حوار: سعيد خطيبي
في روايته الأخيرة «الضحايا لا ينتقمون» يعود مصطفى الحمداوي إلى سنوات الرصاص في المغرب، وما تلاها من آثار على نفوس وأجساد الشخصيات. يتجول في مراكش، ويجول ببصره في الجوانب الخفية من هذه المدينة، التي تعج بالتاريخ والصدامات، يصور نسوة في مواجهة القسوة، وهزيمة الرجل الباحث عن مسالك الحب، الذي لم يفلت من فخ السياسة.
لماذا العودة إلى مراكش؟ هذه المدينة التي نالت أكثر من غيرها من مدن المغرب، من كتابات، كما صورت فيها أشرطة وأفلام. ألا يزال شيء لم يحك عن مراكش؟
مراكش مدينة استثنائية، إنها تعبر على نحو مدهش عن الغرب الإسلامي أو الشرق بأكمله مقابل الغرب بأكمله. وهذه الازدواجية تمنحها ميزات متعددة، أولها أنها مكان لتوليد وإنتاج الجمال والفن والأفكار. ومدينة كهذه لا يمكن أن تُستَهلك إبداعيا على الإطلاق، لأن مراكش تعبر عن نموذج وعن تاريخ وعن حضارة حية. وبالتالي الحديث عن استنزاف المدينة إبداعيا يتنافى مع جوهرها وقيمتها من جميع الجوانب، ولعل المدن العظيمة هي التي تتيح فرص استنباط القبح والجمال معا وبتوازن غير منحاز على الإطلاق، بل تجبرنا مثل هذه المدن على أن نكتب عنها بحيادية مطلقة.
في هذه الرواية، تبدو المرأة في أسوأ حالاتها.. مضطهدة في البيت وخارجه، كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟
لا أعتقد أن هذه هي القراءة الوحيدة التي تتيحها الرواية للقارئ، لأننا نجد في شخصية ليلى المنحدرة من واحة صحراوية، قوة شخصية مثيرة للإعجاب، بل وتمتلك قوة ردع بارعة. صحيح أن ليلى تورطت في سلوكيات غير أخلاقية، لكنها في النهاية فضلت الانسحاب بدل البقاء في حياة لم تنصفها. كما أن زوجة الجلاد ضابط الشرطة زروال اليعقوبي، ظلت طوال الرواية مهادنة وغير مبالية، لكنها انتقمت في النهاية بالطريقة الوحيدة المتاحة لها من ضابط المخابرات السرية، الذي قتل زوجها السابق قبل أن يستولي عليها بطريقة طافحة. في كل الأحوال، المرأة في رواية «الضحايا لا ينتقمون» هي امرأة تعكس واقع الحال في المجتمع المغربي، وأيضا في كل المجتمعات الشرقية. وبهذا الصدد لا بد من الإشارة إلى الظرفية التاريخية للأحداث، لا يمكننا أن ننتزع المرأة من زمنها النفسي والتاريخي، الذي ساهم على نحو مؤثر وقوي في ترجمة تصور عام حول المرأة، بالشكل الذي بدت عليه في أحداث الرواية. وكما هو واضح في كل كتاباتي، أنا ضد تقديس الأمكنة أو الشخوص أو الأزمنة، الكاتب يكتب وفق رؤية مستقلة ومتحررة، أو هكذا ينبغي على الأقل.
زروال اليعقوبي واحد من الشخصيات المفتاحية في الرواية، رجل أمن ينتهز موقعه في قضاء منافع شخصية.. هل (اليعقوبي) هو هذا الواقع المتأزم الذي يحول دون تحقيق الأفراد أحلامهم؟
الرواية تتناول مرحلة معينة من تاريخ المغرب الحديث، مرحلة اتسمت بتجاذب سياسي عنيف، وولدت هذه الحقبة ظواهر سيئة على جميع المستويات. ومن هذه الظواهر نجد شخصية زروال اليعقوبي، التي هي نتاج واقع عشناه بقسوة وبكثير من مظاهر الاضطهاد والعنف السياسي والاجتماعي. ولا أخفي عن القارئ أن مثل هذه السلوكيات مستمرة ومتواصلة إلى حد ما. لقد تم الحسم في كثير من الملفات المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات، من خلال إنشاء «هيئة الإنصاف والمصالحة» غير أننا نطمح لتحقيق عدالة أكثر، وحرية تعبير أكبر، ومساحة أوسع لممارسة سياسية ديمقراطية حقة. أما الحديث عن الأفراد وكون أن ضابطا أو جهازا أمنيا يقف أمام طموحاته، وأمام حريته الشخصية وممارسة أحلامه السياسية، فهذا الأمر قد يكون صحيحا إلى حد بعيد، غير أن هذا الاستنتاج القاطع سيكون مُبالغا فيه إذا ما تم التماهي معهُ، على نحو كلي.
كتب الكثير عن سنوات الرصاص، في المغرب، ما هو الجديد الذي تقدمه هذه الرواية؟
الرواية لا تدعي أنها تقدم جديدا مطلقا، لكنها تقترح بكل تأكيد قراءة جديدة ومن زوايا مختلفة للمآسي التي حدثت خلال سنوات الرصاص. وفي تقديري أن المهم بالنسبة لأي حدث كبير، ليس فقط إنتاجه أو إعادة إنتاجه روائيا، بل مدى قدرة الكاتب على تقديم وجهة نظر أخرى خاصة، ربما قد تربك بعض القناعات التي رسخت نفسها باعتبارها مفاهيم لا ينبغي المساس بها، ولا بتفاعلها مع السائد المتعارف عليه.
ما هي التأثيرات، التي لا تزال حاضرة في الأذهان، عن سنوات الرصاص؟
أنا لست عدميا. صحيح لم يتحقق تطور انعطافي فارق، لكن في المقابل تم التأسيس لثقافة الرفض وعدم الركون للأمر الواقع. ما يهمني أكثر هو النبض الحي للقوى الشعبية الفاعلة، وعلى رأسها مؤسسات المجتمع المدني، والحركات المستقلة المدافعة عن المرأة والطفل والنخب التي تدفع، شيئا فشيئا، في اتجاه تحول حاسم لأجل وطن حر وبعيد عن الهيمنة والاضطهاد والضغوطات الدينية وغير الدينية التي تكبل حركية تطور مجتمعاتنا. وهذه أشياء كلها تجعلني أحتفظ بالتفاؤل كاملا، حيث هناك جمعيات مستقلة ناضلت لأجل تعديل ما يسمى في المغرب «مدونة الأسرة» أي منح المرأة حقوقها وعدم المس بالحريات الخاصة بها، كما ألاحظ باستمرار سن قوانين تحمي، ولو جزئيا، الأطفال من كل أشكال الاستغلال. دعني ألخص فكرتي بأنني أقيس درجة تطور المجتمعات بدرجة سن وتطبيق القوانين التي تحمي بالخصوص المرأة والطفل.
في «الضحايا لا ينتقمون» يجد القارئ نفسه إزاء أكثر من رواية. حكايات تتشعب، ومسارات الشخصيات تتفارق ثم تتقاطع. كيف كتبتها؟
أنا من الكتاب الذين يؤمنون بأن كل رواية مستقلة بذاتها، وهي التي تفرض إيقاعها وطريقة كتابتها، بل تدفع الكاتب لتأجيل أو الاستمرار في كتابتها. وهنا أذكر أن ماركيز بدأ كتابة رائعته «خريف البطريرك» ثم توقف عن كتابتها لأسباب ما، وتفرغ بعدها لكتابة الرواية التي فاز بفضلها بجائزة نوبل للآداب، وأقصد هنا رواية «مئة عام من العزلة». وبعد مرور سنوات، أتم ماركيز كتابة رواية «خريف البطريرك» على نحو مدهش وبارع، لتصبح من أروع الروايات التي ألفها غابرييل غارسيا ماركيز. قد يكون ما حدث لماركيز مع رواية «خريف البطريرك» هو نفسه ما حدث لي مع رواية «الضحايا لا ينتقمون» لكن هناك حيثيات كثيرة لا يمكن التغاضي عنها، لقد كتبت رواية «الضحايا لا ينتقمون» على فترات متباعدة، والرواية عرفت تغيرات كثيرة من مرحلة إلى أخرى. أما عن كون أن أحداث الرواية متشعبة ومسارات الشخصيات تتفارق، ثم تتقاطع كما قلتم، فهذا لا علاقة له، حسب ظني، بكيفية كتابة الرواية، أو بالمدة الزمنية التي استغرقتها، كل ما في الأمر أن صيغة تركيب أحداث الرواية تنطوي على قدر من التجريب، الذي يخرج الرواية من نمط الواقعية الوفية لطرق السرد التقليدية، والخيط الناظم للأحداث، أعتقد أن الرواية متاحة للقارئ النخبوي ويمكن التعامل معها بسهولة وببساطة، لكنها قد تحتاج من قارئ عادي إلى بذل جهد إضافي، كي لا تنفلت من بين يديه الخيوط المتشعبة للحكي.
العنف يسيطر على هذه الرواية، هل هي قراءة جديدة لتاريخ المغرب من منظور المأساة؟
التاريخ كله ينطوي على قدر كبير أو قليل من المآسي، ورغم أني لم أكتب رواية تاريخية كما هو واضح، ولا يمكن بالمرة اعتبار رواية «الضحايا لا ينتقمون» رواية تاريخية، إلا أن هناك قدرا كبيرا من التاريخ تحمله هذه الرواية على كاهلها. ومن منظور إبداعي خالص يجب أن يُفهم على أن الكتابة لا تنتصر للكوميديا أو التراجيديا أو غير ذلك، لأن المشاعر الإنسانية معقدة لدرجة يصعب تفكيكها وإعادة تركيبها بالسهولة التي يمكن تخيلها، لأننا قد نجد المآسي حتى في الأعمال الكوميدية، والعكس صحيح أيضا. أما العنف بمختلف تمثلاته، فهو يسيطر على الحياة العامة والسياسية وله تمظهرات اجتماعية وغير ذلك. وبهذا المنظور أقول إن الرواية لا تُكتب لأجل شريحة معينة من الناس. الإبداع هو فعل إنساني يتماهى مع كل الظواهر والمظاهر المثيرة للأسئلة أو الأجوبة الحائرة التي تتفجر في مختلف المجتمعات الإنسانية، ودور الكاتب هو أن يساعد على طرح هذه الأسئلة أو الأجوبة الحائرة وتوسيع دائرة تلقيها. لن أشعر بقوة الكتابة وتأثيرها ما لم تشمل أكبر حيز إنساني ممكن. وكما يمكن إسقاط واقع وأحداث رواية «الضحايا لا ينتقمون» على الواقع السياسي المغربي، فإن هذا الإسقاط يظل قائما في أمكنة وحالات كثيرة من العالم. وفي المحصلة يمكن اعتبار أن هناك علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالواقع السياسي الحالي للمغرب في الرواية، غير أنني لا أستطيع تحديد هذه العلاقة بالدقة التي ينبغي، ربما يستطيع الناقد المختص أن يستنبط مثل هذه الاحتمالات ويرصدها بالآليات التي يتوفر عليها.