محمد خضير سلطان
هل تتضمن النصوص الأدبية ومنها، القصة القصيرة معنى معبراً عن موضوع القلق الوجودي، وكيف يغدو هذا القلق استعارة رمزية، تكشف عنه اللغة والبناء الفني في إطار النص الأدبي؟ القلق الوجودي قديم، قدم الإنسان، وهو في أحد مضامينه المباشرة، أن عالمنا الجديد والمقبل والغابر، خال وعصي على المعنى، وهذا القلق ما هو إلا بحث عابث، ومحاولة يائسة لفك طلاسم العالم والوجود، وتبيان بالغ الاستحالة عن الإبهام والغموض.. ومن سمات هذا القلق، إنه لن يكتشف ما يبغي أبداً، ويعجز عن الإتيان بشيء سوى تحصيل الأسئلة التأملية والعاجزة عبر التاريخ، لذلك من العبث الاهتداء إلى شيء ما، ومن المستحيل الكشف عن معنى أعلى من المدرك الإنساني نفسه.. ما الحل إذن؟ لعل الإنسان الجديد والغابر والمقبل، حينما يرى الطرق مسدودة تماماً والآفاق مطبقة والظلام يشتد عميقاً، وليس ثمة أمل أو نور لا في بداية أو نهاية النفق، بل إن الاستغراق بهذا القلق سوف يقود حتماً إلى العدم والفراغ حتى صار ضرباً من الانتحار والجنون. وبعد ذلك، وجد الإنسان الجديد والغابر والمقبل محاولة أولى في ان يوجه قلقه الأنطولوجي في اتجاه آخر، أن يصنع عالماً موازياً ومستعاراً له معنى، لكي يكتشف الطريق الأولي للوصول إلى معنى وجوده، فاخترع اللغة والكلام ومعانيهما سبيلاً إلى محاكاة وتعزية المعنى الأشمل.
وهكذا، تحددت الرؤية، فكان تدجين الإيماءات وفهم الأصوات أولى مباهج الإنسان المبكرة للتخفيف من هذا القلق الصعب وعبر معالجة ومعنى اللغة، حاكى البشر معنى وجودهم، ولم تمر حقب من الزمان حتى تم اكتشاف عالم الكتابة، وبه أعلن الإنسان أول تحديه لمواجهة موقعه الكوني والأنطولوجي والثقافي.
ولم تمر حقب أخرى حتى اخترع البشر النصوص الأدبية لتحمل هذا المعنى الاستعاري والرمزي، ليعبّر بها عن لغز العالم، وسرعان ما عدّ أي نص أدبي على نحو معين رمزاً واستعارةً مثلما هو فعالية رمزية وضمنية في حقل القلق الوجودي.
وعلى الرغم من هذه المقدمة العامة التي تشمل النصوص الأدبية بأجمعها، إلا أن هناك من الروايات أو القصص القصيرة التي تتناول القلق الوجودي على قدر من الاستعارية والرمزية للمعنى، وفي سياق مباشر من الموضوع نفسه كما في مجموعة «إيلا» للقاصة تماضر كريم، وفي عدد من القصص القصيرة، نختار منها ثلاثاً، الأولى بعنوان « ذهان» التي تعبر عن أم مصابة بالذهان أو الفصام، وتحيا بين النوم العميق ونوبات الغضب والتدمير في فضاء البيت والعائلة، وتتحرك وقائع القصة أمام مراقبة ابنتها ومحاولة الأب لوضع حد لهذه المشكلة التي ستؤدي حتماً إلى الفوضى والانهيار، وفي هذا الجو العبثي والمثير للغثيان والرعب والأسئلة، عن الوضع البشري الشائك لهذه المرأة وعلاقتها بأفراد العائلة، يكشف النص في مستواه الرمزي والاستعاري للتعبير عن هذا الوضع المركب، عن لغة تحاول أن تُعيد ترتيب شروخ الانهيارات والفوضى لما تدمره الأم من اللقى والصحون وأشياء البيت، بالطريقة التي تتسق وتتوازى مع ذاكرة العائلة الحميمة في فضاء إنساني صغير، لغة تلم شظايا التدمير ونوبات الغضب، لكي تستعيد صمتاً ضائعاً وتنشد أملاً يائساً.
القصة الثانية بعنوان «الغرفة».. يستحضر النص شخصية الغائب الذي يذهب بعيداً ويترك أشياء غرفته كما هي مذ غادرها إلى الأبدية، وعبر هذا المشهد، تواصل القصة استنطاق الأشياء بدقة وبراعة في تصور سردي جديد، حتى تكاد شخصية الأخ الغائبة أن تنتقل من «هو الغائب» إلى «الأنا البديلة أو المستعاضة» في شخصية الأخت، وبذلك تحقق القصة رمزاً استعارياً، ما يشبه التماهي وتوأمة الذات للتعبير عن معنى الغياب ولغة الحضور.
في القصة الثالثة التي بعنوان « لحظة منفلتة» تبدو اللغة مثل إجابة واضحة ومعبرة عن سؤال عبثي، إذ يبدأ كما جاء في النص بفكرة ربما تكون مضحكة، حين كانت الشخصية مستغرقة بالتفاصيل اليومية المبهجة داخل العائلة، وفي جو مفعم بالسعادة والحيوية، وسرعان ما تفكر الشخصية بإنهاء حياتها فجأة، وتستعير هذه الفكرة مثل تلويحة سوداء في فضاء الأسرة البهيج. وغدت تلك التلويحة مثل لحظة منفلتة في زمن متماسك، أو هي اللحظة التي لا تعبر عن الزمن المتماسك إلا في حدود الكشف عن قلقها الوجودي العابر.
كاتب عراقي