
رشيد المومني*
لا تخلو علاقتنا بمفهوم الحرية من ذلك التوتر الدلالي، الناتج عن إلحاحها على التسرب إلى خطاباتنا، كلما انعطف بنا الحديث إلى مجال توصيف واقع الذات العربية. وأعني به ذلك المنعطف القاسي، الذي يروق فيه للهوية أن تتسلح بكامل غوايتها، كي تتمكن من احتلال مركز الخطاب، مستمتعة بتفجير ما أمكن من بياضاته وفراغاته. إنها وبامتياز، ذلك الكائن المتعدد الرؤوس، والخبير بلعبة تموضعه العشوائي، سواء داخل الدائرة المغلقة، التي تتمترس داخلها الذات العربية أو خارجها بأشلائها المتناثرة بين فضاءات التراث والحداثة، كي تظل في أمس الحاجة إلى دعم «الهوية»، علّها تقوى ولو إلى حين، على استعادة ما تقدم أو تأخر من أنفاسها.
تلك هي الوضعية الطبيعية والنشاز في الآن ذاته، التي يتمظهر فيها مفهوم الهوية. فما من بنية مجتمعية تحتاج إلى توصيف معين، إلا وتكون معنية بالبحث في جرابها عن الإواليات، الكفيلة بإنجاز هذه المهمة الصعبة، بصرف النظر عن مرجعيتها الموظفة في ذلك. من هذا المنطلق تحديدا، تصبح مجموع القيم التراثية الموثقة، قديما وحديثا في مدونة الهوية، جاهزة لإسقاطها على الذات المجتمعية المعنية بالتوصيف، من دون أن تكون مطالبة بأي تدقيق أو مراجعة. إنها القيم التي تلوذ بها الذات العربية، في أزمنة أفولها، من أجل ممارسة حقها في الوجود، ضدا على افتقارها المأساوي للحد الأدنى من شروط هذا الحق. وهو الإشكال المؤرق، والأكثر إلحاحا. إشكالُ ذاتٍ مطالبة بتحديد موقعها الغامض في قلب جغرافية كونية محكومة بقانون القوة والغلبة، التي لا مكان فيها مطلقا لشعوب متلاشية، تستمد شرط قوتها ووجودها، من معجمها اللغوي المثقل بكل التوصيفات اللازمنية، المستعصية على أي إمكانية محتملة للتحيين والتعيين، خاصة حينما تكون مستوحاة من قانون الوحدة المتعالية، المجسدة على سبيل المثال لا الحصر، في نسق وِحَدات معجمية مغلقة على دلالتها، من قبيل وحدة التراث /وحدة اللغة /وحدة العقيدة، ووحدة السلوك والعادات، إلى غيرها من الوحدات، التي لا تتقبل بنيتها المفردة، أي محاولة «مبيتة!» لمنطق التقسيم المفضي لا محالة، لخطر صاعق و»دخيل» من مخاطر التعدد، ومهالك التنوع!
وبالنظر لمرجعيتها المتعالية، فإنها تقع خارج طائلة النقد والمساءلة، ومستعصية على أي اجتراح تفكيكي، من شأنه الكشف عن قوانين الاختلاف والتنوع الكامنة في دواخلها. ولأنها كذلك، فسيكون من الطبيعي أن تصطدم بقيم الحداثة التي تستمد شرعيتها وصلاحيتها من راهنية اللحظة، ومن واقع تفاعلاتها الاجتماعية والحضارية، بكل ما تعنيه الكلمة من تداخل وتقاطع المنجز الثقافي، مع المنجز التقني والاقتصادي والسياسي. لذا فإن الحلقة المفقودة في السياق الذي نحن بصدده، والتي نعتبرها بحق، بمثابة الحجر الأساس الجدير بالتناول، تكمن عمليا في افتقار العالم العربي إلى مقومات العلاقة التفاعلية التي تصل شرائحه المجتمعية بالمفهوم الحضاري للهوية، خاصة منها الأطر المسؤولة، على التدبير القطاعي للمؤسسات. علما بأن توافر شرط هذه العلاقة جد حتمي كما هو الشأن بالنسبة للشعوب المتقدمة، والمتميزة بمكانتها البارزة في واجهة المنتظم الدولي، حيث يتحقق ذلك التوازن المطلوب بين المنجز الحضاري، والرؤية الفكرية والنظرية لمفهوم الهوية، وطبعا على خلفية الحضور الوازن والجدلي في حركية الحياة العامة، الذي يفترض في الشرائح المجتمعية أن تتمتع به، والمعبر عنه بنضج منجزها الجماعي، المؤطر بوعي معرفي وثقافي، مسكون باستشراف آفاقه المستقبلية.
فالهوية هنا، ومن منظور الشراكة المهيكَلة، القائمة بين مؤسسات الدولة، وشرائحها المجتمعية كافة، الواعية بمسؤولياتها، تتشكل على أساس المردودية المادية والملموسة، التي هي خلاصة مساهمةٍ جماعية في مشاريع البرمجة والتخطيط والإنجاز، بمعنى، أن القيم هنا توضع على محك الممارسة الجماعية الخلاقة، بدل أن تكون مجرد استيهامات مستلهمة من تمثلات بائدة عفا عليها الزمن، لذا، فإن مشاعية المعرفة القطاعية، الفاعلة في النهوض النوعي بأساليب الحياة، هي السند المركزي لتبلور قيم الهوية، باعتبار أنها تكون مشبعة بروح الحوار الديمقراطي، الذي ينتزعها من دوائر القرار المغلقة والضيقة، كي يضعها مباشرة على محك النقاشات المتخصصة والمعممة على السواء. يتعلق الأمر هنا بالتقاليد الديمقراطية التي تعترف بحق الآخر في امتلاك معرفته الخاصة والذاتية بوجوده، كما في علاقته بمحيطه، حيث يضفي التداول العادل والمسؤول للمعرفة، نوعا من العقلانية التدبيرية على مجريات الحياة العامة، إنها تتحول إلى ثقافة وإلى مسلكية حضارية، تساهم في تخليق مقومات الرأي العام، بما يساهم في بناء شخصية مجتمعية واعية بحدود اشتغال مقالها ومقاماتها.
هكذا تتعدد وتتنوع منابر القول ونقيضه، متسعة بما فيه الكفاية، لاستيعاب قوانين الاختلاف والائتلاف، التي تنبجس من تضاعيفها الحقائق الجديرة بالتبني أو التجاوز، ذلك أن تلقي معلومة معززة بصدقية مصدرها ووظيفتها وغايتها، يتحول إلى طقس يومي، يتعذر على الأفراد والجماعات التفريط فيه والاستغناء عنه، إنه يتحول إلى حدَثٍ، إلى ممارسة، وإلى مادة حيوية تنعش العقل والروح، إنعاشها لفعل الكلام، وفعل الحوار.
ضمن هذا الأفق، يأخذ الحديث عن الهوية مساره الموضوعي والحقيقي، بوصفه حديثا مشروطا بقيم الراهن، المنفتح على أفقه الثقافي والحضاري، قدر انفتاحه على الطاقات المعرفية، الكفيلة بإثراء حمولته الوظيفية والغائية. إنه الأفق الذي لا تستقيم معه مطلقا أوهام التغني ببؤس الهويات المعطوبة والسعيدة، دونما كلل باستجابتها العمياء لنداءات لازمنية، لا يرجى منها أي انتظارات تذكر. كما إنه الأفق الهوياتي المضاد، المكرس جملة وتفصيلا، لتدبير رهاناته الكونية، في خضم تنافسية متعاظمة لا مكان فيها للتأجيل والتسويف. وأيضا ضمن سياق هذا التوصيف، يمكن الإشارة المقتضبة إلى الوضعية المتردية والميؤوس منها، التي يوجد عليها واقع الذات العربية، حيث لا حق للمواطن في حيازة أي معرفة، تخص تدبير الشأن العام للجغرافية التي ينتمي إليها. بما يعنيه ذلك من فقدانه الحق في المشاركة والتقاسم وإبداء الرأي. وهو الواقع الذي ينعدم فيه الأفق الهوياتي بالمعنى الحداثي والعملي للكلمة، كي يتسع بذلك المجال للحنين المرضِيِّ إلى قيم متخيلة يُعتقد أنها متجذرة في تربة ذاكرتنا.
أيضا، هو بهذا المعنى واقع لا تُغري وضعيته الملتبسة بالإنصات أو بالكلام، ولا تحفز الذات على التطلع إلى الاندماج في بناء أنساق، واستحداث وقائع، أو صياغة خطابات، وذلك هو مصدر الفراغ الكبير الذي يحيق بإيقاع الذات، ليَحُول بينها وبين تحقيق أي توازن محتمل، سواء في حياتها الخاصة أو العامة، ما يرجِّح اشتغال كفة الإكراه التي تمسك الصدف المبيتة بزمامها، وتهيمن عليها سلطة الأقدار، التي تتحكم دواليبها في تحريك خيوطها من وراء حجاب.
والغريب في الأمر، وبموازاة ذلك، فإن هذا الواقع يأخذ منْحىً سحريا، يجد فيه كل من المخيال الشعري والسردي، ضالتهما المتفردة، حيث الشطح التخييلي لا يحتاج إلى كبير عناء، من أجل اقتناص ما طاب له من عجائبية القول والتصوير، احتفاء بطرائف هويات تُدمِن ولاءها اللامشروط لأرواح، أبدا لم تحظ بالإقامة في أجسادها.
*شاعر من المغرب