«أكدز الصفحة الأخيرة»: رحلة في مغرب مطلع الألفية بين الماضي والحداثة

2024-06-24

بوشعيب الساوري

صدرت عن منشورات الكراس المتوحد في مراكش (2024) ترجمة جديدة للباحث والمترجم المغربي المبارك الغروسي باقتداره المعهود، يتعلق الأمر برواية «أكدز الصفحة الأخيرة» الصادرة في نسختها الفرنسية عن منشورات ميو في بروكسل سنة 2022، للكاتب البلجيكي دانييل سوال الذي سبق له أن اشتغل دبلوماسيا في المغرب، ما بين 2004 و2008، وتعد هذه هي الرواية الثامنة في مساره الروائي، الذي تجري جل عوالمه في المغرب وتونس.

تؤكد قراءة الرواية أن صاحبها استفاد من مقامه في المغرب، الذي مكّنه من معرفة الوضعية السياسية والاجتماعية والثقافية للمغرب في مطلع الألفية الثالثة، وهي الفترة التي تولّى فيها الكاتب مهمة ملحق ثقافي بلجيكي في الرباط، وقد وجد في الرواية الجنس الأدبي الأقدر على التعبير عن ذلك.

وبالفعل فرواية «أكدز الصفحة الأخيرة» تبدو لنا عبارة عن مجموعة من النوافذ مكّنت الكاتب من إطلالات متأنية في المغرب المعاصر الذي يشهد مواجهة مستمرة بين تشبثه بماضيه وتطلّعه للحداثة، وما يترتب عنه من توترات. وتأتى ذلك للكاتب من داخل مجموعة من اللقاءات في ندوات واحتفالات وعروض فنية، يوجّهها تحقيق تكلّف به سارد الرواية جان في قتل غامض لخبير للأمم المتحدة في المغرب هو السيد يوهانيس، الذي عُثر عليه مقتولاً في فيلته في حي الرياض في الرباط بعد أن تعرّض للتعذيب الجسدي. تتسرع السلطات في استنتاج أن الجريمة ارتكبها متسللون، ربما مدمنو مخدرات، ليكتشف في الأخير أنه من المرجح أن القتل كان على يد شخص يدعى فنيد بأمر من القائد ميرموز زعيم جمعية الغوث المستور الذي يكره ذوي النزوع الإنساني مثل الضحية يوهانيس.

وتنتشر الفرضيات التي تسلّط الضوء على موقف الضحية التقدمي، كمدافع متحمس عن حقوق الإنسان والتنوع الثقافي، وهو موقف يُنظر إليه على أنه جرّيء في وقت يضيّق فيه الخناق على كل من سعى في هذا المسار. وللنجاح في مهمته اقترب الكاتب من عائشة المناضلة الصحافية التي كانت مقربة من الضحية يوهانيس، وبتوجيه منها (فقد كانت بمثابة دليل له) ينطلق السارد جان وبتكتم في رحلة تأخذه إلى عدة مدن في المغرب: الرباط، الدار البيضاء، بوزنيقة، طنجة، أصيلة الحسيمة، مراكش، ورزازات… يلتقي فيها بمجموعة من الأشخاص الذين كانوا على صلة بيوهانيس كطبيبه مراد، من خلال حضور استقبالات رسمية، لوزراء يغلقون الاجتماعات لإخماد أي أصوات معارضة، وفي حفلات خاصة. وسرعان ما ينغمس أيضا في تجمعات أكثر تلوينا، مثل تجمع «جمعية الغوث المستور» المكونة من مغتربين وأثرياء مغاربة، وتتكون من أفراد ذوي حساسيات متنوعة وآراء سياسية غير محددة المعالم، وهي مجموعة نخبوية ومحافظة وذات مواقف رجعية مستعدة لفتح أبوابها له. ويحضر أيضا تجمعات نقيضة لهذه الجمعية، تضم مثقفين وفنانين وأكاديميين ملتزمين بالنضال ومتطلعين إلى الحداثة والديمقراطية وتضم شبكة كاملة من المتطوعين يقدمون العون والمساعدة لمن هم في حاجة إليها مثل المهاجرين الأفارقة. وقد حرص الكاتب على وضع اليد على التناقض الصارخ بين هذين العالمين، وعبّر من خلال سارده جان عن تعاطفه مع الثاني وانجذب إليه، حيث وجد أيضا الألفة وحرية التعبير والفكر التي تتناسب مع قناعاته.

تسمح هذه الرحلات للسارد جان باكتشاف المجتمع المغربي المضطرب من الداخل، والتوقعات العالية لشباب غير صبور، وإغراء المنفى الرهيب، وتفاقم التوترات الناجمة عن الظلم المتزايد. ناهيك عن الفجوة الآخذة في الاتساع بين التقاليد الراسخة والحياة العصرية، وما يترتب عنها من توترات حين يتعلق الأمر باتخاذ قرار سياسي له انعكاسات سياسية وثقافية على المجتمع المغربي مثل، الجدل الذي سبق ميلاد مدونة الأسرة الحالية. كما سمحت له رحلة التحقيق في مقتل يوهانيس بلقاء بعض المهاجرين السريين والاستماع إلى محكياتهم الكاشفة عن نشأتهم، وكيف قادتهم رغباتهم إلى الهجرة، والأمر نفسه يتحقق بالنسبة للمعتقلين السابقين الذين كان يوهانيس على صلة بهم، إذ يفسح السارد المجال لكثير من محكياتهم ولا سيما معتقلي سجن أكدز. كما تكشف هذه الرحلة عن الثراء الثقافي المتعدد للمغرب، وعن بصمة الاستعمار، وعن ارتباطه المتناقض مع استخدام اللغة الفرنسية. وفي كل مكان، وبلا قيد أو شرط، يتمتع السارد بدفء وكرم يرقى إلى مستوى سمعة البلاد. مع مرور الأيام، ينصهر جان في يوهانيس تدريجياً ويتماهى معه، كلما نبش لمعرفة المزيد عن شخصه ومحيطه، يقول السارد: «إنه أنا، وإنني هو. كنا متشابهين على عدة مستويات، بما في ذلك مشاعرنا تجاه عائشة». وهو الأمر الذي أكدته له مجموعة من الأشخاص الذين سبق لهم أنه التقوا بيوهانيس.

ترافق الملحق الثقافي البلجيكي عائشة، وهي صحافية ومترجمة، كانت هي الأخرى قريبة من الرجل المفقود، يلمح جان أيضاً، على طول مسار رحلاتهما، إلى أنه منجذب إلى صفات عائشة، سواء الإنسانية أو الجسدية. وهكذا يبدأ لقاؤهما على المستوى الحسي عندما يميل جان إلى عائشة لالتقاط ترجمتها لخطاب أحد الوزراء. ويكشف السارد أن يوهانيس كان «معروفا بأنه مدافع قوي عن التنوع». وكان يعتقد أن «شعوب الجنوب يجب أن تشارك في الثقافة العالمية بتراثها الخاص». وكان يعمل أيضا «على تعويض السجناء السياسيين الذين سُجنوا في ظل الحكم السابق». وهو ما كان يضاعف عدد الأشخاص الذين لم يشاركوه آراءه ونقموا عليه فكانت لهم مصلحة في اختفائه. وفي سياق تحقيقه، يشعر جان، الذي نادراً ما يُذكر اسمه، بالتواطؤ أكثر فأكثر مع الضحية المقتول.

يأخذنا الروائي دانيال سوال في رحلة استكشافية إلى المغرب بعيدا عن المسار السياحي المألوف، حيث تملأ الألوان والروائح كل صفحة بأحاسيس ممتعة. يتأرجح التحقيق بين الجريمة السياسية والقاتل العابر، لكن في اتجاه سجن أكدز القديم سيكتشف جان الحقيقة، دون أن يتمكن القارئ من توقعها. قادت السارد في رحلته إلى خمس محطات عبر البلاد، من الرباط إلى ورزازات حيث كان يوجد سجن أكدز، حيث قابل مجموعة من الأشخاص الذين كانوا على صلة بيوهانيس. ومع استمرار تجواله وازدياد مشاعره تجاه عائشة، سيشعر بأنه يقترب أكثر فأكثر من يوهانيس، ويتماهى معه ويكاد يستعيد رحلته، وهذا يستشعره السارد وأيضا ما يؤكده الأشخاص الذين كانوا على معرفة بالضحية.

هكذا يضعنا دانييل سوال من خلال سارده جان في قلب مغرب مطلع الألفية الثالثة، السياسي والديني والثقافي، وما يشهده من قضايا كالأصولية الدينية والهجرة السرية وجبر ضرر المعتقلين السابقين ومخلفات زلزال الحسيمة.. وهو الوضع الذي ما يزال مستمرا إلى مغرب اليوم الذي يعيش الترنح بين التشبث بالأصالة والمعاصرة؛ الأمر الذي يصعّب عليه التموقع في علاقته بالعالم الغربي، والذي تنعكس أيديولوجيته على مستوى الواقع في ما عبرت عنه عائشة بآفتي الاستبداد الحداثوي والتعصب الديني.

كاتب مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي