أحمد البرهو
تمثّل الحقيقة المقولة الجوهريّة التي تتعلّق بها الأفكار التّالية عن الكون والإنسان، إلا أن مفهوم «الحقيقة» قد يتغيّر- يتحوّل بين حِقبة وأخرى حسب مركز تفسيرها:
1- فالحقيقة كانت «مطلقة» ومركزها «الإله» في القرون الوسطى.
2- الحقيقة علميّة، ومركزها العقل خلال الحِقبة الحداثيّة.
3- في الحقبة المعاصرة، حيث لا مركز لتفسير الحقيقة، ظهرت نزعة لمقاربتها في الظاهرة ونظامها، وصولا إلى «اللغة والنص» الذي يحتوي على الحقيقة/ المعنى من خلال إحالته – إرجاعه إلى نص آخر باستمرار، عبر آليّات التفكيك من إرجاء واختلاف، ونقد الخطاب، الآليّات الحاضرة باستفاضة في منهج عمر كوش في مؤلّفه.
في بداية تسعينيّات القرن الفائت كتب عمر كوش مؤلّفه «الإمبراطوريّة الجديدة؛ تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق» ورصد في مؤلّفه حقبة تحوّل عالمي لمفاهيم الحق والسّلطة، بعد حدث تفجير برجي التجارة العالميّة ومبان أمريكية أخرى في 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، وقراءة أمريكا للحدث، ثم تعميم قراءتها ومفاهيمها – كامبراطوريّة جديدة- على العالم، لخلق إجماع على معاييرها ومحو الاختلاف. ولدراسة مفهوم الإمبراطوريّة عاد المؤلّف إلى الإمبراطورية الرومانية فلاحظ «توحد المقولات الحقوقية، والقيم الأخلاقية الكونية، في سياق عمليات توظيفها واستثمارها» وقارن بين تلك النزعة الإمبراطورية ونزعة امبراطورية معاصرة تستهدف «التحكم بمصائر البشر والأسواق وتفاعلاتها، من خلال سلطة حيوية تسعى إلى التحكم بالطبيعة الإنسانية.» ولاحظ أنّ مفهوم «الإرهاب» مثلا؛ لم يعد معناه: معاداة المصالح الأمريكيّة فحسب؛ إنما: معاداة القيم الأمريكية التي هي قيم عالمية بالضرورة! فاستعادت هذه الإمبراطورية الجديدة مفهوم «الحرب العادلة» المفهوم الذي يشير إلى توحّد المقولات الحقوقية، والقيم الأخلاقية؛ الأمر الذي كانت الحداثة قد عالجته سابقاً، حسب كوش.
إذن الحق السياسي بالنسبة للإمبراطورية الجديدة أخذ بعداً أنطولوجياً، في حين لاحظ المؤلف «عدم قابلية القيم الجديدة للقياس والإحالة والإرجاع «، وهنا يكمن استعصاء الهيمنة، حسب المؤلّف، فيتحسّس المؤلّف أدوات الهيمنة الإمبراطورية – في سياق عولمي – على المستويات: التكنولوجية والسياسية والثقافية، والاقتصادية، والإعلام، وأثر تلك الهيمنة في بعث الوعي الإمبراطوري المضادة متمثلا بالنزعة الهوياتية والإسلام السياسي.
ثمّة تغاير في المفاهيم على مستوى عالمي خلال فترة انتقاليّة بين نظامين عالميين، وعمر كوش رصد في مؤلّفه ذلك التغاير بعد 11 سبتمبر، حيث وصل التغاير إلى خطاب النهايات: «نهاية التنوير، نهاية المثقف، نهاية الفلسفة، إلخ» حتى ليبدو العالم بين أصوليتين تتصارعان حول القيم، ما يعكس تحولاً حقيقياً في الخطاب الفلسفي المعاصر من مملكة الذات المتمركزة حول ذاتها – في الحقبة الحداثيّة – إلى مملكة الفرد الذي لا يقر إلا بحريته الشمولية التي لا تخضع لأي تحديدات منهجية أو مفهومية، فيتم إيهامها بالاستقلال الذاتي للفرد والمسؤولية وغيرها؛ في ظل هيمنة النزعة الأداتية لصالح قوى السيطرة والنفوذ، وفي ظل سيادة خطاب لا مدلولات محددة تنتفي الحدود الفاصلة بين الحقيقي والزائف، أو بين الواقعي وما فوق الواقعي، كذلك يخفي عمليات التلاعب بالعقول، من أجل دفع المجتمع إلى أقصى درجات الاستهلاك» حسب المؤلّف.
وعن سؤال الهويّة، ووهم التمايز بين الأنا والآخر المُتخيّل يقترح عمر كوش الحل عبر ما يسميّه: «المقام- الناظم القديم- المنطق- صورة الفكر» بحيث تربط تلك المفاهيم الإشكالية، ذاتية الإحالة، وتجعلها ذات أس وقاعدة، ولعلّ المؤلّف هنا يطرح التركيب بعد التفكيك. ولعلّ تجاذبين اثنين لا يزالان ينازعان ذات المؤلِّف، أثناء معالجاته:
– مرّة إلى البحث عن مفاهيم كونيّة -غير ذاتية الإحالة- لمقاومة وهم التمايز والتمركز حول الذّات.
– ومرّة إلى: مفاهيم «نحن الشرقيّة» و»المقام الذي يعكس صورة فكره» كوسيلة مقاومة؛ ويحاول المؤلّف – بشجاعة – المساهمة في بعث خطاب هذه الذّات ومنطقها، لكنّ ذلك في النّهاية انزلاق في «فخ الهويّة» وممارسة السّلطة، ونحن لا نلوم المؤلّف إذ نحاول ملاحظة ذلك.
عن العلاقة بين المجتمع المدني والدولة: يعتقد كوش أن «الدولة» مفهوم لم يتأرضن في البلاد العربيّة، فبدت الدولة عبارة عن أجهزة وسلطة تديرهما النخب العسكريّة والبيروقراطية، دون مجتمع مدني، لذلك يعالج المؤلِّف في كتابه مفهوم «المجتمع المدني» ويراه مرتبطاً بالحداثة الغربية، ويعتقد أن نشأته العربية، جرت في فترة التلاقي مع الغرب الحديث كجمعيات وأحزاب، أنشأها مثقفون، لكنّها -المدنية – «لم تتغلغل في النسيج الاجتماعي العام» كما يقول كوش، ثمّ اصطدمت محاولات العمل المدني، بعد الاستقلال، بالأصولية؛ فتولّت «الدولة – السلطة» مهمّة إسكات الجميع!
وفي مسعاه لـ«أقلمة مفهوم الدولة» يؤكّد أنّ «المجتمع المدني» مفهوم لا تنتجه السياسة؛ إنّما الممارسة الاجتماعية الديمقراطية، ويلاحظ أن مفهوم «المواطنة» بات يُستخدم – في تسعينيات القرن الفائت- للدلالة على «نزع الشرعيّة المطلقة والميتافيزيقيّة للسلطة الحاكمة، وفي ظل التحكم الشامل ظهر احتقان اجتماعي ومواجهة ضدية بين المجتمع ومؤسسات الدولة، كونها أنتجت حالة من تغييب السلطة المدنيّة الوسيطة، واستبدالها بالولاءات العشائريّة والعصبية؛ ويؤكد لاحقاً أهمية «إحياء المجتمع المدني كي يكون للمواطن الحق في مواطنته والحق في الحرية وإبداء الرأي وممارسة الديمقراطيّة». لكننا في المقابل سندّعي أن محدودية المساحة الورقية قد تكون دفعت المؤلّف – دون قصد- إلى استخدام المصطلحات: «الليبرالية- الديمقراطية الليبرالية، الرأسمالية، العولمة في سياقات واحدة، باعتبار أنّها «هي هو» على حد وصف المثل النحوي في الفرق بين لسعة العقرب والزنبور، ولعلّ أكثر السياقات التي كان من حقّ المؤلّف أن يفصل في ما بينها كان: التمييز بين الليبرالية الديمقراطية الغربية بوصفها نهاية التاريخ، والتي تحاول الإمبراطورية الجديدة فرض مفاهيمها، والليبراليّة كتجربة ممكنة لإنتاج مجتمع مدني محلّي، ولعلّنا نوافق عمر كوش – وهو صاحب السبق في أرضنة المفهوم- في أنّ مفهوم المدنية بالمعنى الحداثي ورد إلينا من الغرب، ونتفق معه حول وجوب أرضنة المفاهيم الكبرى: كالدولة والوطن والمدنية، ما يعني في رأينا: أن ننتج تلك المفاهيم عبر تجربة ليبراليّة محلية.
وفيما تدعو الليبرالية – كتجربة لا تزال ممكنة – إلى بناء المجتمع المدني في ضوء تمثّل «الفرد» لقيمتي «الحرية والمساواة» وتعلن بوضوح عن إعادة «السلطة» إلى الأفراد ليعيدوا إصلاح المشهد؛ فإنّ عمر كوش يدعو إلى «الناس المتساوين الأحرار» وإلى تبنّي العلاقة التعاقدية بين المواطنين والدولة، واحترام الاختلاف وحقوق الفرد وحرية لتعبير، وحراك النخب لأقلمة المفاهيم، والوصول إلى القناعة بضرورة الحوار والمنافسة على أسس يتوافق عليها المواطنون الأحرار» ويستنهض دور المثقفين في «رسم صورة الفكر الجديد، وهذا ما يمكن أن نسميه في رأينا: «الدعوة إلى إنتاج ليبرالية محلية» لكن المؤلف -الذي دعانا إلى مائدة الحكمة- قلق تجاه أمرين:
الأوّل: حرية الفرد في ظل المفاهيم غير ذات الدلالة، أو ذاتية الدلالة.
والثاني: مصطلح الليبرالية المحلية: كتوجّه صريح يمكن أن يضع «السلطة» في إطارها الشرعي فلا تبدو السلطة التي تمارسها الدولة الاشتراكية والديمقراطية الليبرالية، في البلدان المختلفة، نمطاً واحِداً.
بين تفكيك مفاهيم إمبراطورية الهيمنة، ومقاومة الذوبان عبر تركيب مفاهيم محلية جاءت صفحات «الإمبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق» لعمر كوش، لتجسّد مساهمة شجاعة تجشّمها عمر في تسعينيات القرن الفائت، ويمكن ملامسة الجهد الاستشرافي للمؤلف حالما حاولنا المقارنة بين مشكلاتنا – نحن السوريين- اليوم، وطروحات عمر كوش في بداية تسعينيات القرن الفائت؛ زمن إصدار النسخة الأولى من الكتاب الذي أعاد المؤلّف إصداره مؤخراً.
كاتب سوري