هل انتهى عهد السجال الفكري؟… حسن الطريبق يساجل في قضايا الثقافة المغربية

2024-06-06

عبداللطيف الوراري

إيثوس السجال

طرح عصر النهضة العربية أسئلة كثيرة وشائكة، وتفرّقت «أجوبة» الأنتلجنسيا حسب تموقعاتها ومشاربها الأيديولوجية وصيغ حضورها، بين ثلاثة اتجاهات أساسية: اتجاه تحديثي (تغريبي، ليبرالي) وآخر تقليدي (تراثي، محافظ) وثالث توفيقي يحاول المواءمة بين «دفوعات» الطرفين في الشكل والمضمون. ولهذا، اشتدّ وطيس الخصومات الفكرية بين الأطراف، وكان كلّ طرف يتقدم بـ«خطاب سجالي» للدفاع عن أطروحته في قضية من القضايا التي كانت وليدة المرحلة، أو تُثار بقوة بالنظر إلى «إبستيمي» العصر الذي يفرضها ويفرق الأطراف حولها ولا يجمعهم: قضايا التراث والحداثة، والحرية والالتزام، وتحرير المرأة، والديمقراطية، والسلطة، والاستشراق، والإسلام السياسي، والفصحى والعامية، والشعر الجديد، وسينما العالم الثالث، والتطبيع، وغير ذلك. صارت مثل هذه الخصومات تحمل أنساقا ثقافية معبرة عن عصرها بقدر ما كانت تمثل في حد ذاتها رؤى مغايرة للعالم، ومن ثمة لم تكن تخلو من تحيُّزات فكرية ومذهبية أو من تمثيلات رؤيوية وجمالية ملازمة لأي خطاب سجالي. ومن هنا، نعتقد بأنّ إيثوس السجال الفكري قد هيمن على معظم جوانب الحياة الثقافية العربية في أزمنتها الانتقالية، وكان هذا الإيثوس يتغير في كل مرة استجابة للأفكار أو الاتجاهات أو القوى الجديدة التي تدخل السجال وتصبغه بصبغتها الخاصة.

فهذا الخطاب يعبر في بنيته التلفظية عن علاقة تصادم وصراع بين أطروحات أصحابه من الذوات المتساجلة وتصوراتهم ومواقفهم المتباينة، يميناً ويساراً، من قضايا أدبية وثقافية مستجدّة وذات طبيعة إشكالية وراهنية مُلحّة في الغالب، بل بسبب حدة هذه القضية أو تلك وحساسيتها من نوع ما، يكتسي الخطاب في كل مرة عناصر وخصائص جديدة قد تزيدها تعقيداً، بدل أن تساهم في حلّها، ولاسيما إذا أدلى فاعلون ومنجزون جدد بدلوهم فيها ووسعوها بإحالاتهم وحججهم ودعاواهم الأيديولوجية، ويصل الأمر في أحايين كثيرة إلى أن يشعلوها حربا، ويعتدوا عليها بالشتم والسباب. إنه خطاب قائم على استراتيجيات الدفاع ضمن رهان الاختلاف والتعدد في الرأي، وقد يحمل في طيّاته عناصر «لا أخلاقية» فيما هو يمزج بين ما هو معرفي وما هو شخصي: يحاجج، ويطارح، ويتمركز حول الذات دون نفي الآخر فيها لأنه جزء من تكوينها، ويتلاعب باللغة وحيل الأسلوب، وحينا يندفع في غير روية ولجاجة. وهذه المساجلة بين الطرفين هي الأصل في مأتاه اللغوي: «أن يستقي ساقيان، فيخرج كل واحد منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غُلب».

المعارك الأدبية

في مجال الأدب وما يتصل به تنظيراً وممارسةً، لا أحد ينكر المعارك الأدبية التي اشتعلت في الوسط الثقافي العربي، وكانت تعكس روح النخبة المفكرة وقدرتها على تجديد أسئلتها والسعي لتدبير أشكال التعدد والاختلاف التي كانت تتأتى من طبيعة الخطاب السجالي، وتعارض فاعليه والخائضين فيه. وكانت هذه المعارك التي جرت وقائعها على صفحات الصحف والمجلات وقادها مثقفو مصر المجدّدون والتنويريون، من أمثال لطفي السيد، وعباس محمود العقاد، وطه حسين، ومحمد صادق الرافعي، وزكي مبارك، ومحمد حسين هيكل، ومحمد مندور، وغالي شكري وغيرهم، قد تردّدت أصداؤها في معظم البلاد العربية وجارى أدباؤها ونقادها – هناك- إيقاعها الذي كان يتلون بما كان يعرض عندهم من قضايا ومسائل مختلفة باختلاف البيئات المحلية وسياقاتها السياسية والفكرية.

وفي المغرب الحديث، قبل الاستقلال وبعده، نشأت صورٌ من هذه المعارك التي كانت تعكس حركية الثقافة الوطنية، ورغبتها في تطوير أدواتها المعرفية والنقدية. نشأت في أول الأمر بين رجالات الحركة الوطنية (علال الفاسي، عبد الله إبراهيم، عبد الله كنون، عبد المجيد بن جلون، عبد الكريم غلاب..) الذين جمعوا بين النشاط السياسي والعمل الفكري والأدبي، وكانت نقاشاتهم تصبّ على الأرجح في الدفاع عن الأدب المغربي وأصالته وخصوصياته للردّ على تهميش التاريخ و«بضاعتنا رُدّت إلينا» وفي مدى ارتباطه بالأدب العربي في المشرق أو انفتاحه على الأدب الأوروبي على شاكلة ما يرسمه النقاش الذي دار بين أصحاب المدرسة التقليدية والمدرسة الرومانسية. ثم اشتدّ النقاش واصطبغ بإحالات ودفوعات جديدة، مفهومية ومرجعية وتأويلية، حين ظهرت أفكار وطروحات مختلفة يعبر فيها أصحابها من ذوي التكوين الأكاديمي عن انتماءاتهم الفكرية وخلفياتهم الأيديولوجية (القومية، الواقعية الاشتراكية، اليسار الماركسي..) بموازاة مع التطور الذي درج فيه الأدب المغربي وتولّدتْ عنه قضايا وظواهر معنوية وفنية جديدة في مختلف أجناسه وتعبيراته الجمالية، ومع ازدهار حركة النقد الأدبي وحركة التأليف والنشر على حد سواء. فكان النقاش مساجلات حقيقية بين أدباء المغرب، ولاسيما بين المحافظين الذي يصدرون في معظمهم عن مؤسسات رسمية وحزبية موالية، والتقدميين الحداثيين الذي تكونوا في مدارج التعليم العصري وثقّفوا أنفسهم بثقافة الغرب، بل فيهم من جاهر بالرفض وإرادة التغيير في غمرة النضال داخل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.

ومن يرجع إلى أرشيف المنشورات (صحف، مجلات، بيانات…) التي نشطت في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، يكتشف طبيعة هذا السجال بين هؤلاء وأولئك، ممن صار لهم شأن وصيت في «البانثيون» المغربي (أحمد المجاطي، أحمد المديني، محمد برادة، عبد الكبير الخطيبي، بنسالم حميش، إدريس الخوري، مصطفى المسناوي، محمد بنيس، الطاهر بنجلون، حسن الطريبق، إبراهيم الخطيب، عبد اللطيف اللعبي، إلخ). وأكثر هذا السجال استأثرت به قضايا ناشئة وحساسة؛ مثل الشعر الحر، والقصيدة الكاليغرافية، والأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، واستقلالية اتحاد كتاب المغرب، إلخ. فكان سجالاً حادّا، حرونا، يخرج إلى لغة السباب والسخرية والتسفيه والهتك والمعاداة الصريحة، بسبب تبعية الثقافي للسياسي، وغلبة الهتاف الأيديولوجي، غير أنه أجرى في نهر الأدب مياهاً كثيرة وهتك حجبه السميكة. يقول عبد العلي الودغيري الذي عايش أجواء تلك السجالات وشارك في بعضها: «والحق يقال إن تلك السجالات والكتابات كانت في وقتها حدثاً أدبياً ذا أهمية في حد ذاته، ولا يمكن للباحث في الأدب المغربي المعاصر تناسيه أو تجاوزه. فقد شغل حيّزاً لا بأس به من الفضاء الثقافي بالنقاش والحوار الجاد وتلاقح الرؤى والأفكار، وإن لم يخل من صخب المعارك التي تعالت فيها الصيحات واحتدت الأصوات وتُبودلت الاتهامات. لاسيما أن الظرفية كانت تعكس بحق ما أصبح يضطرم به الجسم الثقافي المغربي من تفاعلات سياسية واجتماعية وأيديولوجية وصراعات واصطفافات، حولت كثيراً من النقاش الدائر آنذاك في القضايا الأدبية، عن جادة الفكر والأدب والنقد والكتابة الموضوعية، وانحرفت به نحو اتجاهات أخرى، ألقيت فيها الحمم الحارقة التي ظلت آثارها وعقابيلها تفعل فعلها في الساحة الثقافية لسنوات وعقود بعد ذلك».

سجالات حسن الطريبق

يمكن أن نعدّ «المقالات السجالية» (منشورات أخوين سليكي، طنجة 2022) التي صدرت للأديب المغربي حسن الطريبق (1938- 2022) من عيون أدب السجال في المغرب؛ فهو يرسم جزءا من هذا السجال الذي دار بينه وبين مجايليه في قضايا أدبية ولغوية وثقافية، خلال حقبة صاخبة اشتدّ فيها الصراع السياسي متعدد الوجوه والأبعاد، وألقت ظلالها الكثيفة على التأليف الوطني، ابتداءً من سبعينيات القرن العشرين. يقول المؤلف: «كنتُ مجبراً على المشاركة بها لتوضيح موقفي من قضايا أدبية وفكرية محضة» ويعترف بأن النقاش خرج عن سياقه الأدبي وزُجَّ به في «سراديب أيديولوجية مفعمة بغير قليل من النزق والاهتبال» مثلما يعترف بأنه لا يضع نفسه في «منزلة المنزَّهين». غير أنّ ذلك لا يقطع مع أهمية جمع هذه المقالات وتوثيقها، من أجل التأمل فيها واستكناه حقيقة التطور الذي كانت تعكسه مضامينها وطرق التعبير أو الدفاع عنها، وبالتالي فهي شهادة على حياة ثقافة وزمنها الانتقالي بكلّ ما ينطوي عليه من آمال ومجاهدات وأعطاب، وليست «شهادة حضور في زمن رديء» كما جاء على لسانه في مقدمة الكتاب.

نُشرت السجالات على أعمدة «الملحق الثقافي» لصحيفة «العلم» المغربية بين سنتي 1972 و1992، وهي فترة ليست هيّنة بمقياس الزمن الثقافي والفكري، حيث تغطي «انتقالات» مهمة وذات اعتبار، تستوعب ما هو سياسي وأيديولوجي وجمالي ورمزي، وتكشف أشكال التوتر أو الصراع الذي طبع الجسم الثقافي، مثلما تكشف إرادة التغيير التي حلم بها المثقفون وسعوا إلى تجسيدها من خلال تموقعاتهم وصيغ حضورهم المختلفة، من أجل أدب حديث وثقافة متنوّرة تتجاوز الأعطاب وتجيب على أسئلة الراهن. وقد سمحت الشخصية الاعتبارية للمُساجِل بصفته شاعراً ساهم بإنتاجه الشعري منذ خمسينيات القرن الفائت في تطوير القصيدة المغربية، وبرع في تأليف المسرح الشعري؛ ثم بصفته ناقداً، وباحثاً أكاديميّاً، وفاعلاً سياسيّاً عُرف بنشاطه داخل حزب الاستقلال ومثّله داخل قبة البرلمان المغربي، أن يكون لسجالاته التي خاضها صفة الحُجّية أو المصداقية، وكان بدوره يسعى إلى إرساء الإيثوس الذي يُمثّله ويصدر عنه في مساجلاته؛ حيث أظهر قدرة معتبرة على الإقناع والردّ على خصومه من نقاد الأدب وطليعته الجديدة (إبراهيم الخطيب، أحمد المجاطي، نجيب العوفي، محمد بنيس، الطاهر بن جلون، محمد أبزيكا، أحمد الإدريسي..) والتأثير على المشاعر والدعاوى وطرائق التفكير والرؤية والموقع، التي تُبودلت عبرها بينه وبين مخاطَبيه، وكان كلّ ذلك يمتدّ ليفصح عن مؤونه الخبرة والمعرفة التي تميز بها في التعبير عن تجربتيه الشعرية والنقدية، وأخذ يعضدها بما يسميه بـ«المسؤولية الأخلاقية» أو «الروح الوطنية» بل كان لا يتورّع عن تذكيرهم بذلك إذا لجّ السجال.

وبهذه الصفات المتعاضدة، كان حسن الطريبق يصدر عن رؤية ثقافية صريحة خاصة به، يمتزج فيها الموضوعي بما هو ذاتي، والفكري بما هو حزبي وأيديولوجي في زخم تدافع الآراء والأطاريح من كل لون؛ فيساجل مخاطَبيه على اختلاف مواقعهم الثقافية وانتماءاتهم الأيديولوجية؛ كأن يساجل إبراهيم في شأن الشعر المغربي ويرفض تضخيم الصراع بين الطريقتين العمودية والتفعيلية لأنه لا يخدم مستقبل هذا الشعر، ويساجل أحمد المجاطي الذي استعار اسم «كبور لمطاعي» حول الثقافة الوطنية ومدلولاتها التي تفيد تحقيق التطور الحضاري والارتقاء بالمجتمع، ويساجل نجيب العوفي ومحمد بنيس في المسألة النقدية وضرورة تخليصها من سلاح الأيديولوجيا ذات التأثير الماركسي، أو عدم تغليب الشكل على المضمون في ظلّ صعود المناهج النصية من شكلانية وبنيوية، ويساجل الطاهر بن جلون في شأن الكتابة السردية الجديدة وما فيها من نزوع جنسي و»غروتيسكي» لإرضاء القارئ الأجنبي. وكان يُضمّن هذه المساجلات آراءه الصريحة في موضوعات كان تفرض نفسها بقوّة في تلك الأيام الصاخبة، مثل وضع المثقف المغربي وعلاقته بالسلطة أو بالحزب، وتبعية الثقافي للسياسي، والخطاب السلفي، والاحتكار الثقافي، وعقدة الإحساس بالمهانة إزاء الماضي وغيرها. وكانت سجالاته في معظمها ردوداً على ما كان ينشره هؤلاء ممن ينعتهم بـ»التعاونية النقدية التقدمية» على صفحات جريدة «المحرر» المعارضة، أو آراء خاصة يدلي بها في هذه المقالة أو تلك تنقد مفاهيم وأوضاعا لم يكن ينظر إليها بعين الرضا. وكان يأخذ مَفْهَمته وحججه من قديم الثقافة وحديثها (أرسطو، تزفيتان تودوروف، محمد غنيمي هلال، عز الدين إسماعيل، ميغيل دي أنامونو، رشاد رشدي، عبد المنعم تليمة…) بل كان يستشهد من بعض المراجع الماركسية أثناء مساجلاته التي حصلت بينه وبين من يُحسبون على التيار الماركسي أو يدورون في فلكه (محمود أمين العالم، الطيب تيزيني..). مثلما ساعدته ثقافته النقدية وقراءاته المتنوعة في الشعر والأدب والفكر على مجاراة إيقاع خصومه ومقارعتهم، وهو ما يظهر من كثرة الاستشهادات والإحالات التي وظّفها وحاجج بها. لا يكتم احترامه لمن يساجله، لكن يحطّ به اللسان إلى الهجو والتعريض إذا طعنه أحدهم في وطنيّته، أو قلّل من شأن تجربته الشعرية وسفّه علمه وأدوات عمله النقدي، بل شكّك في نظافة يده. يقول في ردّه على إبراهيم الخطيب الذي ادّعى عليه بأنه «شاعر سلفي»: «أعتزّ بالانتساب إلى السلفية المغربية في خطّها المتطور، فالسلفية تمثل أنصع وأنقى واجهة في تاريخ المغرب، لأن الجيل الذي يمثلها امتاز بالقدرة على التوفيق بين ثقافته وسلوكه، وبكونه استخدم ذلك في نضاله السياسي للتعجيل بتحقيق الاستقلال والوحدة والديمقراطية».

وفي مكان آخر يصل السجال إلى مهوى التشنج والتعريض: «وفي الوقت الذي كانوا ـ أي الوطنيون- يتنقلون من سجن إلى آخر، وضمنهم حسن الطريبق الذي دخل السجن بسبب أفكاره الوطنية، وذاق مرارة التعذيب القاسي الذي ما زالت ندوبه بارزة في جسمه، كان إبراهيم الخطيب يتنقل بين مقاهي الرباط مستريحاً ومستكيناً إلى الدعة والاسترخاء». ويسرد في ردّه على أحمد المجاطي الذي اتهمه بأنه «شاعر بلا موهبة وبلا قضية..» لائحةً بأسماء النقاد والمجلات الأدبية التي احتفت بتجربته الشعرية: «وللمعلومات الخاصة للسيد النكرة لمطاعي كبور، فإني إلى الآن ـ وفي ظل الحياة السهلة التي نحياها حاليا، والتي مكنته من رفع صوته لأول مرة في التاريخ والحياة ليناقش النقاد والكتاب – ما زلت أعاني من صنوف الاضطهاد بعضاً مما لا ينبغي ذكره في هذا المجال». ومثل ذلك ردّه على نجيب العوفي الذي أقذع القول فيه، حين ادّعى بأنه على امتداد عشرين سنة كان يلهث «وراء شيطان الشعر دون أن يسفر ذلك إلا عن مسرحيتين كسيحتين وخاليتين من كل رؤية تاريخية، وعن ديوانين باهتين تائهين مليئين بالتورمات الذاتية والرومانسيات، مروراً بالمقالات النقدية البادية الإفلاس».

ورغم الطابع «اللاأخلاقي» الذي ينحدر إليه الخطاب السجال، ويمكن أن تُحرّفه عن قواعد التواصل والحوار، وتشوّش على مبدأ التعاون الذي يتأتى من احترام الأطراف بعضهم بعضا، عن طريق استخدام العنف اللفظي والمعاندة والحطّ من قدر الخصم والنيل منه، إلا أن ذلك جزء من بنيته التلفظية، كما أن سيمياء الأهواء جزء من نسيجه النصي وأحد مبررات وجوده. لكن يبقى في نهاية المطاف خطابا نوعيّاً يسعى إلى بناء المعرفة والمشاركة في تجديدها، مثلما يسهم في تجديد الوعي النقدي والجمالي لدى الأفراد والمجتمع معاً؛ إذ يبدو متنوع الروافد والمعلومات، يستوعب قضايا اللغة، والبلاغة، وعلم العروض، ومناهج الدراسة الأدبية، والترجمة، والأيديولوجيا، مثلما يستوعب الذوق والمزاج و»الحالة المدنية» ويتنقل عبرها المُساجِل إلى ناقد أدبي، ووطنيّ دخل السجن من أجل استقلال بلده، وسلفي، ومصلح اجتماعي، وأحياناً إلى واعظ ديني وسليط ساخر.

لقد كانت السجالات عنوان حقبة أساسية في تاريخ ثقافتنا الحديثة مغرباً ومشرقاً، لكنها اليوم انطفأت أو تكاد وسط تغوّل وسائط «السوشيال ميديا» التي اقتحمها الجميع وصار بوسعه أن «يتحدث كمن يحمل جائزة نوبل» كما قال أمبرتو إيكو؛ حيث صارت هذه الوسائط «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء». قد يكون ما حدث في حياتنا مؤلماً، لكنه لا يقطع مع الأمل – إن لم يكن وحده مدعاة حقيقة – في تجديد روح النقاش وتعقيله بالصورة التي تنهض بها إنسانية الإنسان.

كاتب مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي