» بالشعور بأن هنالك خطبا في ما يحدث حوله. ويبدأ ذلك بسقوط إحدى المعدات من سقف الموقع، إذ يظهر هذا وكأنه سقط من السماء. وسرعان ما تعلل إدارة البرنامج ذلك عن طريق إعلان الإذاعة المحلية أن طائرة أسقطت ذلك. وتستمر أخطاء الموقع ومنها مشاهدته والده في الشارع، فيقوم بعض الناس بأخذه بعيدا فورا، ويدخل بناية بشكل مفاجئ، فيكتشف أنها من الداخل وكأنها محل راحة للعمال وعندما يدخل مكتب للسفريات يجده فارغا، إلا أن فتاة تدخل فجأة ومن الواضح أنها كانت تضع مكياج بسرعة لأنها ممثلة. ويشعر «ترومان» بأن كل ما يحدث في الجزيرة متمركز عليه، وأن هناك أشخاصا في حالة مشي دائم، دون أن يكون لهم عمل. ويخبر «ترومان» أعز أصدقائه بشكوكه، دون أن يعلم طبعا أن ذلك الصديق عبارة عن ممثل أيضا.
يقوم «ترومان» بمحاولات حثيثة لمغادرة الجزيرة، إلا أنها تفشل في ظروف مريبة مثل، أخذ زوجته بسيارته للخروج من الجزيرة، على الرغم من معارضتها وصراخها. وما أن يتجه نحو حافة الجزيرة حتى تجمعت أمامه السيارات، فيتراجع وينجح في مراوغتها ويجتاز الطريق الوحيد بين الجزيرة واليابسة، إلا انه يوقف من قبل رجال الإطفاء مدعين أن حادثا خطيرا قد وقع، فيجبر على العودة. تتركه زوجته في نهاية المطاف عندما تعجز عن التعامل مع شكوكه. ويلاحظ القائمون على البرنامج أنه أخذ ينام في سرداب منزله. وفي إحدى المرات يختفي «ترومان» ليلا وتبدأ حملة من قبل الممثلين للبحث عنه دون نجاح، على الرغم من كاميرات البرنامج الموجودة في كل مكان.
وأخيرا يكتشفون أنه على متن قارب مغادرا الجزيرة، ما يثير غضب المنتج لأن هذا يعني انتهاء البرنامج، فيأمر بتوليد أمواج لإيقاف القارب إلا أنه لم ينجح. ولذلك يأمر المنتج بزيادة حجم الأمواج على الرغم من تحذير الجميع له أن هذا سيسبب انقلاب القارب، لاسيما وأن «ترومان» لا يجيد السباحة. ولكن المنتج لا يأبه بكل هذه التحذيرات. وفي هذه الأثناء يشاهد الجمهور في جميع أنحاء العالم ما يحدث، ويدخلون في مراهنات حول احتمال مقتل «ترومان» على الرغم من معرفتهم أن ما يشاهدوه ليس تمثيلا. وينقلب القارب إلا أن «ترومان» لا يموت، بل ينجح في السيطرة على القارب. وفجأة يرتطم القارب بشيء ما، ويكتشف «ترومان» أن ذلك الشيء لم يكن سوى الحائط المحيط بموقع التصوير. ويكتشف كذلك بابا يقود إلى الخارج. ولكنه قبل أن يخرج يخاطبه المخرج وكأن صوته من السماء شارحا له أن العالم الخارجي ليس أقل خديعة من عالمه داخل موقع التصوير، مع وجود اختلاف مهم وهو الطمأنينة وضمان الحياة الجميلة في الداخل. ويضحك «ترومان» ويودع ويخرج ويتوقف البرنامج. وكانت «سيلفيا» تراقب كل هذا فتخرج من منزلها للقاء «ترومان»، أما الجمهور المتفرج فينسى البرنامج فورا. وتنتهي أحداث الفيلم.
تحليل الفيلم
كان الفيلم رمزيا بشكل واضح، ولكن إلى ماذا كان يرمز؟ يتناول الفيلم عالما مرعبا قد يعده البعض شبيها بعالم رواية «1984» للكاتب البريطاني جورج أورويل، ولكن هنالك فرقا مهما، وهو أن رواية «1984» كانت عن قابلية أجهزة المخابرات للسلطة الحاكمة، بينما يعالج الفيلم موضوعا أكثر رعبا من ذلك، ألا وهو قابلية السلطة على السيطرة على المرء وتحديد مستقبله. ويمثل هذا تطورا مخيفا لأنه يعني أن السلطة قادرة كذلك على تحطيمه نفسيا واجتماعيا واقتصاديا دون معرفته. ومع تطور المستوى التقني للدولة، فإن ما بدا رمزيا الآن في الفيلم ربما لن يكون بعيدا جدا عن الواقع في المستقبل، لاسيما أن الاتجاه الحالي يركز على الذكاء الاصطناعي، إلى درجة أنه قد يمتلك سلطة القرار ويستطيع تحطيم حياة مواطن. ومع الوقت ستزداد قابلية السلطات على التجسس بشكل جذري، وتتجمع كل هذه المعلومات لدى الذكاء الاصطناعي، الذي ربما ستكون لديه سلطة لا يمكن تخيلها حاليا، تصل إلى إصدار الأوامر إلى مختلف أجهزة الدولة، دون الرجوع إلى أي شخص مهما كان عديم الأهمية، ودون معرفته، فالذكاء الاصطناعي يمتاز بالشمولية المطلقة ولا يسمح لأي احتمال للخطأ. ويجعل هذا السلطات بمنتهى السعادة وتزداد ثقة بقراراته. وسيستطيع الذكاء الاصطناعي السيطرة على تصرفات المواطنين وتعاملهم مع بعضهم بعضا، وتنظيمهم ضد شخص معين إن أراد ذلك، بسبب طاعة أجهزة الدولة من أشخاص ومعدات له. وستكون عملية التدقيق في صحة قرارات الذكاء الاصطناعي صعبة جدا، بسبب تشعب عمله، ما يجعله خارج قدرة البشر على التحقق من عمله، بالإضافة إلى الثقة المتزايدة التي تترسخ في أذهان المسؤولين في كفاءته. وبذلك ستكون ملحوظة صغيرة يتفوه بها المواطن كفيلة بإنهاء مستقبله والعيش طوال الحياة فاشلا اجتماعيا ومهنيا. ويعني هذا التحديد الشديد لقابلية المجتمع على الإبداع والتطور الفكري.
اعتمد الفيلم كذلك على أن «ترومان» شك في حقيقة عالمه، فقرر الثورة على الوضع القائم عن طريق خرق القيود المفروضة عليه، ما شكل خطرا على المنتج الذي يمثل السلطة، لأن مغادرة «ترومان» موقع التصوير تعني نهاية البرنامج، وبالتالي يضر بمصلحة المنتج، ولذلك حاول المنتج إيقاف «ترومان» بالقوة التي كادت أن تودي بحياته، ثم الإقناع حيث نسي المخرج أن الحياة مهما تكون جميلة، فإن طموح الإنسان يجعله يسعى إلى ما هو أفضل. لقد ركز الفيلم كذلك على جشع الشركات، إلى درجة استغلال المواطن بشكل مفرط، من أجل تحقيق أكبر الأرباح، فشركة برامج التلفزيون لا تستغل «ترومان» في البرنامج دون موافقته فحسب، بل تستغل البرنامج للإعلانات التجارية دون معرفته. وركز كذلك على سادية المشاهدين وهم يستمتعون بمشاهدة «ترومان» يتعرض للتلاعب به بشكل عديم الرحمة حتى أنهم يتراهنون حول فرص نجاته، أو موته، أثناء وجوده على متن القارب. وليس الممثلون أفضل من المشاهدين، فمن الواضح أنهم على استعداد للقيام بأي عمل غير أخلاقي لضمان أجورهم، وحتى تقديم خدمات جنسية لأن زوجة «ترومان» في الفيلم ممثلة دفعت لها مبالغ مالية لتتصرف مع «ترومان» كزوجة حقيقية تسعده في حياته.
هنالك تشابه بين قصة الفيلم وكتاب «يوتوبيا» الذي نشره الكاتب والسياسي البريطاني توماس مور عام 1516 عن مدينة في جزيرة لا يربطها بالبر سوى طريق واحد والحياة فيها تبدو مثالية، فالمنازل جميلة جدا والشوارع بالغة النظافة ولا وجود للجريمة. يعبر الفيلم كذلك عن قوة وسائل الإعلام على المجتمع وقابليتها على السيطرة عليه بشكل يجعل الفيلم شبيها بمفهوم فلسفي يدعى «كهف أفلاطون» حول مفهوم الناس عن محيطهم الذي يعيشون فيه نتيجة لوسائل الإعلام، دون أن يدركوا أن ما تعرضه وسائل الإعلام لا علاقة له بالواقع.
الفيلم والواقع الحالي
لا يمكن لقصة الفيلم بحذافيرها أن تحدث في عالمنا المعاصر، فلا توجد شركة أو حتى حكومة قادرة على ذلك. ولكن علماء النفس يعرفون جيدا أن الإنسان العادي يشعر أحيانا بأن هنالك من يراقبه. وينسبون هذا الشعور إلى قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم مشوق، لاسيما عن شخص تحت رقابة منظمة ما. ولكن هذا الشعور يتحول إلى مرض عقلي لدى البعض نتيجة لمرض مثل الشيزوفرينيا، أو إصابات في المخ، أو حتى صدمة نفسية. ويسمي بعض علماء النفس هذا المرض «وهم ترومان». من الغريب أن الحياة الواقعية تشابه الفيلم في تفاصيل مفاجئة، فالشوارع مليئة بالكاميرات وكذلك المصارف والشركات وأماكن أخرى. وتسجل هذه الكاميرات كل ما يقوم به المرء.
أما المراسلات الإلكترونية وعمليات البحث في الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، فمعرضة دائما للرقابة. وقد يكون الهاتف المحمول أحد أبسط الوسائل لمراقبة صاحبه، لأنه يفضح مكانه في أي لحظة وبالإمكان استعماله من قبل السلطات لتسجيل حديث صاحبه، ولكن هنالك أمثلة نادرة أقرب من ذلك إلى الفيلم، فمثلا قامت إحدى الصحافيات في الولايات المتحدة الأمريكية بانتقاد تنظيم ديني، ثم اكتشفت أن رجلا كانت على علاقة غرامية معه، لم يكن سوى جاسوس مرسل من قبل ذلك التنظيم لمراقبتها. وكمثال آخر اكتشفت إحدى النساء الثريات في ألمانيا أن رجلا أقامت علاقة معه كان جزءا من عصابة لابتزازها. ولا يمكن تجاهل مهنة المحقق الخاص الذي نراه في الأفلام الأمريكية، فهي ليست مجرد خرافة سينمائية، بل حقيقة واقعة، إذ يكلف شخص، أو شركة، أو حتى جهة حكومية المحقق الخاص لمعرفة تاريخ ومراقبة شخص أو جهة ما. والمضحك في الأمر أن أغلب زبائن هؤلاء المحققين الأزواج الذين يشكون بزوجاتهم أو العكس.
هل العالم أكذوبة؟
يبين الفيلم أن عالم «ترومان» عبارة عن أكذوبة، وعلى الرغم من استحالة حدوث ذلك في الحياة الواقعية، فإن هناك من قدم ذلك كاحتمال حقيقي، أذ قدم الفيلسوف السويدي نِك بوستروم Nick Bostrom، من جامعة أوكسفورد البريطانية، نظرية مفادها أننا لسنا بشرا حقيقيين، وأن كل ما في الكون ليس سوى محاكاة لجهاز كومبيوتر غير عادي تحت سيطرة حضارة من الفضاء أو أحفادنا في المستقبل. والغريب في الأمر أن هذه الفرضية الغريبة، لاقت تأييدا من قبل عدد صغير من العلماء، ومنهم مقدم البرامج العلمية الشهير نيل دغراس تايسن Neil deGrass Tyson.
في نهاية المطاف يُعَد فيلم «استعراض ترومان» فيلما جديرا بالمشاهدة والتأمل في الأفكار التي قدمها، على الرغم من أنه ليس فيلما جديدا.
*باحث ومؤرخ من العراق - القدس العربي