حسن داوود
من بين كومة ألعاب مجموعة في سلّة أنزلق هذا الحصان. هو أبيض وصغير في حجم إصبع، لكنه مع ذلك حصان حقيقي. ربما صهيله هو الذي جعله كذلك، صهيله الذي لم يكن ليُسمع لولا أنه كان في ذلك القرب إلى حد أن قدم الرجل العابر كادت تدوسه وهو يسير بين فراغات الحشائش القصيرة؛ لولا لجامه الدقيق وحوافره التي بدا أنها تؤلمه. وهو ازداد واقعية، وحقيقية بعد أن رفع إحدى قائمتيه الخلفيّتين وأطلق خيط بول ساخن تصاعد معه البخار، قليلا مثل ضبابة صغيرة، من الأرض الترابية. ورغم أن مؤخّرته قذفت بعد ذلك قطع روث نفّاذة الرائحة، إلا أنه ظلّ جميلا، بل وفاتنا يرغب من يتخيّله بأن يبسط كفّه على وبر كفله وظهره ناسيا أنهما صغيران. ثم تلك النظرة التي يتطلع بها من بين الحشائش، واقترابه بعد ذلك من ناظره بالطريقة ذاتها التي يدعو بها فرسٌ صاحبَه إلى أن يمتطيه.
هو حصان طارق إمام، الكاتب الشغوف بإرجاع الأشياء والكائنات إلى أحجام أصغر، إلى حدّ أنه انشغل، في رواية سابقة له، ببسط مدينة على سطح طاولة. وهنا، مع حصانه الذي رأيته أبيض (مع أن طارق لم يعطه لونا) فقد نُفثت في الفرس- اللعبة روح حقيقية، صغيرة في حجمه، لكنها كافية لكي يُشاهد الحصان وهو يقفز ويبول لكن دون أن يغادر كونه لعبة.
أرجعني طارق إمام طفلا مفتونا بحصان أبيض صغير، أنا الخائف من أن أكون واحدا من بين أولئك الكبار الذين يفسدون القبلات بين اثنين لاذا مختبئين، كي لا يراهما الجميع، لتبادل القبلات. ولنذهب إلى مرارة أكثر قسوة نقرأ السؤال: «لماذا يُخفي العجائزُ النوافذَ متلصّصين من خلف الستائر؟» ثم نقرأ الجواب الذي هو: «يراقبون الزدون أن يراهم». وهم يفعلون ما يساوي ذلك حينا، في مقطوعات الهايكو التي يحتويها فصل من الكتاب، نقرأ التالي:
«كلٌّ كرة طائشة في لعب الأطفال
يشقّها عجوز ما
بحثا عن كُرَتِهِ»
إنهم يقشّرون غلاف الكرة لكي يصلوا إلى كرتهم التي خُبِّئت في الأسفل. ذلك الزمن الذي مضى ما زال ممكنا العثور عليه عبر إزالة القشرة التي تعلوه، أو تكوّنت فوقه. وعلى الرغم من أن القصص والقصائد منفردة كل منها عن سواها إلا أننا، في ما نقرأها متتابعة، تحملنا تلك الاستعارة إلى قصة أخرى في مكان آخر حيث تتسع الكرة لتصير ما نسمّيه الكرة الأرضية.
إنهم، هم العجائز، مختبئون من أنفسهم فيما هم يتفرّجون على ما لن يصلهم منه إلا القليل. وهم أيضا، بقوة أو بعناد باقيين فيهم يسعون إلى نفض الجلدة البرانية، بالصعوبة التي تحتاجها إزالة ثلاثين أو أربعين سنة من عمر الأرض.
في القصص التي يضمها الكتاب هناك دائما طريق مهيّئة للوصول إلى الذروة. لكن، مع ذلك، قد تبدأ نصوص أخرى من الذروة، أعني من الجملة الأولى كمثل أن نقرأ «كان يمشي إلى الخلف. هذه طريقته ليتذكّر». بذلك لا يكون فقط غير راغب في أن يكمل خطوه إلى الأمام، بل يريد أن يرجع القهقرى إلى ما كان عاشه في الماضي، جسدا وذاكرة، حضورا ومتخيّل الحضور معا. لكنْ هناك لا بدّ شيء أبعد من ذلك يصعب تحديده أو تعيينه. أقصد أننا، إذ نسرّ لالتقاطنا المعنى المنبثق فجأة من الاستعارة، إنما نكون مندهشين بذلك الشيء الذي لم نستطيع أن ندرك مفارقته كاملة.
أما تلك المقاعد، سواء على جانبي الطرق أو في الحدائق:
«المقاعد الخالية، ليست مهجورة
كلما جلس شخصٌ
اصطدم بجالس»
على تلك المقاعد لا يقوم جالس إلا ليحل مكانه واحد، وهذا الأخير لن ينتهي حضوره بقيامه، بل سيظل طيفه، بل أثره، حاضرا. هكذا مثل خطوات ذاك البطل الإغريقي الباقية في ذاكرة طيفيةٍ ما، أثرا خالدا على رمال ذاك الشاطئ. ستبقى تلك الخطوات ولن تزول، بقاء البشر المتناوبين على تلك المقاعد، أو على الأرض التي يتاوالون على الحلول فيها، لن يزول أيضا.
مجموعة طارق إمام «أقاصيص أقصر من أعمار أصحابها» صدرت عن «دار الشروق» في 127 صفحة لسنة 2024.
كاتب لبناني