موسى إبراهيم أبو رياش
صدرت حديثا رواية «بعد الحياة بخطوة» للروائي والباحث الأردني يحيى القيسي، في طبعتها الثانية، رقميا وورقيا عن منصة «ألف كتاب وكتاب» البريطانية، وهي رواية مختلفة، تقتحم بجرأة ميدانا غيبيا، اعتمادا على التخييل المطعم ببعض القناعات والرؤى، وخبرات من مروا بتجارب ذات علاقة. لا تتحدث الرواية عن يوم القيامة، أو ما بعد البعث والنشور، بل عن حياة البرزخ التي تقع بين الموت ويوم القيامة، وهي فترة زمنية طويلة جدا، وتتصور الرواية شكل الحياة في هذه الفترة الانتقالية، وتعتبر الموت انتقالا من حالة إلى حالة، وليس نهاية للكائن البشري أو موتا كاملا له.
تتحدى الرواية كثيرا من التصورات والمعتقدات والقناعات في قالب أدبي، يحتكم للإبداع وحرية الكاتب أن يتخيل ما يشاء، خاصة أن فترة البرزخ غامضة، والحديث في تفصيلاتها وما يجري فيها محدود جدا، ولذا؛ يحق للكاتب أن يحاول ملء هذه الفراغات حسب تصوراته وخياله الجامح، بما أنها لا تخالف الثوابت الدينية المتفق عليها، وهي في النهاية نص أدبي إبداعي يخضع للمعايير الأدبية لا غير.
اللغة والشكل الفني
تضمنت الرواية مجموعة من الفصول غير المعنونة أو المرقمة، وكل فصل يتضمن عدة مقاطع، واعتمدت على الراوي العليم الذي تسلم زمام الحكي على مدار الرواية، وأتاح الفرصة لبعض الأصوات أن تتحدث لمرة واحدة فقط، لتعرض تجربتها أو معلوماتها أو اهتماماتها مع الحياة بعد الموت أو قبيل الموت، واللافت أن القيسي لم يعطِ بطل الرواية أي فرصة للحديث، وأبقاه دون اسم، فلا حاجة له بالاسم ما دامت كل الرواية ناطقة عنه ومشغولة به وتشير إليه دون سواه. يسجل للكاتب توظيفه لتقنية سردية نادرة الاستخدام، سماها «الانثيالات»، حيث اعتمد على «جمل وعبارات قصيرة مكثفة جوهرية، في محاولة للقبض على ما يعتمل في رأس الشخصية من أفكار متشابكة، تحيل إلى لحظة ما، أو رائحة، أو زمن، أو موقف»، وهي نوع من التداعيات الحرة، وقد وظفها من قبل جيمس جويس في روايته «عولسيس». ويصفها القيسي: «بدتْ له حياته، وهي تمرّ أمامه كاملة من لحظة الولادة حتى غيبوبته اللذيذة، مثل فيلم تمّ تسريعه، لكنّه رآه كاملا دون نقصان». وقد جاءت هذه الانثيالات المتتابعة على شكل جمل قصيرة تتكون من كلمة وقد تصل إلى سبع كلمات، وكل منها يصلح لأن يكون عنوانا أو موضوعا لفقرة كاملة على الأقل، ولكن الكاتب اختصر الحكي؛ لأن هذه الانثيالات ليست موضوع الرواية، ولكنها تشكل أرضية وخلفية لها. ومن أمثلة هذه الانثيالات عند القيسي في «بعد الحياة بخطوة»: «نيتشه وديكارت وديستويفسكي. معطف غوغل وقميص زليخة. ساندويش فلافل وحمص ومقالي مع ميرندا. ماذا فعلت قبائل الهكسوس؟ أعطى شحاذا نصف دينار لأوّل مرّة. ربّى عشر حمامات على سطح المنزل. سيجارة «غولد ستار» على سبيل التجربة»، التي تحيل إلى مجموعة من القراءات والتجارب والأحداث، ومنها «اللامنتمي»، التي تشير إلى فترة هوس المثقفين بكتاب «اللامنتمي» لكولن ويلسون الذي اكتسب شهرة عالمية واسعة؛ كونه يعبر عن قلق المثقف وحيرته وشعوره بالعزلة والوحدة والاختلاف عن مجتمعه. وقد وظف الكاتب تقنية «الانثيالات» في ثلاثة مقاطع في الرواية، جاءت على شكل لقطات سريعة، أو عناوين، أو لافتات، لا تزيد في مجموعها عن خمس صفحات، ولكن تفصيلها يحتاج إلى مئات الصفحات، ولا شك في أنه نجح في إيصال المطلوب للقارئ بالمختصر المفيد دون إطالة أو إسهاب.
تميزت لغة الرواية بجمالها وشاعريتها ونداوتها، وجاءت عنصرا فاعلا يحسب للرواية، وعامل جذب للقارئ، بالإضافة إلى السرد السلس الممتع الفاتن، ونقل القارئ إلى عوالم غيبية بما فيها من إثارة ومتعة وروعة.
حياة البرزخ
انتقل بطل الرواية من الأرض التي نعيش عليها إلى أرض «الممر/ البرزخ»، ثم انتقل إلى أرض «المستقر»، وهذا «المستقر» هو دار النعيم لمن اجتازوا اختبار الأرض، فيها حياة راقية هانئة رغدة، وطبيعة خلابة، وعلاقات إنسانية حميمية، وأجواء هادئة ورائعة، وراحة نفسية وسكينة بلا حدود. ويتمتع ساكنو «المستقر» بوجوه مشرقة، وأجساد خفيفة تضج بالنور الخالص، ويمتلكون حواس فائقة، تغمرهم الغبطة والسعادة، أرضهم أعشاب عطرة، وقصورهم من الأحجار الكريمة، وعندهم من الأشجار المثمرة والنباتات، أصناف عجيبة. والتقى هناك بأخته مريم وأمه وجده علي وغيرهم، الذين توفوا من قبل، وحدثوه عن حياة «الممر والمستقر»، وأجابوا عن كثير من أسئلته، والحوار بينهم لا يتم بالكلام فقط، بل بالتخاطر، فبمجرد التفكير بسؤال ما كان يصل إلى الطرف المقابل فيجيب عنه، ولا يقتصر التخاطر على البشر، بل يشمل الشجر والحجر أيضا. ما يميز أرض «المستقر» أيضا، أن الحياة فيها مجانية، ويستأنف سكانها أعمالهم التي كانوا يمارسونها على الأرض، ومن كان عمله لا وجود له على «المستقر» يختار عملا آخر، وتصب هذه الأعمال في مصلحة رقي أرض «المستقر» ومنفعة أهل الأرض أيضا، ويتم نقل المعارف عن طريق الإيحاء لمن يثقون فيهم من علماء الأرض الذي لهم ذات الاهتمامات. وتذكر الرواية أن ساكني أرض «المستقر» السعيدة، لا يقتصرون على دين بعينه، بل إن بطل الرواية أصابه الذهول مما رأى؛ «فقد رأى رجالا ونساء من ديانات كثيرة، وآخرين ممن لا يؤمنون بدين أصلا، وقد فتحت لهم البوابات، ومنحوا هذه الفرصة الذهبية. بينما كثير من الرجال والنساء الذين عرف بعضهم عن قرب، وحسبهم من المتّقين الأجلّاء ذوي العبادات الدائمة، والتقيد بالتعاليم والسنن والطقوس، لم يرهم هنا!»؛ فالمعايير مختلفة، وحقيقة الباطن هي المقياس، وليس الظاهر المخادع؛ ولذا؛ «حضرت إلى ذهنه صور بعض الشخصيات التي عرفها من الأقرباء والأصدقاء في حياته الأرضية، وبعض الشخصيات العامّة التي رحلت في الماضي، وكيف لم يتعرّف إليها هنا. بعضهم كان يُعدّ من الذين يوزعون على الناس شهادات التقوى، ويفرز بين المقامات العليا أو الدنيا. عجب لأنّ مقام بعضهم قد يكون في أرض «الحضيض»، وقد التقى في أرض «المستقر» بالعقاد، وسمع لأم كلثوم مباشرة، وعرف أن فيها «أبو الطيب المتنبي، وشكسبير، وبيتهوفن، وليوناردو دافنشي، والحلاّج، والرومي.. وغيرهم الكثير».
في زيارة خاصة مع جده لأرض «الحضيض» المخصصة للأرواح الدونية، والنفوس الخبيثة، رأى عالما على النقيض من أرض «المستقر»، فقد رأى «أرضا تبدو مِلحية جرداء وصلدة، تشبه أرض البراكين المحروقة، لا أثر للمزروعات فيها ما عدا بعض النباتات الشوكية هنا وهناك. بينما تتناثر الصخور السوداء بقطع مختلفة الأحجام، ما يجعل المسير عليها أمرا مزعجا. ظهرت له الأجواء مكفهرة، تهيمن عليها الكآبة، إضافة إلى انتشار روائح كبريتية عطنة تعافها النفس. غير بعيد عنهما بان تجمعٌ كبير من الأكواخ المتداعية، وشاهد لأول مرة بشريا منحني الظهر، وقميء المظهر يكاد يزحف. حين دقّق أكثر واقترب رأى آخرين من الرجال والنساء يعيشون في هذه الأرض الكالحة بشعر أشعث، وأسمال مهترئة، وحركات ثقيلة، يتبادلون الكلام مع بعضهم الذي يشبه الصراخ المخلوط باللعنات والشتائم! وكان لوم بعضهم بعضا، والندم المتواصل هو العقاب الأبرز لهم». وقد رأى نماذج مختلفة من أهل الحضيض، من مرتكبي الجرائم الظاهرة والظلم والفساد، وشملت أيضا أهل الكبر والبخل والنفاق والكسل والأنانية والحيادية السلبية وغيرهم كثير، وقد عرف أسماء الكثيرين، ومنهم… ولكن جده أخذ عليه عهدا أن لا يذكر أسماءهم لأحد.
وعندما انتهت زيارته لأرض «المستقر»، كُلِّفَ بمهمة جليلة وهي «بثّ الأمل بين الناس بوجود هذا العالم الحقيقي، وأنّ الموت في حقيقته انتقال لحياة أخرى، وليس فناء، كما يظن كثير من البشر الذين طغت عليهم الحياة المادية، وأصبح الإيمان بمواصلة الحياة ضربا من الخيال، أو الأمل الخادع»، ومع أنه حاول التشبث بالبقاء، لكنه لم يستطع، وعاد إلى الأرض مُكرها، ينتظر لحظة عودته الأبدية إلى أرض «المستقر»، وأرض «الأنوار» التي تفوقها في كل شيء، وأرض «ممالك الأفلاك الدائرة» الأرقى، وأرض «المشتهى» الأكثر رقيا وسموا.
محاولات أرضية
تحظى «الحياة بعد الموت»، بما تحمله من إثارة وغموض، باهتمام الكثيرين أفرادا وجماعات، في محاولة لمعرفة كنه الحياة بعد الموت، خاصة في المرحلة الأولى بعد مغادرة الروح للجسد، وثمة تجارب كثيرة متداولة ومنشورة، بعضها حقيقي وأغلبها متخيل. وهذه المحاولات والاهتمامات رغبات مشروعة، تعبر عن توق البشر وشغفهم لمعرفة الغيب، خاصة الغيب المجهول الذي ينتظرهم، ويستوي في هذه المحاولات من يؤمن بالحياة بعد الموت مع غيرهم، ولكنها لمن يؤمن أكثر طلبا وإلحاحا، فالكتب السماوية وما يقاربها تحدثت باستفاضة عن الجنة والنار، ولكن حياة «البرزخ» غامضة، وما ذكر عنها لا يُشبع الفضول.
وبعد؛ فإن «بعد الحياة بخطوة» ليحيى القيسي، رواية مختلفة، تحمل رؤية إشكالية، وذات بعد إنساني غير إقصائي أو متطرف، ولا تحتكر النعيم لأحد، ولا تمنعه عن أحد لأسباب دينية أو جغرافية أو عرقية أو طبقية، وهي تحمل رؤية مختلفة عن السائد، ولا تصادمه في الوقت ذاته؛ فهي تُعلي من شأن القيم الإنسانية، وخدمة البشرية، ونظافة القلب والصدر، وأنها السبيل للارتقاء والسعادة بعد الموت، والتنعم بحياة هانئة جميلة دون حدود، وغير ذلك سيؤدي إلى الشقاء الدائم والعيش في غم وبؤس وكآبة وعذاب مقيم. والرواية في الحقيقة، تدعو إلى التمسك بالقيم الإنسانية النبيلة، والالتزام بالأخلاق الحميدة، وإشاعة الروح الإيجابية، والتعايش بمحبة وتسامح، ونبذ السوء والشر وأسبابه، لأن من شأن ذلك أن يجعل من أي بقعة أرضية في حياتنا الدنيوية جنة حقيقية، تنعم بالرقي والسعادة، فيجب أن لا ننتظر الموت لنعيش في جنات، بل نستطيع أن نصنع جنتنا الخاصة على أكثر من مستوى، وأقلها المستوى الفردي والأسري.
كاتب أردني