العنوان وتحولات الخطاب في الرواية اليمنية - د.عبدالحكيم محمد صالح أحمد باقيس

خدمة شبكة الأمة برس الأخبارية
2012-06-26

تنطلق هذه الدراسة من طموح نقدي يسعى لاستكناه رحلة العنوان في الرواية اليمنية، ومن فرضية ترى أن دراسة العنوان إنما هي في الأساس دراسة لتطور الوعي بالفن الروائي، وأن تحولات العنوان هي مؤشر لتحولات الخطاب الروائي نفسه. وترى أن رحلة الرواية اليمنية الممتدة منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى مطلع الألفية الجديدة قد حققت منجزاً روائياً يغري بالبحث والدراسة على عدة مستويات من بينها دراسة العتبات النصية وأهمها العنوان، وتحاول الدراسة أن تقارب السيرة النصية للعنوان، لاسيما أنه في الرواية اليمنية الحديثة أصبح يشف عن وعي جديد بطبيعة الكتابة الروائية الجديدة، التي يشكل العنوان فيها بنية نصية خاصة تؤدي دورها في إنتاج الدلالة، وتصوغ شعريتها في فضاء العتبات النصية.

الوعي بالعنوان:
لا يختلف اثنان على الأهمية البالغة للعنوان في تلقي النصوص، فقد اتُّفِق على وصفه بأهم العتبات النصيّة التي يلج من خلالها القارئ إلى داخل النص واستكناه عوالمه ومغاليق أسراره، ووصف العنوان بالعتبة النصية أمر لم يجانبه الصواب، فالعتبة، كما جاء في لسان العرب، هي “أُسكفَّة الباب التي تُوطَأ، … وعَتَّبُ الدَّرَج مَراقِيها إذا كانت من الخشب، وكل مِرقاة منها عَتَبة” ، والعتبة هي لحظة الاتصال الأولى بين عالمين منفصلين؛ الخارج والداخل، الظاهر والباطن، القبل والبعد، وغيرها من الحديَّات الفاصلة بين متناقضين، ومدلول العتبة يلتقي مع ما يمثله العنوان بالنسبة للنص، من حيث كونه لحظة الاتصال الأولى به، وموطئ عين وانتباه القارئ، وهو أشبه بالدرجة الأولى في سلم النص التي يرتقيها القارئ صعوداً نحو متن النص والتقاط عناقيده، وهو بحسب التحليل السيميوطيقي “مرسلة Message صادرة من مرسل Address إلى مرسل إليه Addressee ، وهذه المرسلة محمولة على أخرى هي “العمل”، فكل من العنوان وعمله مرسلة مكتملة مستقلة” ، غير أنهما رغم هذه الاستقلالية يرتبطان بعضهما ببعض ارتباطاً أنطولوجياً، فيمنح كل واحد منهما الآخر الحضور والوجود إلى العالم، فكما أن النص غير المعنون يفتقر إلى الهوية والتأطير اللذين سيمنحهما العنوان للنص، فإنه لا معنى ولا وجود لعنوان في الفراغ من دون نص يحمله ويمنحه الوجود والحياة. ونظراً لدور العنوان البالغ بالنسبة للنص وللمتلقي، فقد “أولت السيميوطيقا أهمية كبرى للعنوان، باعتباره مصطلحاً إجرائياً ناجحاً في مقاربة النص الأدبي، ومفتاحاً أساسياً يتسلح به المحلل للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها” . وبعد أن كان يُنظر إليه كزائدة لغوية أو مجرد اسم يعلو النص لاقيمة له إلا في إطار ما يُهتم به من الهامش، أصبح “جزءاً لا يتجزأ من استراتيجية الكتابة لدى الناصّ لاصطياد القارئ وإشراكه في لعبة القراءة، وكذلك بعداً من أبعاد استراتيجية القراءة لدى القارئ في محاولة فهم النص وتفسيره وتأويله” .

ومن أهم الجهود النقدية في دراسة العنوان ما ينسب لليوهوك أبرز المشتغلين بالعنونة في كتابه العمدة (أثر العنوان) الذي شكل مرجعاً مهماً لكافة المهتمين بـ (علم العنونة)، حيث قدم فيه تصوراً منهجياً لمقاربة العنوان انطلاقاً من الأهمية الخاصة التي يمثلها العنوان بالنسبة للنص، ومن استقلاليته النصية رغم ارتباطه الأنطولوجي بالنص، وحدد مجموعة من العناصر الشكلية والدلالية التي تميزه عن النص، فعلى المستوى الشكلي ينفرد العنوان بالصفحة الأولى، ويتميز بتيبوغرافيا خاصة من حيث الحجم والتشكيل، وعلى المستوى الدلالي يعد العنوان أول ما يُفتتح به من النص، ونواته التي يتناسل منها الخطاب، ويمثل تكثيفاً دلالياً لمحتوى النص كافة . ويقع العنوان عند جيرار جينيت كما جاء في كتابه (أطراس) ضمن النصية الموازيةParatexte إحدى أنواع المتعالية النصية الخمسة، وهي “كل ما يضع النصوص في علاقة ظاهرة أو خفية مع نصوص أخرى” ، وتتكون من (التناص ـ الملحق النصي أو النصية الموازية ـ الميتانصية ـ المعمارية النصية ـ التعالق النصي)، والنصية الموازية هي مجموعة النصوص التي تصحب النص الأصلي وكل ما يسهم في إخراجه للوجدود على شكل كتاب، وتتكون من ” العنوان، والعنوان الصغير، والعناوين المشتركة، والمدخل، والملحق، والتنبيه، والهوامش أسفل الصفحة، أو في النهاية، الخطوط، التزيينات، الرسوم، نرجو الإلحاق، الشريط، القميص، وأنواع أخرى من الإشارات الكمالية الكتابية وغيرها التي توفر للنص وسطاً متنوعاً، وفي بعض الأحيان شرحاً رسمياً أو شبه رسمي” . ووجود العنوان ضمن هذه النصوص الموازية لا يضعه في درجة واحدة من التساوي معها، فلايمكننا أن نساوي بينه وبين الهوامش أو الملاحظات أوالإهداء أو حتى المقدمات وغيرها من العتبات النصية رغم أهميتها، فجميع هذه أو بعضها قد يستغني عنها النص دون أن تترك أثراً كبيراً في تلقيه، وفي المقابل لايمكننا تخيل نص حديث شعري أو نثري، علمي أو إبداعي دون وجود عنوان له، كما أن الاهتمام بالعنوان أو بقية العتبات النصية لا يعني الاكتفاء بها عن دراسة النص أو المتن؛ فـ”لا أحد يصر على أن النص الموازي هو الأساس الجوهري، أو البديل للنص الفعلي، لكنه في نفس الوقت ليس تابعاً ومكملاً، فهذه التبعية ذاتها هي التي تمنح النص إشارة المرور إلى العالم، أي تهبه هويته واختلافه معاً” ، ووجود هذه العتبات الموازية للنص لم تخل من الوظائف والدلالة، فهي ـ كما يرى جينيت ـ تؤدي دوراً مهماً يتصل بالأبعاد البراغماتية التي لها تأثيرها في جذب القارئ نحو تلقي النص ، وما انفك النقاد يؤكدون على أهمية العنوان البالغة، بوصفه أهم هذه العتبات على الإطلاق، فهو ـ كما يرى ليو هوك ـ “أول عنصر يتم تبئيره من طرف الكاتب الضمني، ويمنح هذا التبئير العنوان سلطة خاصة، حيث يمكن أن يبرمج قراءة النص من طرف المسرود له والقارئ، ويفعل في كل تأويل ممكن للنص” . ولذلك يتطلب اختياره وعياً دقيقاً وتفكيراً مليئاً، فهو ليس مجرد كلمة أو أكثر يضعها الناص بعد فراغه من النص، بل هو عنصر موجه للدلالة، وبحسب صلاح فضل “تتركز فيه معان متعددة، وتنتهي إليه خلاصة الفكرة الجوهرية، فهو إما أن يكون بؤرة مستقطبة لدلالة العمل، وإما أن يكون عاكساً بالتقابل لهذه الدلالة ومساعداً على بلورتها” . وكثيراً ما أدت العنوانات أدوارها في عمليات التلقي الإيجابي للنصوص، وكما هو معلوم فقد يثير عنوان ما انتباه القارئ، ويحرك فضوله ومن ثم توقعاته من النص، وهذا ما يطلق عليه “مجال أفق انتظار القارئ”، فإذا كان من صفات العنوان في العموم أن يشف عن مضمون نصه ولا يثير أمام القارئ أفقاً متعدداً من انتظار المعنى أو التأويلات، فإن للعنوان الأدبي خصوصية تميزه عن النص العلمي أو الخبري بمدى اشتغاله على جانب المجازي والإيحائي في اللغة، أو ما يمكن أن يدخل في إطار الوظيفة الشعرية بحسب أنواع الوظائف التي قدمها رومان جاكبسون .

ويعرف ليوهوك العنوان بأنه “مجموعة من العلامات اللسانية التي قد ترد في مطلع النص لتعينه وتعلن عن فحواه وترغب القراء فيه” . ويقدم الباحثون العرب ممن اهتموا بالعنونة مجموعة من التعريفات لا تختلف كثيراً عن تلك المستمدة من تنظيرات النقد السيميائي، منها ما يُعرّف العنوان بـ”مرجع يتضمن بداخله العلامة والرمز وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أن يثبت فيه قصده برمته كلياً أو جزئياً، إنه النواة المتحركة التي خاط المؤلف عليها نسيج النص” ، ومنها “العنوان للكتاب كالاسم للشيء به يعرف، وبفضله يتداول، ويشار به إليه، ويدل به عليه، ويحمل وسم كتابه، وفي الوقت نفسه يسمه العنوان .. علامة ليست من الكتاب جُعلت له، لكي تدل عليه” ، وفي تعريف جامع يستلهم مجموعة العناصر الجوهرية في التعريفات السابقة، ويعيد صياغتها، يُعرّف العنوان بأنه “علامة لغوية تتموقع في واجهة النص، لتؤدي مجموعة من الوظائف تخص أنطولوجية النص، ومحتواه، وتداوليته في إطار سوسيوـ ثقافي خاص بالمكتوب، وبناء على ذلك، فالعنوان من حيث هو تسمية للنص وتعريف به وكشف له، يغدو علامة سيميائية تمارس التدليل وتتموقع على الحدِّ الفاصل بين النص والعالم، ليصبح نقطة التقاطع الاستراتيجية التي يعبر منها النصُّ إلى العالم، والعالم إلى النصِّ، لتنتفي الحدود الفاصلة بينهما، ويجتاح كل منهما الآخر” .

ولا تختلف هذه التعريفات في تأكيدها على أهمية الموقع الذي يحتله العنوان بالنسبة للنص، وتركيزها على جانب الوظيفة التي يؤديها العنوان، ما يعني أن الحديث عن العنوان لا يتم بالنظر إليه كبنية لغوية أو نصية بمعزل عن مجموعة الوظائف التي يجب أن يؤديها، وهي باختصار شديد عند هوك أن “يصور، ويعين، ويشير إلى المحتوى العام للنص” ، وعند جيرار جينيت تتمثل في “الإغراء، والإيحاء، والوصف، والتعيين” . وهذه الوظائف ـ باستثناء وظيفة الإغراء ـ يتجه فيها العنوان نحو النص، أما الوظائف التي يمكن أن يتجه فيها العنوان نحو المتلقي، فأبرزها هي الوظيفة التأويلية التي يسهم فيها القارئ، ويغدو شريكاً مهماً للكاتب في منح العنوان مجموعة من القراءات الممكنة، وهذا يرتبط بنوع خاص من العنوانات القرائية، التي لاتفصح على نحو مباشر عن معنى ثابت، وتفتح الأفق نحو مزيد من التأويل، وذلك ما عبر عنه أمبرتو إيكو في قوله؛ “إن شأن العنوان أن يبلبل الأفكار لا أن يرتبها” ، وتجربته الإبداعية تحفل بهذه المساحة التأويلية المتروكة للقارئ في تفسير العنوان، من قبيل كلامه عن عنواني روايتيه (بندول فوكو، واسم الوردة)، وعن قراءة عنوان الأخيرة يقول: “إن كاتباً اختار (اسم الوردة) عنواناً لكتابه، لابد من أن يكون مستعداً لمواجهة كل التأويلات الممكنة لهذا العنوان [...] إني اخترت هذا العنوان لأترك للقارئ كامل الحرية، إن الوردة صورة رمزية لها من الدلالات ما يجعلها فاقدة لكل معنى ..” . لكن ذلك لايعني إسراف الكتاب في الغرابة والغموض طلباً لعنوان قابل للتأويلات المتعددة، فمن البداهة أن الغرابة أو الإثارة والغموض لاتكفي وحدها، فطالما طالعتنا عنوانات مثيرة وشعرية، لكنها تعلو نصوصاً متواضعة أو رديئة، ما يعني أن العنوان الجيد لايشف بالضرورة عن نص جيد، وفي المقابل فإنه من النادر أن نجد عنواناً يوصف بالرداءة في ذاته، في حين توصف النصوص بها غالباً.

العنوان وبدايات الرواية اليمنية:
خالطت بدايات الرواية اليمنية عدة نزعات، فجاءت مزيجاً من الرومانسية والتعليمية والقومية والإسلامية، وهذا ما نجده في كتابات الرواد؛ أحمد عبدالله السقاف، ومحمد علي لقمان، وعلي أحمد باكثير، والطيب أرسلان، وقد ارتبط الوعي بالشكل الروائي عند هؤلاء الرواد بهموم ثقافية واجتماعية وتنويرية، وما يجمع جهودهم الروائية التأسيسية أن الاتجاه نحو الشكل الروائي لم يكن خالصاً، فقد أُعلنوا عن الهدف من وراء كتابة الرواية منذ البداية، فقد مزج السقاف في روايته الأولى (فتاة قاروت) بين النقد الاجتماعي والقصة الغرامية الرومانسية، وأعلن ذلك المزج في العبارة الشارحة العنوان، وحدد هدفه الإصلاحي والتعليمي من كتابة الرواية الثانية منذ اختياره مفردتي (الصبر والثبات) عنواناً لها، فجاء العنوان تلخيصاً وتكثيفاً لمضمون الخطاب؛ حيث الصبر في سبيل الواجب والفضيلة، والثبات في مواجهة الرذيلة، ولكي يصل بهدفة الإصلاحي إلى أقصى مدى توجه بخطابه التقديمي إلى القارئ مباشرة قائلاً: “أقدم إليك أيها القارئ الكريم هذه الرواية التى ستجد فيها فوق لذة المطالعة صوراً معنوية لمثل عليها الفضيلة، وصوراً أخرى للرذيلة ومغالبة بين عوامل الحب والواجب، ومشادة بين العقل والحمق، والطيش والرزانة…”، وأعلن محمد علي لقمان على غلاف روايته الأولى (سعيد) بأنها “رواية أدبية أخلاقية تاريخية وقعت حوادثها في عدن”. وذكر في مقدمته للرواية أنه أراد من تأليفها أن يبين كثيراً من عيوب الحياة الاجتماعية للعدنيين في الثلاثينيات التي كان يسودها الجهل والوهن والعادات والمعتقدات السيئة التي أدت إلى تدهور أحوالهم وتفوق الأجانب عليهم، لكن أحداثها تجاوزت الهدف التعليمي الاصلاحي عندما توجهت بالنقد السياسي للسلطات البريطانية في عدن التي سلمت مقاليد البلاد للجاليات الأجنبية وتجاهلت حقوق العرب، وتضمنت خطاباً تحررياً يدعو لمقاومة المحتل الأجنبي، وينادي بالوحدة القومية والإسلامية، وتجسد ذلك من خلال شخصية سعيد التي اتسمت بالشعور القومي والإسلامي، وجاءت أشبه بقناع روائي مرر من خلاله لقمان أكثر أفكاره جرأة في مواجهة الاحتلال البريطاني لجنوب اليمن، وفي الرواية الثانية (كملاديفي) ذكر لقمان في مقدمتها الموجزة الدلالة السياسية من وراء تأليفها قائلاً: “وقعت حوادث هذه القصة في إحدى الولايات الهندية، وإن كانت الأسماء خيالية. وجنوب الجزيرة العربية بحاجة إلى من يضحي في سبيل النهوض بها إلى مستوى عال يرفع من قدرها. وفي هذا الجنوب الشيء الكثير من الإسراف والعبث بمصالح الناس. فلعل لنا في هذه القصة عظة، ولعل لنا في حوادثها عبرة “، وقد استلهم فيها قصة شعبية هندية تحكي عن فتاة تحدث تحولاً إيجابياً في حياة الحاكم المستبد عندما يقع في غرامها فتوجهه وتنبهه لواجبه تجاه شعبه، وفي إطار القصة الغرامية قدم لقمان خطاباً سياسياً تصالحياً قياساً بروايته الأولى، يرى فيه أن الاصلاح قد يحدث من داخل السلطة نفسها إن أحسن توجيهها . واتجه الطيب أرسلان في روايته (يوميات مبرشت) إلى نقد الحياة الاقتصادية في ظل الاحتلال ما أدى إلى سيطرة الأجانب على الاقتصاد والحياة العامة، والرواية تسير في ذلك على نفس الخط الذى اختطه لقمان فى راوية (سعيد) فى تنبيه الناس إلى خطر سيطرة الأجانب على الأمور الاقتصادية وعلى مقاليد الحياة فى عدن، فكثير من أفكار لقمان تبدو ماثلة فى الرواية، ولم يخالف الطيب أرسلان تقاليد البدايات في البدء بخطاب تقديمي، فقد استهل روايته بتمهيد يضع القارئ من خلاله على السياق التاريخي الذى كتب فيه الرواية، معلناً صراحة عن موقفه إزاء تغلغل الأجانب فى عدن، متوجهاً بهذا التمهيد إلى أبناء قومه من اليمنيين فى عدن محذرهم، وحاثهم على اليقظة والمقاومة. وصاغ علي أحمد باكثير روائع الروايات التاريخية الإسلامية المعروفة، مستلهماً وموظفاً وقائع التاريخ العربي والإسلامي لينجز مشروعه الروائي الإسلامي التعليمي في روايات تتخذ من الوقائع التاريخية والقصص الغرامية المتخيلة إطاراً لتقديم خطابه القومي الإسلامي وليواجه من خلال الرواية واقع الهزيمة والتمزق الذي أصاب الأمة بعد نكبة فلسطين .

ويعدّ الأثر الرومانسي هو الأبرز في هذه المرحلة التي تدور فيها موضوعات الرواية حول القصص الغرامية، والشعور القومي والإسلامي والموضوعات التاريخية الرومانسية، لكن الذي يعنينا الآن هو العنوان، وحصاده في البدايات هو: (فتاة قاروت 1927، الصبر والثباث 1929، ضحية التساهل د.ت لأحمد عبدالله السقاف، سعيد 1939 وكملاديفي 1947 لمحمد علي لقمان، وسلامة القس 1944، وواإسلاماه 1945، والثائر الأحمر 1949، وليلة النهر 1946، وسيرة شجاع 1955، والفارس الجميل 1965 لعلي أحمد باكثير، يوميات مبرشت 1948 لمحمد الطيب أرسلان، حصان العربة 1959، ومذكرات عامل1966 لعلي محمد عبده، ومأساة واق الواق 1960 لمحمد محمود الزبيري، مصارعة الموت 1970 لعبدالرحيم السبلاني).

وأول ما يلحظ ـ بخلاف ظاهرتي الوضوح والمباشرة في هذه العنوانات ـ نهجها أسلوب العنونة التقليدية في ملاءمة العنوان لمضمون النص، وإخلاصها لتقاليد عنونة البدايات الرومانسية، حيث هيمنة أسماء الشخصيات الروائية على معظم العنوانات أكان بصورة مباشرة: (فتاة قاروت ـ سعيد ـ كملاديفي ـ سلامة القس ـ الثائر الأحمر ـ الفارس الجميل) أم بصورة ضمنية أو كنائية من قبيل: (ضحية التساهل ـ سيرة شجاع ـ يوميات مبرشت ـ مذكرات عامل ـ حصان العربة ..)، وهي في ذلك تماثل الظاهرة التي مرّت بها عنوانات الرواية الغربية والعربية من قبل، والتي شكلت الشخصيات الروائية عنوانات للرواية في بداياتها الرومانسية، غير أن مكوث الرواية اليمنية في هذه المرحلة الرومانسية ـ كما هو واضح من تواريخ صدورها ـ لم يكن متصلاً أو متوالياً على نحو خطي رغم البداية المبكرة، كما لم يدم مكوثها فيه كثيراً، شأن الطور الرومانسي القصير في الرواية العربية، فقد كان الطور الرومانسي في الرواية العربية قصيراً جداً، وغير خالص في بعض البيئات العربية التي لحقت بحركة العصر متأخرة، مثل دول الجزيرة العربية ، ورغم ذلك القصر، فقد تمثلت الرواية اليمنية في عنواناتها أهم خصائص العنونة الرومانسية، غير أنه لايمكن إرجاع هذه الظاهرة إلى تأثير الرومانسية في الإبداع الأدبي وكفى، وإنما كذلك لتأثيرات النزعة الرومانسية الثورية التي شهدتها اليمن منذ الثلاثينيات، حيث بروز الوعي القومي والوطني والفكري في مواجهة الاحتلال البريطاني، ثم التأثيرات المباشرة للمدّ القومي العربي والإسلامي في الأربعينيات والخمسينيات، ما أدى إلى زيادة ذلك الوعي، وكان من مظاهره الاهتمام بالشخصية القومية والمحلية ودورها في مواجهة الآخر (المحتل) ودفاعها عن ذاتها وهويتها القومية، وذلك ما نلمسه على مستوى الموضوع الروائي في معظم هذه الروايات، بما فيها الرواية الأولى (فتاة قاروت) التي صدرت في المهجر وتناولت مسألة الدفاع عن الهوية القومية والإسلامية . كما أن هذه الروايات تحكي سير شخصياتها المتخيلة التي هي في الأساس أشبه بأقنعة روائية لكثير من أفكار كتابها، فكان من الملاءمة أن تحتل هذه الشخصيات فضاء العنوان.
والملاحظة الثانية هي ظاهرة الأسماء الأنثوية التي برزت في العنوان: (فتاة قاروت، ضحية التساهل، كملاديفي، سلامة القس، ..) وهيمنة الاسم الأنثوي أو الحقول الدلالية المتصلة به من أبرز مظاهر عنونة البدايات العربية، وهي ظاهرة مرّت بها الرواية الغربية في المرحلة الرومانسية، لكن الجانب الأبرز في عنوان الرواية العربية وقتئذ كان “يتمثل في طغيان أسماء نسوية، وهو شيء لافت تزامن مع النداء بتحرير المرأة والدعوة إلى التحرير عموماً، بالإضافة إلى أن الكتابة آنذاك كانت سجينة الأفق الرومانسي العاطفي” ، وتاريخ الرواية العربية يحفل بوفرة كبيرة من هذه العنوانات التي تشف عن موضوعات تتصل بالمرأة، أو المرأة هي الشخصية المحورية فيها، وكذلك “غدا اللجوء إلى الحقل المعجمي الخاص بـ(الأنثى) اسماً وترادفاً: فتاة، غادة، عروس، أمراً شائعاً في العنونة الروائية، وقد امتد ذلك ليغطي جزءًا كبيراً من العنونة في الطور الرومانسي” .

وسنقف في التمثيل للعنوان عند البدايات من خلال نموذج واحد هو عنوان رواية (فتاة قاروت) لأحمد عبدالله السقاف، بوصفها النص الروائي اليمني الأول، ولأن جهازها العنواني شمل عناصر ووظائف عنونة البدايات كافة، وقد جاء من ناحية التشكيل التيبوغرافي على النحو الآتي :

فتاة قاروت
أو
مجهولة النسب

رواية غرامية انتقادية تتضمن انتقاد بعض عادات مهاجري العرب في جاوة، ووصف بلاد السندة وعادات أهلها بأسلوب رشيق.

وواضح اشتمال جهازها العنواني على كافة مكونات العنونة التقليدية، وهي بحسب نظرية العنوان؛ العنوان الرئيس أو العام (فتاة قاروت) الذي لاغنى عنه بالنسبة للنص، ثم العنوان الثانوي، أو الفرعي المقترن بالعنوان الرئيس مكاناً ووجوداً (مجهولة النسب)، ويقوم العنوان الثانوي بوظيفة تأويلية للعنوان الرئيس، ووجوده غير أساسي، لكنه إن وجد “يكتسب شرعيته في كونه يسد الفجوة التي تتخلل العنوان الرئيس، من حيث عدم استيفائه لمضمون النص” ، وهذا أمر يتصل بالعنوانات التي تتوسل أعلى درجة من الوضوح وتزيل أي لبس محتمل، وعلى هذا النحو جاء عنوان رواية محمد علي لقمان (كملاديفي أو آلام شعب وآماله) ، وقد شمل العنوان الأداة التي تربط بين العنوانين؛ الرئيس والفرعي، وهي (أو) حرف عطف لها معان كثيرة ذكرها ابن هشام منها: الشك، والإبهام، والتخيير، والإباحة، والجمع المطلق كالواو، والإضراب، والتقسيم، وبمعنى (إلا) و(إلى)، وقال: “إن (أو) موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء، وهو الذي يقوله المتقدمون، وقد تخرج إلى معنى (بل)، وإلى معنى (الواو)، أما بقية المعاني فمستفادة من غيرها” ، وأخيراً شمل العنوان العبارة الشارحة، التي من وظائفها أن تعين الجنس الأدبي للنص؛ (قصة، رواية، مسرحية، سيرة…) لكنها ضمن جهاز العنوان في بعض الروايات التي تريد أن تنجز هدفاً وعظياً أوتعليمياً، أو قصاً غرامياً أو غيره، وتريد أن تضع القارئ منذ البداية في سياق تلق خاص بهذا النوع من السرد، يصبح للعبارة الشارحة دور مهم في إضاءة هذا الجانب، وتوجيه القارئ نحوه، ويكون من وظائفها إزالة ما بقي من لبس أو غموض في العنوان، وهي في رواية (فتاة قاروت) عبارة طويلة ممتدة، “رواية غرامية انتقادية …”، ذكر فيها الكاتب كل ما من شأنه توجيه القارئ نحو المغزى من السرد، ومن المعلوم أن “هذا النوع من الإشارات المصاحبة للعنوان كان سائداً في كل الأعمال القصصية خلال البدايات الأولى” ، من قبيل عبارة “مناظر وأخلاق ريفية” في رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل. ونجد الاحتفاء بالعبارة الشارحة في عنوانات البدايات الروائية اليمنية الأخرى، ففي رواية (سعيد) لمحمد علي لقمان تقول العبارة الشارحة إنها “رواية أدبية أخلاقية تاريخية، وقعت حوادثها في عدن” ، وفي رواية (مصارعة الموت) لعبدالرحيم السبلاني؛ “رواية تاريخية أخلاقية اجتماعية أدبية، سياسية تدور أحداثها فى اليمن من سنة 1956 إلى سنة 1962م”.

أما المركب اللغوي الذي يتكون منه عنوان هذه الرواية، فهو مركب إضافي؛ (فتاة قاروت)، حيث تعمل الإضافة على إزالة التنكير الذي لحق بالكلمة الأولى (فتاة)، وغدت بفضل الإضافة إلى (قاروت) مُعرفة بالإضافة، والمركب الإضافي هو أكثر المركبات شيوعاً في العنونة. وكلمة (فتاة) تتسم بوضوح الدلالة، فهي مؤنث فتى، وتعني مرحلة النضج واكتمال المقومات البيولوجية للأنثى، بما في ذلك الجمال، لكن الكلمة الثانية (قاروت) تستدعي صيغتها، أو مركبها الصوتي مجموعة من الأسماء المماثلة المرتبطة بالحكي التراثي والديني: (قارون ـ هاروت ـ ماروت ـ طالوت ـ جالوت) ما قد يثير بعض الغموض أو اللبس، ويتبادر إلى الذهن الإيحاء بمجموعة القصص المرتبطة بهذه الأسماء، ثم السؤال هل نحن إزاء نوع من الحكي التراثي، أو المتناص مع قصص هؤلاء؟، بمعنى أن العنوان في هذه الصيغة يخلق نوعاً من الإيحاء بالتناص، وسرعان ما تتكفل العبارة الشارحة في إزالة هذا الإيحاء بالتناص، ويأتي بعد ذلك العنوان الداخلي الأول بهذا الاسم (قاروت)، وتستهل الجملة الأولى بتحديد الدلالة المكانية لقاروت، ويخبرنا السارد أنها “بلدة في مقاطعة فريغان من جزيرة جاوة، إحدى جزائر الأوقيانيوسية الخاضعة لحكم هولاندة …” ، ما يعني أن سمة المباشرة والوضوح تظلّ ماثلة في العنوان رغم ما يوحي به العنوان الرئيس من غموض نسبي، تكفلت مجموعة العتبات العنوانية والنصية المصاحبة بإزالته مباشرة، دون أن تترك للقارئ أية مساحة في تأويل العنوان، وهي: (العنوان الثانوي + العبارة الشارحة + العنوان الداخلي + الاستهلال السردي).

وعلى المستوى التناصي فهذا العنوان الأنثوي في صيغة المركب الإضافي، ينفتح على التناص بمجموعة كبيرة من العنوانات المعروفة التي تنتمي لنفس الحقل العنواني؛ فتستدعى روايات تضمنت (فتاة + مكان)، مثل: (فتاة غسان، فتاة القيروان، فتاة مصر، فتاة الغيوم، وفتاة القرية، …)، أو عنوانات أخرى تتصل بحقل الأنوثة عامة، مثل غادة كربلاء، غادة أصيلا، غادة الزاهرة، عروس فرغانة، عذراء قريش، عذراء الهند، عذراء دنشواي،…). كما لايمكن إغفال رمزية (الفتاة) في روايات البدايات، فقد ارتبطت هذه الرمزية بكثير من المسميات في خطاب النهضة العربية، ومسيرة التحرر وبروز الوعي القومي والحضاري، لما تمثله (الفتوة + الأنوثة) من دلالات النضج والنمو والخصوبة والوعي والجمال، فنجد في الصحافة على سبيل المثال الفتاة ـ فتاة الشرق ـ فتاة الجزيرة،..)، وغيرها.

العنوان في الرواية الواقعية:
منذ نهاية الستينيات، وبفضل مجموعة التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي شهدتها اليمن عقب الاستقلال وقيام الدولة الوطنية والنظام الجمهوري في شطري اليمن، أخذ الأدباء اليمنيون يعون طبيعة هذه التحولات ويعبرون عنها في جل إبداعاتهم الشعرية والنثرية، وكان للوعي بقضايا الواقع أرضاً وإنساناً أثرها الواضح والمباشر في الإبداع الأدبي، لاسيما أن اتجاهات الواقعية، والواقعية الاشتراكية في الأدب قد وجدت طريقها إلى الأدب اليمني، وتوالت تأثيراتها في السبعينيات والثمانينيات وحتى قرب نهاية التسعينيات. كما كان للمؤثرات الخارجية دور مهم في ذلك، فقد تعرف الكتاب اليمنيون إبداعات الرواية الواقعية العربية من أمثال نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وحنا مينة، وغيرهم، وتعرفوا كذلك الأدب الأجنبي المترجم، وخصوصاً الأدب الواقعي الروائي الروسي. وبفضل مؤثرات الواقع المحلي، والمدّ الواقعي الكبير أنجزت الرواية اليمنية واقعيتها الخاصة التي التمست فيها هموم واقعها وخصوصيات البيئة المحلية، فكان من الطبيعي أن تنجز كذلك عنواناتها الخاصة، فأخذ المكان يحتل موقع الصدارة بين مكونات العنوان المختلفة، وذلك أمر لا مراء فيه، فأية نظرة إلى عنوانات الرواية اليمنية وقتئذ لا يمكنها أن تخطئ هيمنة المكون المكاني للعنوان، حيث الإشارة المباشرة إلى الحيّز أو الفضاء الذي تتصل به الأحداث. على أن القول بهيمنة المكون المكاني للعنوان لا ينفي عدم وجود مكونات أخرى، كمكون الشخصية، أو المكون الزماني، أوالحدثي، وغيرها، وإنما لأنه يشكل الملمح الأبرز للعنوان في هذه المرحلة، ومن البداهة القول إنه لا يمكن أن تتصف عنوانات فترة ما بمكون واحد فقط؛ فذلك مناف للذوق الأدبي وطبيعة الإبداع، فالعنوان ليس فكرة ماوية أو رؤية شمولية تدمغ الأعمال في مرحلة ما بطابعها الفردي، وإنما هو مجال للفن والممارسة الإبداعية المتعددة، شأنه في ذلك شأن النص، وبناءً عليه أمكن تصنيف عنوان الرواية الواقعية إلى الآتي:

1ـ عنوانات مكانية خالصة، تشير إلى الفضاء الروائي الذي تتصل به الأحداث إشارة مباشرة من قبيل؛ (مجمع الشحاذين ـ مرتفعات ردفان ـ صنعاء مدينة مفتوحة ـ الميناء القديم ـ قرية البتول ـ مدينة الصعود أو مدينة المياه المعلقة ـ القرية التي تحلم ـ شارع الشاحنات ـ المكلا، …) .
2ـ عنوانات جاء المكان فيها بصورة مجازية، مثل (مأساة واق الواق ـ طريق الغيوم ـ ربيع الجبال ـ شيزان).
3ـ عنوانات توحي بالمكان رغم أنها لا تشمل مكوناً مكانياً مباشراً، مثل رواية محمد عبدالولي (يموتون غرباء) ورواية أحمد العليمي (غرباء في أوطانهم)، حيث الغربة توحي بدلالة مكانية.
4ـ عنوانات تحمل نفساً رومانسياً، رغم أنها تتضمن موضوعات واقعية، مثل: (ضحية الجشع ـ عذراء الجبل ـ ركام وزهر ـ زهرة البن، …)، وأخرى تحمل أسماء الشخصيات الروائية، مثل: (الرهينة ـ السمار الثلاثة ـ الصمصام ـ المبشع، ..) .

وجميع هذه العنوانات ـ باستثناءات محدودة ـ تشي بموضوعات الروايات بشكل مباشر، بحيث يعدّ العنوان فيها ” العتبة التي اندلق عليها موضوع الرواية” ، فلا يحتاج القارئ إلى جهد كبير في ربط العنوان بالنص، ذلك أن معظم الروايات الواقعية تتخذ من الأمكنة والأحداث والشخصيات شكلاً رمزياً كنائياً، يفعل الروائي فيها ـ بحسب كولن ولسن ـ كما يفعل بائع الجبنة الذي يضع قطعة صغيرة منها على طرف سكينه لتشير إلى الصفيحة بأكملها .

ومن هذا الوعي بترميز الأمكنة يأتي الميناء وحارته القديمة في رواية (الميناء القديم) 1978 لمحمود صغيري ، الذي وضعه عنواناً وعتبة للولوج إلى داخل النص، مثلما هو الميناء في الواقع عتبة للدخول أو الخروج، وفضاء للتعدد والتحولات، ويتكون العنوان على المستوى التركيبي من دالين اثنين شأن معظم العنوانات المكانية التي تتكون إما من مضاف ومضاف إليه أو نعت ومنعوت، وغير ذلك من مركب الدالين، عندما يجيء أحدهما اسم المكان؛ (مدينة، قرية، جبل، شارع، بناء، طريق،…)، فتتكرر الصيغة المألوفة؛ (مكان + مضاف/ نعت/ عطف..) . وهو في هذا العنوان جملة اسمية، حُذف ركنها الأول،(المبتدأ)، وتكون خبرها من دالي (المكان + الزمان) الأول (الميناء)، والثاني نعت الميناء بأنه (القديم) والنعت بالقدم يتضمن دلالة زمانية، وسيمنح الميناء مزيداً من الإيحاءات والدلالات الرمزية؛ كالأصالة، التاريخية، والعلاقة الممتدة بالزمن، والميناء هو مكان عتبة للاتصال بين البرِّ والبحر، الداخل والخارج، السكون والحركة، كما تتسع دلالة كلمة ميناء لتشمل المدينة بتعدد أحوالها وسكانها وأعراقها وانفتاحها على عالم البحر ومغامرات البحارة والصيادين، والهجرة اغتراباً واستيطاناً، والغزو والتجارة، والعلاقة بالخارج والآخر، وغير ذلك من الدلالات التي لا يحجبها العنوان، ويأتي النص ليثبتها، حيث تحفل الرواية بمجموعة من الأحداث المتصلة بقصة أهالي حارة البحارين أحد أحياء المدينة الميناء، في فترة نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، وعلاقتهم بحركة الدستوريين الأحرار عام 1948، وقصص الهجرة والأوضاع السياسية والاجتماعية وقتئذ، ما دفع بكثير من الناس إلى الهجرة منها نحو البحر ومدن وموانئ العالم الأخرى، أو الهجرة إليها فراراً وهرباً من أوضاع أشد قسوة، وتحكي انفتاح المدينة وحاراتها على الغرباء الذين وفدوا إليها، كما تروي جانباً من تاريخ الغزوات التي مرّت بالمدينة/الميناء، وغير ذلك من الأحداث الواقعية والتاريخية التي يشدها السرد نحو المكان، وتحفل بكافة الأجواء المتصلة بالبحر وعلاقة الناس به، وهنا نلمح فيها أثراً لبعض الروايات العربية الواقعية التي تدور حول البحر وتحولات المدينة/الميناء، مثل رواية (الشراع والعاصفة) لحنا مينة، بل تقترب بعض شخصياتها من شخصيات الشراع والعاصفة مثل شخصية علي فنيتو التي تتسم بملامح الملحمية الطروسية لبطل رواية الشراع والعاصفة محمد بن زهدي الطروسي، وذلك يعني أن القارئ منذ البداية أمام عنوان واقعي يتسم بوضوح الدلالة، ويشي على نحو ما بموضوع النص الذي يتناسل منه حين يستقطب المكان الأحداث والشخصيات كافة.

العنوان في الرواية الحديثة:
غني عن البيان أن الرواية العربية الحديثة قد ارتادت أفقاً جديداً من التجريب الروائي، وباتت بفضل إبداع كتابها تراكم ابتكاراتها السردية، وكان العنوان أيضاً هو مجال هذه الابتكارات، فحفل بالرمزية والإيحائية والصيغ البلاغية، وأُنتجت عنوانات قرائية مثيرة للتأويلات، كما برزت فيها ظاهرة العنونة التي تتناص مع الموروث بأنواعه كافة، وغدا العنوان فيها يشف عن تحول كبير لا في العنوان فقط، وإنما في استراتيجيات الكتابة الروائية، وإذا كان يُناط بالعنوانات في النصوص التقليدية (قبل الحديثة) وظيفة تقديم تلخيص أو كشف عن مضمون النص، ويُنظر إلى العنوان بوصفه “أداة إبراز لها قوة خاصة” ، فإن النصوص الحديثة طرحت إشكالها منذ العنوان الذي أصبح مجالاً للمساءلة والتأويل، كما أن علاقته بالنص “لم تعد علاقة سؤال ـ جواب بقدر ما صارت علاقة سؤال ممتد من العنوان إلى النص [...] كما لم يعد العنوان هو المعنى الوحيد الذي يحدده النص، بل إن النص يساهم في خلق مرايا ومعان متعددة للعنوان” ، وفي مرحلة الرواية العربية الحديثة “تجاوز العنوان الحداثي ـ تجريباً وتأصيلاً ـ بنية الجملة العنوانية إلى بنية النص” ، حيث تطالعنا عنوانات ممتدة لأكثر من دال ولأكثر من جملة أحياناً.

والناظر إلى المنجز الروائي اليمني عند عتبتي نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي سيلحظ التحول الكبير الذي طرأ عليه نصاً وعنواناً، بحيث يمكن القول إنها بداية الحداثة الروائية اليمنية، تلك الحداثة التي قطعتها الرواية العربية منذ عقود ثلاثة، فقد برز في هذه الفترة لدى الكتاب اليمنيين وعي جديد بطبيعة الفن الروائي، لا يكتفي بالموضوعات التقليدية المستهلكة في تناول قضايا الواقع اليمني وتحولاته السياسية والاجتماعية، أو ما يندرج في مفهوم الموضوعات الوطنية الكبرى التي استنفدت متخيل الرواية اليمنية خلال العقود السابقة، عندما ظل المتخيل الروائي أسير رؤية ثابتة في تأريخه للتحولات السياسية والاجتماعية التي شهدها الواقع اليمني، مثل الكتابة عن مرحلة ما قبل الاستقلال، وأحداث الثورة اليمنية، وإنما بدأ تناول موضوعات جديدة تتصل باليومي والإنساني في حياة إنسان الواقع، حيث الذات اليمنية المعاصرة المأزومة في تشتتها وارتطامها بواقعها وهمومها، وقلقها من واقعها الجديد الحافل بالمفارقات والاضطراب، وباتت الرواية اليمنية بفضل ثقافة كتابها واطلاعهم على التجارب الروائية العربية والغربية تشف عن وعي جديد خلق في النهاية تراكماً إبداعياً على المستوى النصي والتقني، وأدى إلى تحول مفهوم الكتابة الروائية والخروج من أسر التقليدية واجترار محاكاة النموذج الواحد، وقد تمثل ذلك أولاً في إبداعات زيد مطيع دماج، وسعيد عولقي، وصالح باعامر، ويحيى علي الإرياني، ثم في كتابات جيل جديد أخذ يشكل تجربته الروائية الخاصة، من أمثال حبيب عبدالرب سروري، ووجدي الأهدل، ونبيلة الزبير، وعبدالناصر مجلي، ومحمد عبدالوكيل جازم، ونادية الكوكباني، وأحمد زين، وعلي المقري، وغيرهم…، فكان لزاماً على العنوان الروائي اليمني أن يعبر عن طبيعة هذه التحولات الجديدة. بخلاف الوعي بالعنوان الشعري الحداثي الأسبق في الأدب اليمني الحديث الذي قطع شوطاً كبيراً على يد رواد الشعراليمني الحديث منذ النصف الثاني من القرن الماضي على يد عبدالله البردوني، وعبدالعزيز المقالح، والشعراء السبعينيين من أمثال شوقي شفيق، ومحمد حسين هيثم وغيرهم من الشعراء الذين جاءت عنواناتهم الشعرية موازية لحداثة نصوصهم.

في هذه المرحلة تجاوز العنوان ظاهرتي الوضوح والمباشرة اللتين اتسمت بهما المرحلتان السابقتان، ليغدو للعنوان بنيته ونصيته الخاصة التي تميزه عن العنوانات السابقة، فلم يعد مجرد عتبة نصية تشف عن مضمون النص ليلج القارئ إليه في ثقة وسهولة ويسر، بل أضحى عتبة للمراوغة والعصيان تهتز عليها أقدام القارئ غير الحاذق، ويتطلب اجتيازها خبرة جمالية وطاقة قرائية على القارئ أن يبذل فيها الوسع حتى يلج داخل النص ويفتض مغاليق أسراره، بمعنى آخر أصبحت العنونة مجالاً لممارسة فعلي القراءة والتأويل من قبل القارئ، ذلك أن العنونة الحديثة “أضحت لها استراتيجية تنخرط ضمن الاستراتيجية العامة لفعل الكتابة وبالتواصل الفعال مع المتلقي من جهة، وأن تؤسس كينونة خاصة بها تتميز بها عن النص الذي تسميه وتحدده من جهة أخرى، وذلك عبر الوعي بالعنونة أهميةً وتغيراً في عالم غارق بالاتصال” .

وتشير مجموعة العنوانات على اشتغال الكتاب اليمنيين على هذه العتبة النصية، فقد راحوا يجرون عليها مناوراتهم ومفاوضاتهم في استقطاب القراء لتلقي النصوص، ومارسوا فيها وبها اللعب مع القارئ ومع النص ليُمنح العنوان أكبر طاقة تأويلية، وباختصار شديد أصبح جل عنوانات هذه المرحلة عنوانات قرائية تفتح الأفق للعبة التأويلات المتعددة، متوسلين في ذلك الاشتغال على مجموعة الآليات والتقنيات البلاغية والأسلوبية والنصيّة عند صياغتهم العنوان؛ فتطالعنا في هذا السياق عنوانات تتوسل الجانب البلاغي المجازي والكنائي؛ فتظهر صيغ عنوانية غير مألوفة من قبل على مستوى الرواية اليمنية رغم اعتمادها على المركب الثنائي الدال من قبيل (نهايات قمحية) لمحمد عبدالوكيل جازم، و(قوارب جبلية) لوجدي الأهدل، و(رجال الثلج) و(جغرافية الماء) لعبدالناصر مجلي، و(تصحيح وضع)، و(قهوة أمريكية) لأحمد زين؛ و(دملان) و(طائر الخراب) و(عرق الآلهة) لحبيب عبدالرب سروري، و( كائنات خربة) لسامي الشاطبي. واتجه بعض الكتاب إلى عنوانات حافلة بالمفارقة من قبيل (قوارب جبلية) و(حمار بين الأغاني) لوجدي الأهدل؛ و(الضباب أتى .. الضباب رحل) لمحمد عبدالوكيل جازم، و(الأنس والوحشة) لهند هيثم، و(المداح والموت) لمحمد الخوبري، واشتغلت عنوانات أخرى على آلية التناص بعنوانات أخرى من قبيل عنوان (صنعاء الوجه الآخر) لإبراهيم إسحاق الذي يتناص مع عنوان رواية محمد عبدالولي (صنعاء مدينة مفتوحة)، و(عرس الوالد) لعزيزة عبدالله مع عنوانات من قبيل (عرس الزين) للطيب صالح، و(عرس بغل) للطاهر وطار، وغيرذلك مما لامجال لذكره.

ومن ظواهر العنونة الحديثة بروز عنوانات تتجاوز بنية الدال المفرد والدالين إلى بنية الجملة، من قبيل (الومضات الأخيرة في سبأ) و(حمار بين الأغاني) و(بلاد بلا سماء) لوجدي الأهدل، و( رجة تحس بالكاد) لمحمد عثمان، والاشتغال على آليات بلاغة الحذف النحوي والمعنوي والاستعانة ببعض التقنيات الطباعية في بنية العنوان، من قبيل (حب .. ليس إلاّ) لنادية الكوكباني، و(صنعاء .. الوجه الآخر) لإبراهيم إسحاق، و(أحلام .. نبيلة) لعزيزة عبدالله، و(الضباب أتى .. الضباب رحل) لمحمد عبدالوكيل جازم، و(طعم أسود .. رائحة سوداء) لعلي المقري، و(إنه جسدي) لنبيلة الزبير، وغيرها.

ولايمكن فصل الوعي بعتبة العنوان عن الوعي بغيرها من العتبات النصية الأخرى، ففي الرواية التسعينية وما بعدها سينفتح الخطاب على ظاهرة الاقتباس والتصدير أو الاستشهاد بعبارات دالة لعدد كبير من الكتاب والفلاسفة الغربيين وغيرهم، ما قد يوحي بوعي ثقافي جديد لكتاب الرواية منفتح على الفكر الإنساني والعالمي، من قبيل الاستشهاد بكلمات لأراجون، وأوجست لاكوستاد، وماركيز، وباشلار، ونيتشه، ونايبول، ولبعض الأدباء العرب من قبيل المتنبي، والبردوني، وأدونيس، والاستشهاد بمقاطع من الشعر، أو الأغاني، وكلمات أحياناً لايذكر أصحابها، وأحياناً تجتزأ مقتبسات من النص نفسه، وغير ذلك مما يقوم بوظيفة إيحائية أو استباقية، تسهم في بعض الحالات في توجيه تلقي القارئ لهذه الروايات، ربما شكل الاحتفاء بها في الروايات الحديثة استعاضة عن المقدمات الذاتية والغيرية، التقريضية والنقدية التي شكلت ظاهرة بارزة في كثير من الروايات اليمنية في المراحل السابقة. ومع زيادة الوعي بكافة العتبات المصاحبة للعنوان سجل التشكيل التيبيوغرافي والفضاء الطباعي للعنوان، بما فيه لوحة الغلاف، مجالاً مهماً متضافراً مع العنوان في عمليات إنتاج الدلالة واستقطاب القارئ ـ وهو وعي يشترك فيه الناشر مع الكاتب ـ وخصوصاً فيما يتصل بالجانب الدعائي الجذبوي أو التجاري في واقع تحتل فيه الصورة ووسائل الاتصال البصرية المكانة الأبرز في عمليات التلقي؛ (أنواع جديدة من الخطوط المستحدثة ـ غير الكلاسيكية ـ الخالية من الزوايا، الألوان الممزوجة من عناصر لونية متعددة، الرسومات والأيقونات، اللوحات التشكيلية التجريدية والسريالية، وبقية العناصر الشكلية المصوغة بتناغم مع بعضها ومع النص، ولم تخل من الدلالات الكامنة).

شعرية العنوان في الرواية اليمنية الحديثة:
سنقف في هذا المبحث عند ثلاثة عنوانات للرواية اليمنية الحديثة، هي؛ (إنه جسدي) لنبيلة الزبير، و(قهوة أمريكية) لأحمد زين، (طعم أسود.. رائحة سوداء) لعلي المقري . ذلك أن ما يجمع هذه الروايات بخلاف نهجها أسلوب العنونة الحديثة، شعرية الموضوع الروائي الذي تناولت فيه موضوعات جديدة على مستوى الخطاب الروائي اليمني، هي مما اصطلح عليه بالموضوعات المسكوت عنها؛ إذ تقدم الأولى خطاباً نسوياً يتسم بمساءلة الواقع القبلي المثقل بسلبياته وتناقضاته، وتصف واقع القهر والاستلاب الذي تعيشه الأنوثة في ظل فضاء ذكوري حافل بكل ما هو ناف للمرأة جسداً وذاتاً، تتناول الثانية أزمة الذات المعاصرة في ظل انكسار الحلم، ومفارقات الواقع المعاصر في ظل التجربة الديمقراطية اليمنية، أمّا الثالثة فتتناول موضوعاً قلما انتبه له الكتاب العرب، وهو يتصل بالمهمشين السود الذي يعيشون بيننا وترفضهم الثقافة القبلية وتقذف بهم إلى هامش الحياة بسبب اللون والعرق، وتصف الحياة الخاصة لهؤلاء السود في مجتمعاتهم الصغيرة المنفية التي لها طقوسها وتقاليدها الخاصة بعيداً عن الآخر وسلطته بسبب موقف هذا الآخر منها، وتتسم هذه الروايات بمجابهة عنيفة، ومكاشفة مؤلمة، للواقع الآسن في رواسب موروثاته وثقافته المملوءة بالمناطق السوداء التي توشك أن تتحول إلى ثقوب سوداء تلتهم كل من يحاول أن يملأ فراغاتها الشرهة.

إن شعرية هذه الروايات قد أسهمت في نسج ظفائرها خصلات متعددة من الشعريات؛ شعرية الموضوع، وشعرية السرد المنفتح على آليات الكتابة الجديدة لغة وتقنية ومفارقة وتناصية وتعددية للأصوات، فكان على العنوان أن يُعبر عن هذه الشعرية، بشعرية موازية، ذلك أن “قوة الرواية تُلّمح من عتبة العنوان ذاتها، لكونها تكثف التحولات البنيوية في الخطاب الروائي في الانعطاف الحداثي” وهي الانعطافة المُعبّر عنها نصاً وعنواناً، التي غدا العنوان فيها يشكل بنية نصية خاصة، تنحت شعريتها في فضاء العتبات، لتحتل العنونة مساحة واسعة في عمليات تلقي وتأويل النصوص، يمارس فيها العنوان غوايته ومراوغته، حتى لايفهم الكتاب من عنوانه!.

أولاً: (إنه جسدي) وفراغات العنوان:
من المعلوم أن لغة العنوان “غير مشروطة تركيبياً بشرط مسبق، وبالتالي فإن إمكانات التركيب التي تقدمها اللغة كافة قابلة لتشكيل “العنوان” دون أية محظورات، فيكون “كلمة” و”مركباً وصفياً” و”مركباً إضافياً” كما يكون “جملة” فعلية أو اسمية، وأيضاً أكثر من جملة..” ، وعلى المستوى التركيبي تتكون جملة العنوان (إنَّهُ جسدِي) من جملة اسمية استوفت أركانها كافة، وهي: (إِنَّ + اسمها + خبرها). وبنيتها السطحية تتكون من مركب رباعي؛ هو حرف وكلمة وضميران متصلان، وتحتل كلمة (جسد) مركز وبؤرة العنوان، من خلال موقعها في بنية جملة العنوان، حيث جاءت بقية أجزاء الجملة محتفية بها، فوضع ما قبلها ومابعدها في خدمتها؛ جاءت أولاً مسبوقة بحرف التوكيد (إنّ) ثم (الهاء) ضمير الغائب العائد على الجسد، ما زادها قوة في التخصيص والتحديد، ثم جاءت متصلة بـ (ياء المتكلم) التي انتزعتها من فضاء التنكير إلى فضاء التعريف، كما أنها تتموقع في كنف من الضمائر التي تعبر عن ذاتية المتكلم، ولانقصد بذلك اتصالها بياء المتكلم فقط، وإنما ما تمثله النون في (إنَّ) من معان تعبر ـ كما يرى حسن عباس ـ عن الحركة المنبثقة من داخل الذات باتجاه الخارج، لأن “أصل (إنَّ) هو (إنني) وليس العكس، ولأن خاصية التوكيد في (إنَّ) هي في الأصل مقتبسة من خاصية توكيد ذاتية المتكلم في (إنني) بمواجهة العالم الخارجي” . لكن على مستوى البنية العميقة لاتؤدي هذه الجملة الاسمية ـ رغم استيفائها أركان الجملة ـ معنى تاماً، إذ تبدو مفتقرة للاكتمال الدلالي، ما يعني وجود فراغ أو محذوف في آخرها، قد يُقذَّر بخبر من كلمة أو أكثر، مما يندرج في إطار النعوت المحتملة للجسد، كالقوة والضعف، والجمال والقبح، والتشكل والتحول، أو الأفعال المتصلة به كالحركة والشعور، أو جملة فعلية أو اسمية تؤدي وظيفة تفسيرية، وغير ذلك من احتمالات اكتمال جملة العنوان. كما أن ضمير الغائب في جملة العنوان قد يثير تساؤلاً إلى من يعود؟، أيعود إلى جسد الذات المتكلمة في جملة العنوان، أم يعود إلى شيء آخر ينبغي تأويله في جملة العنوان التي تخللها فراغ على القارئ أن يكمله؟.

أمّا على مستوى الدلالة، فقد استقر ارتباط كلمة (جسد) بالإنسان وحده، بخلاف غيرها من الكلمات التي تدور في حقلها من قبيل؛ (بدن، وجسم، وجرم) وغيرها مما أُشرِكَ فيها غير الإنسان والعاقل، وقد جاء في اللسان: “الجسد جسم الإنسان، ولايقال لغيره من الأجسام المُغْتَذية، ولا يقال لغير الإنسان جسد من خلق الأرض…” . وللجسد تصورات واسعة في مختلف الثقافات والأديان والفلسفات والمجتمعات، وهو بحسب تعبير ميرلوبونتي “







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي