بيت جديد… حياة قديمة

2024-06-27

إبراهيم الزيدي

يقال إن كلمة (وطن) في بعض اللغات تعني بيت، ولا عجب أن يكون الوطن بيتاً، أو أن يكون البيت وطناً، وكلاهما ينبغي لنا أن لا ندفع ثمن إقامتنا فيه، وإلّا تحوّل إلى فندق. من المؤسف أن هذا قد حدث، ويحدث مع غالبية السوريين. ثمة كلمتان ورثت مداليلهما من الخوف في وقت مبكر: (لاجئ ونازح) وعشتهما مخدوعا بمقولة «الضربات التي لا تقتلك تجعلك أقوى»!

ها أنت في بيت جديد، وعليك أن تدفع ثمن إقامتك فيه. ها أنت تكتشفه، تتنقل فيه من غرفة إلى أخرى، تتفحص جرسه الذي لم تحفظ ملمسه أناملك بعد، طلاء الجدران، والأبواب التي يعوي في حركتها ذئب الصدأ. صنبور الماء، إطلالة النوافذ على الشوارع الغريبة. في زاوية الصالون ثمة تلفزيون أرهقته الأخبار السيئة، فشاخ باكرا، وبدا عليه الهرم. ثمة نبتة ذابلة في أصيص لم يذق ترابه طعم الماء منذ زمن بعيد. ثمة قميص مهترئ؛ ما زال معلقاً على مشجب الحمام، تركه المستأجر السابق كرسالة قديمة في صندوق بريدك الجديد، تخشى أن يطل على أحلامك كشبح، فتضعه في سلة المهملات. على أحد الجدران تتأرجح صورة طفل، تلاحق نظراته أجنحة طيور مهاجرة، فتتذكر إخوتك، وأصدقاءك الذين طارت بهم أجنحة الخوف إلى البلاد البعيدة، وتتساءل إن كان الخوف أحد أسماء الوطن؟ بيت جديد؛ تضع فيه حياتك القديمة.

تطوي عقد الإيجار وتضعه في جيب بنطالك الخلفي، قبل أن يسلمك مالك البيت المفتاح، ويغادر. على ما يبدو أنه تعب وهو يملأ فراغ الوقت بينك وبينه برسائل مبّطنة عن المستأجر السابق، وكيف أنه لم يتأخر في تسديد أجرة البيت، أو تسديد فواتير الماء والكهرباء، فتخلع عنك تلك اللهجة التي كنت تتحدث بها إليه، وترتدي لهجتك لتحدث بها نفسك. وكأن اللغة وطن، واللهجة بيت، وها أنت تعود إلى بيتك.

أن يضيع الإنسان في غابة أو صحراء أو مكان مجهول، قلما يحدث هذا، وحين يحدث، غالبا هناك من يبحث عنه، أما أولئك الضائعون في بلادهم، فلا أحد يدري بهم! بيت جديد تطلّ منه أحلام قديمة، آنذاك كانت اللاذقية قبلة الاصطياف لمن استطاع إليه سبيلا! كل شيء في اللاذقية كان يشبه ما يجب أن يكون، الطرقات، المدينة، البحر، تعامل الناس، إلا أن البحر يغفر لها كل ذلك.

بيت جديد لا تعرف أقدام أصدقائك الطريق إليه. تقف حائرا بين صمت الجدران التي تآكل طلاؤها، وغصة تلازم حنجرتك، وأنت تنظر بأم العين إلى طرقات الأمل غير السالكة بسبب تراكم الخيبات. يقول فريدريك نيتشه: في العزلة يأكل المرء نفسه وفي الزحام يلتهمه الآخرون.

تتسرب رائحة قهوة من أحد البيوت المجاورة، فتتخيل امرأة ينحسر ثوبها عن قصة حب، فتضع راحة يدك على صدرك، تتحسس قلبك فرحا بتلك النبضات التي تسارعت. يا لروعة الخيال، ويا لوجع الأفراح الغائبة.

يقول أحد الشعراء: إن اختراع القبلة أصعب من اختراع الشفتين، وها أنت تخترع قصة حب لامرأة لا تعرفها، وقد لا تكون موجودة!

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي