أيّام في طنجة: تحقيق في «عُنصرية المغاربة» تجاه السود

2024-05-31

بوشعيب الساوري

عن سلسلة مشروع ابن خلدون المغرب بعيون أجنبية/ العالم بعيون مغربية لحامله نزار التجديتي، وبدعم من المركز الوطني للبحث العلمي والتقني في الرباط، صدرت ترجمة نص رحلي، صاحبه قادم من منطلَق غير مسبوق في النصوص الرّحلية، التي كان المغرب موئلاً لها، وهو «أيام في طنجة المغرب بعين شاعر سنغالي» (2024) الصادر في الأصل باللغة الفرنسية سنة 2013. وقد تصدّى لهذه الترجمة باقتدار كبير نزار التجديتي وسفيان بلحاج، وقدم للترجمة العربية نزار التجديتي.

ما يثير في قراءة هذا الكتاب هو انشغال الكاتب بمسألة عنصرية المغاربة تجاه الأفارقة السود. نحاول في هذه القراءة تحليل خطاب الكاتب عن العنصرية، ونبرز كيف تأسست وكيف انعكست على أفعال السفر والكتابة والتلقي.

محقق لا سائح

هذا النّص الرحلي من تأليف كاتب وشاعر وأكاديمي سنغالي هو الحاج عبد المالك إندياي بعد زيارته المغرب، وتحديداً مدينة طنجة على ما يبدو في الظاهر بغرض السياحة، رفقة زوجته استجابة لدعوة من بعض أصدقائهما المقيمين في المدينة. لكن قارئ النص سيلاحظ أن الكاتب لم يأت إلى المغرب من أجل السياحة، أو التعرف على الثقافة المغربية، أو ربط الصلات معها، وإنما جاء ليتأكد من تمثّل تراكم لديه من خلال ما سمعَه من محكيات عن المهاجرين السّريين الأفارقة جنوب الصحراء، أثناء مقامهم في المغرب كنقطة عبور، يتعلق الأمر بتمثل عنصرية المغاربة تُجاه السود، تكوّن للكاتب من السماع كما يصرح بذلك: «سمعت الكثير من الأشياء.» ويقول: «فالزنوج الأفارقة أقاموا في المغارب، وعاشوا هذه العنصرية، وتحدّثوا عنها.» وللاستدلال على حقيقة ذلك التمثل من خلال مقامه القصير في طنجة. فعلى الرغم من أن مقام الحاج عبد المالك إندياي في المغرب كان بهدف السياحة، فإنه لم يستطع كتم الرغبة الحقيقية، التي جاءت به إلى المغرب، فأعلن منذ الوهلة الأولى في تقديمه أنه اختار عدم التركيز على لذّاته السياحية، لأنه جاء إلى المغرب محققا لا سائحا. وأفصح عن هذه الرغبة بشكل صريح في بداية الفصل السادس: «بعد أيام من إقامتي في طنجة سائحا، حان الأوان لارتداء بذلة المحقق». فصار الكتاب تحقيقاً واضحاً عن ظاهرة العنصرية في المغرب، انطلاقاً من مقامه في طنجة الذي صار مجالاً للاستدلال على عنصرية المغاربة تجاه السود. لذلك نجد الكاتب – وعن سبق إصرار- لا يفوت أي مشهد أو فعل أو حركة من شأنها أن تؤكد تمثّله المستحوذ عليه، الذي ينبغي أن لا يجادل وكأنه حقيقة ثابتة.

المرافعة على العنصرية تجاه السود

هيمن تمثّل الكاتب لعنصرية المغاربة على السود على مسار الرحلة، وأماكن تنقلات الكاتب، وانعكس ذلك على تحويل هذه التجربة إلى نص رحلي، فكل مكان يتحدّث عنه، أو أي شخصية التقاها سواء كانت مغربية أو افريقية من جنوب الصحراء، تصير وكأنها مجرد ذريعة للاستفاضة في الحديث عن مشكلة عنصرية المغاربة تجاه الأفارقة، فكان انشغال الكاتب بهذه الإشكالية بمثابة موجّه له في تنقّلاته ومنظار لرؤية الأماكن والأشخاص والأفعال والسلوكات التلقائية التي تصدر عنهم، والتي يرى فيها الكاتب عنصرية مباشرة أو غير مباشرة، بل أكثر من ذلك رأى في صمت بعض الأشخاص سلوكاً عنصرياً، كما حدث مع المرأة المغربية في المصعد، لأن إشكالية العنصرية صارت عنده هاجساً وانفعالاً كما جاء في تقديم نزار التّجديتي، وسيطرت على الكاتب وغيبت عقله.

فعلى الرغم من كون الكاتب أستاذاً جامعيا يفترض فيه القدرة على التحليل والنقد وإعادة النظر في كل ما تلقاه أو سمعه من تمثلات شائعة غير مؤكدة، إلا أنه جاء إلى المغرب ليثبت ما سمعه من محكيات لا شاهد عليها سوى أصحابها، وبشهادات أيضاً لا شاهد عليها غير رواتها بلغة سبينوزا. ولكي يحاول إضفاء طابع الموضوعية نوَّع من هذه الشهادات، فكانت من ثلاث فئات من المهاجرين الأفارقة. الأولى لمهاجِرَين سرّيين غينيين، أكدا له أن 85 في المئة من ساكنة طنجة عنصريون، والثانية لمتدربة سنغالية تشتغل في أحد المكاتب في طنجة بقولها: «إن المغاربة عنصريون بشدة». والثالثة لشابة غانية قالت: «كانت العنصرية أكبر مشكل واجهته هنا».

ومقابل ذلك يستنكر شهادات المغاربة في منتديات الهجرة، ويصفها بالانحياز ورفض الآخر والتطرف، يقول: «تصفحت منتديات الهجرة الافريقية عبر الإنترنت، وقرأت العديد من شهادات المواطنين المغاربة. تبقى رؤية هؤلاء منحازة ومعيبة أغلب الأوقات، لأن العديد منهم يحتج لتبرير فعل غير قابل للتبرير، وهو رفض الآخرين على غرار أفكار اليمين المتطرف الأوروبي». واستمرارا منه في التشبث بتمثله، نجده يحاول التقليل ممّا يصدر عن السود من تصرفات قد تكون دافعا لأي رد فعل عنصري تجاههم، بالإضافة إلى التقليل من عدد الأفارقة السود في طنجة، ويعتبر من يقول إن عددهم في تزايد مجرد مهوّل: «يبقى التحدث عن غزو افريقي أمرا مبالغا فيه، رغم تزايد نسبة الهجرة المستقرة في السنوات الأخيرة». ويرى أن الكراهية هي الدافع وراء هذا التهويل، يقول: «لا يمكننا أن نهول أعداد أفراد الجاليات أو الطوائف العرقية. وإن فعلنا ذلك، كان اعترافا ضمنيا بكراهية الأجانب». ويستمر في مرافعته بمساجلة بعض منكري العنصرية تجاه السود في المغرب والمقللين منها، ويرى في ذلك تبريرا للسلوكات الشائنة ضد السود الأفارقة.

كل المغاربة عنصريون

كما قلنا أعلاه، يتعلق الأمر بتمثل سابق لفعلي السفر وتلفيظه، فكان الكتاب عاكسا لهذا التمثل الذي يشترك فيه مع أغلب الرحالين الذين يذهبون إلى بلدان أخرى لينظروا إليها انطلاقا مما تراكم لديهم من تمثلات عالقة بلا وعيهم المستقاة من ثقافاتهم والتي لا يستطيعون الانفلات من سطوتها. لا يكتفي الكاتب بالمرافعة على عنصرية المغاربة تجاه ذوي البشرة السوداء، وإنما يذهب به الانسياق وراء تمثله إلى إلصاق صفة العنصرية بكل المغاربة، وخير دليل على هذا هو أقواله الثلاثة التالية:

ـ «لا أكف عن التفكير بأن المغاربة لا يتصرفون بالأدب نفسه مع الشخص إذا كان أبيض أو أسود. لاحظت عدة مرات أن الناس توجه التحية بعفوية أكبر للشخص الأبيض الذي إلى جانبي».

ـ «والآن تأكدت من الطابع العنصري الذي يطغى على المغاربة».

– «ما يمارسه الشباب المغربي على السود من عنف جسدي وعنف معنوي حماقة لا نظير لها».

رغم أن الكاتب يعترف بأنه لم يسمع بأذنه كلاما عنصريا، يبرر ذلك بقصر مدة إقامته وبالعائق اللغوي اللذين حالا دون سماع ذلك، لكن تمثله الذي صار هوى طاغيا عليه، وقد تجلى في ما يمكن أن نسميه الحساسية المفرطة تجاه العنصرية، فسوء تفاهم من نادل في أحد الفنادق الكبرى الذي تأخر في خدمته رأى أن الأمر يوحي بسلوك عنصري، دفعه إلى تعميم العنصرية على كل بلدان المغارب، يقول: «وأصارحكم القول بأني أنا أيضا فكرت في لون بشرتي عند حديثي معه. وهذه من المرات القليلة التي انتابني خلالها هذا الإحساس. أترون ما يعيشه السود في دول المغارب التي ترفع شعار التسامح والانفتاح؟».

هكذا استحوذت العنصرية على وعي الكاتب وعلى لا وعيه، وهو ما انعكس على هذا النّص الرحلي القصير، وكانت بمثابة منظار ينظر به إلى الواقع، الذي كان يجعل كل سلوك أو حركة أو فعل ينم عن العنصرية أو يؤدي إليها، وحجبت عنه التمتع بفعل السفر، وبتلقائيته ومفاجآته، فكانت الأحكام سابقة على العيان والمشاهدة ومخالطة الناس وجوْب المكان.

على مستوى التلقي

يمكن أن نميز في تلقي هذا الكتاب بين تلق ضمني وتلق فعلي:

فالأول يعيه الكاتب ويتغياه بتمنيه في مقدمته أن يكون كتابه مزعجا من جهة، ومن جهة أخرى يحس الكاتب من خلال فصول كتابه أنه كان قاسيا مع المغاربة، لذلك حاول التخفيف من ذلك بتوجيه النصائح إلى المغاربة، وبحلمه أن يرى المغاربة يتمتعون بكذا وكذا، ويعي ذلك أيضا في الخاتمة حين يقول مخففا من تعميماته: «بعد كل ما كتبته، قد يتساءل البعض إن كنت شجعتُ على كراهية المغرب وأهله. وجوابي بالسلب قطعا. إذ أدرك تماما أن المغاربة لا يمكن اختزالهم في نمط بشري واحد، فالعنصرية رهينة ببعض الأشخاص واللقاءات والظروف دائما». وينهي خاتمة كتابه بالتغني بجمال المغرب.

أما الثاني فتظهره الرسالة التي بعث بها المؤلف للمترجمين، ويعترف فيها أن كتابه أسيئ فهمه، بل يقر بأن كتابة هذا النص الرحلي قد جلبت عليه «موجة من الانتقادات اللاذعة، وقد تكون خلقت لي أعدادا لدودين». وأنه سيعود عودة متسامحة إلى طنجة، ومع ذلك نراه ما يزال مصرا على تمثلاته، ويستمر في خطاب الجدل والمرافعة على تمثله.

لم يكن هدفنا من هذا المقال هو نفي العنصرية على كثير من المغاربة تجاه الأفارقة السود، كما ادعى الكاتب على طول الفصول التّسعة لنصّه الرحلي القصير، وإنما توخينا الكشف عن الكيفية التي تمثّل بها الكاتب هذه الإشكالية، وانعكاسها على فعلي السفر وتلفيظه من جهة، وعلى فعل تلقّيه من جهة أخرى.

كاتب مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي