أنْهار

2024-02-06

سلمان زين الدين

لا يَسْتَحِمُّ المَرْءُ في النَّهْرِ الواحِدِ مَرَّتَيْن.

هيرقليطس

نَهْرُكَ الهارِبُ مِنْ يَنْبوعِهِ

نَحْوَ مَصَبٍّ آمِنٍ في بَحْرِهِ

لا يَسْتَحِمُّ المَرْءُ فيهِ مَرَّتَيْنْ.

هُوَ مَحْكومٌ بِحُكْمٍ مُبْرَمٍ

لا يَقْبَل النَّقْضَ وَيَقْضي،

يا هِرَقْليطُسُ، أنْ تَجْري عَلَيْهِ

شِرْعَةُ التَّغْييرِ دَوْرِيّا،

وَأنْ يَبْقى بِمَنْأى عَنْ

رُكودِ الماءِ بَيْنَ الضِّفَّتَيْنْ

بَيْنَما أنْهارُنا تَعْصى على التَّغْييرِ

حَتّى يَسْتَحِمَّ المَرْءُ آلافاً

مِنَ المَرّاتِ فيها،

فَلِماذا، يا هِرَقْليطُسُ، لا

يَجْري على أنْهارِنا الحُكْمُ

الَّذي يَجْري على نَهْرِكَ،

مُذْ فَرَّ مِنَ اليَنْبوعِ في

ذاتِ صَباحٍ أوْ مَساءٍ

طاعِنٍ في سِنِّهِ،

كَيْ يُدْرِكَ البَحْرَ الَّذي يُلْقي

عَصا تَرْحالِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ،

عَلَّهُ يَحْظى بِفِرْدَوْسِ الأمان

وَلِماذا تَضْرِبُ الأنْهارُ

في صَحْرائِنا العَطْشى

وَلا تَقْوى على تَحْقيقِ ما تَهْوى

مِنَ التَّخْصيبِ وَالسُّقْيا،

وَلا تَقْوى على التَّيْميمِ شَطْرَ

البَحْرِ كَيْ تَسْقِيَهُ مِنْ

مائِها العَذْبِ الزُّلالْ

بَيْنَما نَهْرُكَ، مُنْذُ البَدْءِ، مَفْطورٌ

عَلى تَحْقيقِ ما يَهْوى، وَمَسْكونٌ

بِهَمِّ الضَّرْبِ في الأرْضِ

وَتَرْويضِ المُحال

٭ ٭ ٭

مِنْ زَمانٍ مُوْغِلٍ في دَهْرِهِ

كانَتْ، على أرْسالِها، الأنْهارُ تَمْضي،

تُوْقِظُ الأحْواضَ مِنْ نَوْمِ الكُهوفْ.

وَإذا في كُلِّ حَوْضٍ

تَنْبَري أنْدَلُسٌ تَتْلو

على الدُّنْيا مَزاميرَ الحُروفْ

فَلِماذا، يا هِرَقْليطُسُ، تَعْصى

شِرْعَةَ التَّغْييرِ أنْهارُ العَرَبْ

بَعْدَما كانَتْ قَديماً،

تُشْعِلُ الكَوْنَ بِأعْراسِ المَطَر

وَلِماذا لم تَعُدْ ناياتُها تُفْضي

إلى الرِّيحِ بِأسْرارِ القَصَبْ،

فَتَروحُ الرِّيحُ تَذْروها على

أرْصِفَةِ الدُّنْيا كَأوْراقِ الشَّجَر

٭ ٭ ٭

مِنْ زَمانٍ،

أقْلَعَتْ أنْهارُهمْ عَنْ عادَةِ

العَزْفِ عَلى أوْتارِها بَيْنَ

اليَنابيعِ الخَوابي وَالمَصَبّاتِ البِحارْ

لمْ تَعُدْ تَشْغَلُها العَوْدَةُ لِلْأرْضِ

الَّتي نامَتْ طَويلًا في خَوابيها

وَلا التَّيْميمُ شَطْرَ البَحرِ

وَالتَّفْكيرُ في خَوْضِ الغِمارْ

وَغَدَتْ مُسْتنْقَعات

حَسْبُها مِنْ هَذِهِ الدُّنْيا

اجْتِرارُ الماءِ يوميّا

وَتَأبيدُ المَكان

يا هِرَقْليطُس

هَلْ مِنْ وَصْفَةٍ سِحْرِيَّةٍ

تُرْجِعُ للأنْهارِ ما اعْتادَتْ

مِنَ النَّسْجِ على مِنْوالِها

عبر الزمان؟

٭ ٭ ٭

يا هِرَقْليطُسُ عُذْراً

إنْ تَجَرَّأتُ على سَبْرِ فَضائِك

فَأنا قَدْ ضِقْتُ ذَرْعًا بِفَضائي،

وَأنا يُوْجِعُني، يا سَيِّدي، أنَّ

بِلادي خارِجَ العَصْرِ،

فَلا أنْهارُها العَطْشى

تُرَوّي ظَمَأَ الصَّحْرا،

وَلا أحْواضُها الصُّمّان

تُصْغي إلى صَوْتِ نِدائِكْ

وَأنا، يا سَيِّدي، أحْلُمُ أنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ

تَرْجِعُ الأنْهارُ عَنْ عِصْيانِها فيهِ،

وَتَحْذو حَذْوَ نَهْرٍ هارِبٍ

مِنْ نَبْعِهِ نَحْوَ سَمائِكْ

هَلْ تُرى يُبْصِرُ حُلْمي نُوْرَهُ في

غَيْهَبِ اللَّيْلِ الَّذي يُخْفي إنائي؟

في يَقيني ذَلِكَ اليَوْمُ سَيَأْتي

عاجِلًا أوْ آجِلًا، يا سَيِّدي، كَيْ

يُشْعِلَ الأعْراسَ بَيْنَ الضِّفَّتَيْنْ.

عَنْدَها لَنْ يَسْتَحِمَّ المَرْءُ مِنّا

في مِياهِ النَّهْرِ إلّا مَرَّةً واحِدَةً،

لا مَرَّتَيْنْ

شاعر لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي